فأما المتكلمون فجماعة تسلم بما جاء به الدين من نصوص، وكل ما عليها هو أن تستخلص من هذه الأصول المسلم بها ما يمكن استخلاصه من نتائج منطقية؛ وإذن فأقصى ما يمكن أن يبلغوه هو أن يبينوا للمخطئ في فهم تلك الأصول الدينية خطأه؛ بأن يدلوه على مواضع انحرافه في استدلال النتائج من المقدمات المسلم بها، لكن لنفرض أن شاكا قد تشكك في صدق المقدمات نفسها، فعندئذ لا تكون أمام المتكلمين حيلة فيه؛ لأنه خرج على النطاق الذي ألزموا أنفسهم بالتحرك في حدوده ؛ وبذلك يصبح منطقهم العقلي كله لا غناء فيه لرجل - كالإمام الغزالي نفسه - أخذه القلق حينا: كيف يستطيع أن يقيم إيمانه بالله على أساس يطمئن إليه.
وأما الفلاسفة فهم كذلك فريق من المفكرين أراد أن يستخدم منطق العقل في البرهنة على وجود الله، فما معنى «برهان»؟ معناه أن تجد للقضية التي تريد إقامة البرهان على صدقها قضية أخرى أعم منها، وتكون لها بمثابة المقدمة التي يلزم عنها بالضرورة تلك القضية المراد إقامة البرهان عليها؛ فمثلا إذا أردت البرهان على أن فردا من الناس سيلحق به الموت، كان البرهان هو القضية الأعم الأشمل، وهي أن كل إنسان سيلحق به الموت، وما دام الأمر كذلك فكيف يمكن أن تقيم البرهان العقلي على وجود الله إذا لم يكن هنالك ما هو أعم منه ولا أشمل؟ إقامة البرهان تكون بإيجاد المقدمات التي تنتج النتيجة المطلوب إقامة البرهان عليها، والله ليس نتيجة لمقدمات سبقته؛ وإذن فالبرهان العقلي على وجوده محال.
هذا إلى أن الفلاسفة في محاولة البرهنة على وجود الله يلجئون إلى ما يسمونه علة أولى، وشرح ذلك أنهم يسلمون أولا بمبدأ السببية بين الأشياء والحوادث، أي أنهم يسلمون أولا بأن لكل شيء سببا، فإذا أخذت شيئا ما كوجود فرد معين من الناس، وسألت نفسك: ماذا سبب وجوده؟ ثم ماذا كان سببا في السبب؟ وهكذا، فإنك تعود بسلسلة الأسباب حلقة وراء حلقة حتى تنتهي حتما إلى سبب أول هو الله. وعندهم أن ذلك برهان كاف على وجود الله؛ لأنك لا تستطيع بعد ذلك أن تسأل قائلا: وما السبب في وجود الله؟ ذلك لأنك لو فعلت ذلك فستمضي في سلسلة لا تنتهي أبدا، وهذا - في رأيهم - موقف لا يقره العقل، فلا بد من الوقوف عند حلقة أولى تكون هي العلة الأولى لكل شيء بعدها، ولا تكون هي نفسها معلولة لشيء قبلها، وهذه العلة هي الله.
لكن ماذا لو شككنا في مبدأ السببية ذاته؟ وانظر إلى هذا الإمام الغزالي العظيم يسبق في هذه النقطة «ديفد هيوم» (وقد أسلفنا لك شرح وجهة نظره في مبدأ السببية في الفصل الرابع) يسبقه بما يقرب من سبعة قرون. يوجه الغزالي سؤاله إلى الفلاسفة الذين يبرهنون على وجود الله بمبدأ السببية فيقول: ماذا يبرر أن نسلم بهذا المبدأ كأنه بديهية واضحة بذاتها لا تحتاج إلى جدل؟ إننا لا نلحظ في مجرى الأشياء إلا حالة تتبعها حالة أخرى، وشيئا يتبعه شيء آخر، أما أن يكون في هذا التتابع الملحوظ «سببية» تجعل المسبب محتوما عليه أن يتبع سببه فذلك افتراض لا يلزم بالضرورة، ليس العقل وبراهينه إذن بكاف لبعث الطمأنينة فيمن أراد أن يطمئن إلى إيمانه بوجود الله، فكيف تكون السبيل إلى ذلك؟ يكون «بالحدس» أي بالعيان المباشر لذاتك، فإذا عرفت نفسك عرفت الله، فانظر إلى نفسك من الداخل، انظر إليها إذ أنت تهم بفعل كأن ترفع ذراعك مثلا أو أن تخطو بقدمك، انظر إليها وأنت بصدد «إرادة» تهم بتنفيذها وتحويلها إلى فعل. لا تنظر إلى نفسك وهي تفكر؛ لأن تفكير العقل - كما رأينا - لا ينتهي بنا إلى النتيجة المطلوبة، بل انظر إليها كائنا مريدا تجدها وجودا لا شك فيه. لا حاجة بك إلى حواس ولا حاجة بك إلى عقل لتعلم أنك موجود، كل ما أنت بحاجة إليه لتعلم بوجودك هو أن تريد شيئا وتفعله. ولو جاز لنا أن نقارن الغزالي بديكارت من حيث نقطة الابتداء؛ لقلنا: إن ديكارت قد جعل نقطة الابتداء هي إثبات وجود نفسه على أساس أنه يفكر: «أنا أفكر، إذن فأنا موجود»، وأما الغزالي فقد جعل نقطة الابتداء هي إثبات وجود نفسه على أساس أنه يريد، فكأنما يقول: «أنا أريد، إذن فأنا موجود». وكيف أعرف أني أريد؟ لست أعرف ذلك عن طريق الحواس؛ لأني لا أرى شيئا ولا أسمع شيئا. ولست أعرف ذلك عن طريق العقل؛ لأني لم أستنتج نتيجة من مقدماتها، بل إني أعرف ذلك؛ لأني أدركه في نفسي إدراكا مباشرا.
والله مريد لأنه خالق والخلق فعل، ولما كان الإنسان كائنا مريدا فهو في ممارسته لإرادته فيما يقوم به من أفعال إرادية يكون من الله بمثابة الصورة الصغرى، فروح الإنسان في سيطرتها على الجسد بالإرادة شبيهة بالله في سلطانه على الكون الذي خلقه، فإذا أردت أن تعرف الله خالقا فانظر إلى نفسك مريدا.
وبأنواع من رياضة النفس على تحررها من قيود الجسد ورغباته، يستطيع الإنسان - كما يقول المتصوفة - أن يسمو روحه حتى يشهد الحق (الله) شهودا مباشرا، بحيث لا تكون به حاجة إلى برهان عقلي على وجوده. إن الصوفي ليشهد الله أوضح شهود في نفسه؛ لأن نفسه وإن لم تكن نظيرة الله فهي شبيهة به وصورة له. وأسعد ما يسعد النفس الإنسانية هو أن تبلغ من الله منزلة الشهود المباشر الذي يفنيها فيه، بحيث يصبح العارف والمعروف حقيقة واحدة.
ويجعل المتصوفة الحواس والعقل والحدس ثلاث درجات تتفاوت صعودا من حيث درجة يقين المعرفة التي تأتي عن طريقها؛ فالمعرفة عن طريق الحواس أدناها مرتبة، والمعرفة عن طريق العقل وسطاها، والمعرفة عن طريق الحدس أعلاها، وفيها يكون اليقين الكامل؛ المعرفة عن طريق الحواس هي معرفة العامة التي تستند إلى المشاهدة الحسية الجزئية يقومون بها هم بأنفسهم أو ينبئهم بها من يثقون في صدقه. والمعرفة عن طريق العقل مرحلة أعلى؛ لأنها تقوم على الاستدلال الذي تلزم فيه النتيجة عن مقدماتها لزوما ضروريا؛ فعندئذ لا تتعرض النتيجة لكل ما تتعرض له المشاهدة الحسية من خطأ، وأما المعرفة عن طريق الحدس فهي الحق يشهده العارفون مباشرة بغير حجاب.
الباب الثالث
إمكان المعرفة وحدودها
الفصل الثامن
अज्ञात पृष्ठ