فلما كان بعد أيام أتتني عجوز، وقالت: يا سري، في جهة كذا غلام يسألك الحضور، فمضيت، فإذا أنا به مطروح على الأرض وتحت رأسه لبنة، فسلمت عليه ففتح عينيه وقال: يا سري، ترى يغفر لي الله تلك الجنايات؟ فقلت: نعم، قال: أيغفر للذين مثلي؟ قلت: نعم، قال: أنا غريق، قلت: هو ملجأ الغرقى، قال: يا سري يوجد معي دراهم من لقط النوى، إذا أنا مت فاشتر أنت ما أحتاج إليه وكفني ولا تعلم أهلي لئلا يغيروا كفني بحرام، فجلست عنه قليلا، ففتح عينيه، وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، ثم مات.
فأخذت الدراهم واشتريت مما يحتاج إليه وسرت نحوه، فإذا الناس يدعون فقلت: ما الخبر؟ فقيل: مات ولي من أولياء الله، نريد أن نصلي عليه، فجئت وغسلته وصلينا عليه ودفناه، فلما كان بعد مدة وفد أهله يسألون خبره، فأخبرتهم بموته، ورأيت امرأته فأخبرتها بحاله، فسألتني أن أريها قبره، فقلت: أخاف أن تغيروا أكفانه، فقالت: لا والله، فأريتها القبر وبكت وأمرت بإحضار شاهدين فحضرا فأعتقت جواريها وأوقفت عقارها وتصدقت بمالها ولزمت قبره حتى ماتت.
أصحاب القبور
قال صدفة بن مرداس البكري: نظرت إلى ثلاثة قبور على مشرف من الأرض مما يلي بلاد طرابلس، وعلى كل واحد منها شيء مكتوب، وإذا هي قبور مسنمة على قدر واحد مصطفة بعضها إلى جنب بعض ليس عندها غيرها، فعجبت منها ونزلت إلى القرية القريبة منها، فقلت لشيخ جلست إليه: لقد رأيت في قريتكم عجبا، قال: وما رأيت؟ فقصصت عليه قصة القبور، قال: فحديثهم أعجب مما رأيت، فقلت: حدثني بأمره ، قال: كانوا ثلاثة إخوة، أحدهم أميرا كان يصحب السلطان ويأمر على المدائن والجيوش، والثاني تاجرا موسرا مطاعا في ناحيته، والثالث زاهدا قد تخلى بنفسه وتفرد لعبادة ربه، فحضرت المنية أخاهم العابد، فاجتمع عند أخواه، وكان الذي يصحب السلطان قد ولي بلادنا هنا، وكان قد أمره عليها عبد الملك بن مروان وكان في إمرته ظالما غشوما، فلما حضرا عند أخيهما قالا له: ألا توصي؟ قال: والله ما لي مال أوصي به، ولا لي على أحد دين فأوصي به، ولا أخلف من الدنيا شيئا فأسلبه، فقال له أخوه الأمير: يا أخي، قل ما بدا لك وما تشتهيه أن يفعل، فهذا مالي بين يديك فأوص منه بما أحببت واعهد إلي بما شئت لأفعله، فسكت عنه ولم يجبه، فقال أخوه التاجر: يا أخي، قد عرفت مكسبي وكثرة مالي، فلعل في قلبك حاجة من الخير لم تبلغها إلا بالاتفاق، فهذا مالي بين يديك فاحكم فيه بما أحببت لأنفذه لك، فأقبل عليهما وقال: لا حاجة لي في مالكما، ولكن أعهد إليكما عهدا فلا يخالفني فيه أحد، قالا: اعهد، قال: إذا مت فغسلاني وادفناني على مشرف من الأرض واكتبا على قبري هذا الشعر:
وكيف يلذ العيش من هو عالم
بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منه ظلمه لعباده
ويجزيه بالخير الذي هو فاعله
ثم قال: فإذا فعلتما ذلك فأتياني كل يوم مرة على ثلاثة أيام متوالية لعلكما تتعظان بي.
فلما مات فعلا ذلك، فكان أخوه الأمير يركب كل يوم في جنده حتى يقف على القبر فيقرأ ما تيسر ويبكي، فلما كان في اليوم الثالث جاء كما كان يجيء مع جنده فنزل وبكى، ولما أراد الانصراف سمع أنة من داخل القبر كاد يتصدع لها قلبه، فقام مذعورا فزعا، فلما كان في الليل رأى أخاه في منامه فقال: يا أخي، ما الذي سمعته من داخل قبرك؟ فأجاب: أخبرت أنك رأيت مظلوما فلم تنصره ولكن استعد لملاقاتي، قال فأصبح مهموما، ودعا أخاه وخاصته وقال: ما أرى أن أخي أراد بما أوصانا أن نكتبه على قبره غيري، وإني أشهدكم أني لا أقيم بين أظهركم، وترك الإمارة ولزم العبادة، فكتب أصحاب عبد الملك بن مروان إليه في ذلك فكتب أن خلوه وما أراد، فصار يأوي الجبال إلى أن حضرته الوفاة في الجبل وهو مع الرعاة، فبلغ ذلك أخاه، فأتاه وقال: يا أخي، ألا توصي؟ فقال: مالي من مال فأوصي به، ولكن أعهد إليك عهدا: إذا أنا مت وجهزتني فادفنني بجانب أخي واكتب على قبري هذين البيتين:
अज्ञात पृष्ठ