كم جاهل في الثريا
وعالم متخفي
وعزم الصانع على أنه إن ظهرت الأبيات للمعلم شرح له ما عنده، وإن غم عليه ولم يرها كان ذلك سبب توصله إلى الملك، ثم لفهما في قطن وناولهما للمعلم فرأى ظاهرهما ولم ير باطنهما لجهله بالصنعة، ولما سبق له في القضاء فأخذهما المعلم ومضى بهما فرحا إلى الملك وقدمهما إليه، فلم يشك في أنهما صنعته فخلع عليه وشكره، ثم جاء فجلس مكانه ولم يلتفت إلى الصانع وما زاده في آخر النهار شيئا عن الدرهمين، فلما كان اليوم الثاني خلا خاطر الملك فاستحضر الحظية التي عمل لها السوارين الذهب، فحضرت وهما في يديها فأخذهما ليعيد نظره فيهما وفي حسن صنعتهما، فقرأ الأبيات فتعجب وقال: هذا شرح حال صانعهما والمعلم يكذب، فغضب عند ذلك وأمر بإحضار المعلم، فلما حضر قال له: من عمل هذين السوارين، قال: أنا أيها الملك، قال فما سبب نقش هذه الأبيات، قال: لم يكن عليهما أبيات، قال: كذبت ثم أراه النقش، وقال: إن لم تصدقني الحق لأضربن عنقك، فأصدقه الحق، فأمر الملك بإحضار الصانع، فلما حضر سأله عن حاله فحكى له قصته وما جرى له مع المعلم، فرسم الملك بعزل المعلم وأن تسلب نعمته وتعطى للصانع وأن يكون عوضا عنه في الخدمة، ثم خلع عليه خلعة سنية وصار مقدما سعيدا، فلما نال هذه الدرجة وتمكن عن الملك تلطف به حتى رضي عن المعلم الأول وصارا شريكين ومكثا على ذلك إلى آخر العمر.
إحسان كريم إلى عدوه
كان بين غسان بن عباد وبين علي بن موسى عداوة عظيمة، وكان علي بن موسى ضامنا أعمال خراج كضياع وغيره، فبقيت عليه بقية مقدار أربعين ألف دينار، فألح عليه المأمون بطلبها وشدد بها إلى أن قال لعلي بن صالح حاجبه، أمهله ثلاثة أيام فإن أحضر المال وإلا فاضربه بالسياط حتى يدفع المال أو يتلف، فانصرف علي بن موسى من دار المأمون وقد ارتاع وهو لا يعرف وجها يتجه إليه، فقال له كاتبه: إذا عرجت على غسان بن عباد وعرفته خبرك رجوت أن يعينك على أمرك، فقال له: إن بيني وبينه من العداوة ما عرفت، فقال له: نعم، ولكن الرجل ريحي كريم لا تمنعه العداوة التي بينكما عن فعل المعروف الذي هو من شيم الكرام، فقام علي بن موسى ومضى إلى أن جاء ودخل مع كاتبه على غسان بن عباد، فلما رآه غسان قام إليه وتلقاه جميلا ووفاه حقه في الخدمة، وقال له: دع الأمر الذي بيني وبينك على حاله ولكن دخولك إلى داري توجب حرمته بلوغ ما رجوته مني، فاذكر إن كان لك حاجة، فقص كاتبه عليه القصة، فقال له غسان: أرجو أن يكفيك الله تعالى حقيقة أمرك، ولم يزد على ذلك شيئا ، فقام علي بن موسى من عنده وهو نادم على قصده غسان، ويئس من أمره وقال لكاتبه ما أفدتني بدخولي على غسان سوى تعجيل الشماتة والهوان، فلم يصل علي بن موسى إلى داره حتى حضر إليه كاتب غسان ومعه البغال وعليها المال، فتقدم علي بن موسى وتسلمه وبات فرحا مسرورا، وعند الصباح بكر إلى دار أمير المؤمنين ليدفع المال، فوجد غسان قد سبقه هناك ودخل على المأمون وقال له: يا أمير المؤمنين، إن لعلي بن موسى بحضرتك حرمة وخدمة وسابق أصل، وقد لحقه من الخسران في ضمانه ما تعارفه الناس، وقد توعدته من الضرب بالسياط ما أطار عقله وأذهب لبه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجزيني من حسن كرمه ببعض ما عليه فهي صنيعة بي من إحسانه، ولم يزل يتلطف بالمأمون حتى حط عنه نصف ما عليه واقتصر منه بالنصف عشرين ألف دينار، فقال غسان للمأمون: سمعا وطاعة، ولكن على أن يجدد أمير المؤمنين له الضمان ويخلع عليه لكي تقوى نفسه ويعرف بها مكان الرضى عليه من أمير المؤمنين أبقاه الله، فأجاب المأمون إلى ذلك، فقال له غسان: إن شاء أمير المؤمنين فلتحمل الدواة إلى حضرته لتوقيع ما سمح به فيما قال، قال: افعل فحملت الدواة إلى المأمون وقدمها عنان له فوقع حينئذ لعلي بن موسى، وخرج علي بن موسى والخلع على كتفيه والتوقيع بيده، فلما حضر إلى داره حمل من المال عشرين ألف دينار وأرسلها إلى غسان وشكره على جميل فعله، فقال غسان لكاتبه: والله ما شفعت به عند أمير المؤمنين إلا لتتوفر عليه العشرون ألف دينار وينتفع بها هو، فامض بها إليه وردها فلست والله آخذها فهي له، فلما رجع الكاتب إلى علي بن موسى مولاه وبلغه ما قال، عرف عند ذلك قدر ما فعله غسان من الجميل، ولم يزل يخدمه ويوقره إلى آخر العمر.
الأصمعي وأحد الكرماء
حكى الأصمعي قال: قصدت في بعض الأيام رجلا كنت آتيه أحيانا كثيرة لكرمه وجوده، فلما أتيت داره وجدت على بابه بوابا فمنعني من الدخول إليه وقال لي: والله يا أصمعي ما أوقفني على بابه لأمنع مثلك إلا لرقة حاله وقصور يده وما هو فيه من الضيق، فقلت له: أريد أن أكتب له رقعة أتوصلها إليه، فقال: سمعا وطاعة، فأحضر لي قرطاسا وقلما ودواة فأخذت وكتبت له شعرا:
إذا كان الكريم له حجاب
فما فضل الكريم على اللئيم
ثم طويت الرقعة ودفعتها إلى الحاجب وقلت له: أوصل هذه الرقعة إليه، ففعل ومضى بالرقعة قليلا ثم عاد إلي بالرقعة عينها، وقد كتب تحت شعري جوابا شعرا:
अज्ञात पृष्ठ