ولما طال الوقت، قلت: يا أمير المؤمنين ما الذي يوقفك سر بنا، فقال: والله لا أبرح حتى أراها قد صبت للصبية فأكلوا واكتفوا، فوقفنا وقد طال وقوفنا جدا ومللنا المكان خوفا من أن تستريب بنا العيون، والصبية لا يزالون يصرخون ويبكون والعجوز تقول لهم مقالتها: «رويدا رويدا بني قليلا ينضج الطعام فتأكلون»، فقال لي عمر: ادخل بنا عندها نسألها فدخل ودخلت وراءه، فقال لها: السلام عليك يا خالة، فردت عليه السلام أحسن رد، فقال: ما بال هؤلاء الصبية يتصارخون ويبكون؟ فقالت له: لما هم فيه من الجوع، فقال لها: ولم لم تطعميهم مما في القدر، فقالت له: وماذا في القدر لأطعمهم؟ ليس هو إلا علالة فقط إلى أن يضجروا من العويل فيغلبهم النوم، وليس لي شيء لأطعمهم، فتقدم عمر إلى القدر ونظرها، فإذا فيها حصى وعليها الماء يغلى فتعجب من ذلك وقال لها: ما المراد بذلك، فقالت: أوهمهم أن فيها شيئا يطبخ فيؤكل فأعللهم به حتى إذا ضجروا وغلب النوم عيونهم ناموا، فقال لها: ولماذا أنت هكذا؟ فقالت له: أنا مقطوعة لا أخ لي ولا زوج ولا قرابة، فقال لها : لم لم تعرضي أمرك على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فيجعل لك شيئا من بيت المال، فقالت له: لا حيا الله عمر ونكس أعلامه والله إنه ظلمني.
فلما سمع مقالتها ارتاع من ذلك وقال لها: يا خالة بماذا ظلمك عمر بن الخطاب، قالت له: نعم والله ظلمنا، إن الراعي عليه أن يفتش عن كل حال من رعيته لعله يوجد فيها من هو مثلي ضيق اليد كثير الصبية ولا معين ولا مساعد له فيتولى لوازمه، ويسمح له من بيت المال بما يقوته وعياله أو صبيته، فقال لها: ومن يعلم عمر بحالك وما أنت به من الفاقة مع كثرة الصبية؟ كان يجب عليك أن تتقدمي وتعلميه، فقالت: لا والله إن الراعي الحر يجب عليه أن يفتش عن احتياجات رعيته خصوصا وعموما، فلعل ذلك الشخص الفقير الحال الضيق اليد غلبه حياؤه ومنعه من التقدم إلى راعيه ليعلمه بحاله، فعلى عمر السؤال عن حال فقراء رعيته أكثر من تقدم الفقير إلى مولاه لإعلامه بحاله، والراعي الحر إذا أهمل ذلك فيكون هذا ظلما منه، وهذه سنة الله ومن تعداها فقد ظلم، فعند ذلك، قال لها عمر: صدقت يا خالة ولكن عللي الصبية والساعة آتيك.
ثم خرج وخرجت معه وكان قد بقي من الليل ثلثه الأخير، فمشينا والكلاب تنبحنا وأنا أطردها وأذبها عني وعنه إلى أن انتهينا إلى بيت الذخيرة، ففتحه وحده ودخله وأمرني فدخلت معه فنظر يمينا وشمالا فعمد إلى كيس من الدقيق يحتوي على مائة رطل وينيف، فقال لي: يا عباس حول على كتفي، فحملته إياه، ثم قال لي: احمل أنت هاتيك جرة السمن، وأشار إلى جرة هناك، فحملتها وخرجنا، وأقفل الباب وسرنا وقد انهار من الدقيق على لحيته وعينيه وجنبيه فمشينا إلى أن أنصفنا، وقد أتعبه الحمل لأن المكان كان بعيد مسافة، فعرضت نفسي عليه وقلت له: بأبي وأمي يا أمير المؤمنين حول الكيس عنك ودعني أحمله، فقال: لا والله أنت لا تحمل عني جرائمي وظلمي يوم الدين، واعلم يا عباس أن حمل جبال الحديد وثقلها خير من حمل ظلامة كبرت أو صغرت ولا سيما هذه العجوز تعلل أولادها بالحصى، يا له من ذنب عظيم عند الله، سر بنا وأسرع يا عباس قبل أن تضجر الصبية من العويل فيناموا كما قالت.
فسار وأسرع وأنا معه وهو يلهث من التعب إلى أن وصلنا خيمة العجوز، فعند ذلك حول كيس الدقيق عن كتفه ووضعت جرة السمن أمامه، فتقدم هو بذاته وأخذ القدر وأكب ما فيها ووضع فيها السمن وجعل بجانبه الدقيق ثم نظر فإذا النار قد كادت تطفأ، فقال للعجوز: أعندك حطب، قالت: نعم يا بني، وأشارت له إليه، فقام وجاء بقليل منه، وكان الحطب أخضر فوضع منه في النار ووضع القدر على الأثافي وجعل ينكس رأسه إلى الأرض وينفخ بفمه تحت القدر، فوالله إني رأيت دخان الحطب يتصاعد من خلال لحيته وقد كنس بها الأرض، إذ كان يطأطئ رأسه ليتمكن من النفخ، ولم يزل هكذا حتى اشتعلت النار وذاب السمن وابتدأ غليانه فجعل يحرك السمن بعود في يده الواحدة ويخلط من الدقيق مع السمن في يده الأخرى إلى أن أنضج والصبية حوله يتصارخون، فلما طاب الطعام طلب من العجوز إناء فأتته به فجعل يصب الطبيخ في الإناء وهو ينفخه بفمه ليبرده ويلقم الصغار، ولم يزل يفعل هكذا معهم واحدا بعد واحد حتى أتى جميعهم وشبعوا واكتفوا وقاموا يلعبون ويضحكون مع بعضهم إلى أن غلب عليهم النوم فناموا، فالتفت عمر عند ذلك إلى العجوز، وقال لها: يا خالة أنا من قرابة أمير المؤمنين عمر وسأذكر له حالك، فآتيني غدا صباحا في دار الأمان فتجديني هناك فأرجي خيرا، ثم ودعها وخرج وخرجت معه فقال لي: يا عباس إني حين رأيت العجوز تعلل صبيانها بحصى حسست أن الجبال قد زلزلت واستقرت على ظهري حتى إذا جئت بما جئت وأطعمتهم ما طبخت لهم واكتفوا وجلسوا يلعبون ويضحكون فحينئذ شعرت أن تلك الجبال قد سقطت عن ظهري، ثم أتى عمر داره وأمرني فدخلت معه وبتنا ليلتنا، ولما كان الصباح أتت العجوز فاستغفرها وجعل لها ولصبيتها راتبا شهرا فشهرا.
المروءة والوفاء
سقط القائد فديرال يوم اشتدت نيران الحرب في فرجينيا أمام صفوف الأعداء مثخنا بالجراح مخضبا بالدماء يصرخ مستغيثا لجرعة ماء، فعطف عليه جندي من عساكر الأعداء اسمه جمس مور من ولاية برك شمالي كارولينا وأتاه بالماء ونيران المدافع وكراتها تتساقط كالأمطار الغزيرة في الفريقين، فأخذ أصحاب جمس يحذرونه من الخطر ويردعونه عن أن يلقي بيده إلى التهلكة، فلم يلتفت إليهم وظل يسرع إلى عدوه المستغيث في معمعة الموت الأحمر حتى بلغ إليه وكأس الماء بيده فسقاه، وكان مع ذلك القائد الصريع ساعة ذهبية فقدمها للمنعم إليه فأبى ذاك أخذها، فسأله القائد فديرال عن اسمه، فقال له: إنه جمس مور، ثم رجع مور إلى مركزه ولم ير أحدهما الآخر بعد ذلك، ثم جرح جمس مور وفقد بعض أعضائه في إحدى وقائع فرجينيا فرجع إلى بيته في ولاية برك، ثم مضى عليه سنين عديدة وفي هذه المدة بلغه خبر من القائد فديرال الذي سقاه كأس الماء في ساحة الحرب أنه وهب له عشرة آلاف دينار جزاء لصنيعه يعطاها مدة أربع سنين أي يعطى كل سنة ألفين وخمسمائة دينار.
المتوكل وعبيد الله بن يحيى
أبطأ عبيد الله بن يحيى عن الديوان، فأرسل إليه المتوكل يتعرف خبره فكتب إليه:
عليل من مكانين
من الإفلاس والدين
अज्ञात पृष्ठ