التجاء حافظ إلى الأديرة للفرار من مطاردة البوليس - تأثير الرهبنة عليه - بماذا احتج للاندماج في سلك الرهبان - رثاؤه المرحوم مصطفى باشا كامل باسم الراهب غبريال إبراهيم بدير الأنبا بيشوي - اهتمام أدباء الأقباط والغيورين منهم بشأن هذا الراهب الجديد - حافظ يناظر واعظا قبطيا بصفة كونه راهبا - الراهب غبريال يظهر المعجزات - انتقاله إلى دير المحرق - احتياله على أسقفي بوش والمحرق. ***
ما تناولت القلم لأسطر هذا الفصل من فصول حافظ نجيب حتى أسفت على أن يكون هذا المحتال الظريف، مستودع ذلك الذكاء النادر؛ لأنه لم يستخدمه إلا في أعمال لم تعد بفائدة ما سواء عليه أو على الهيئة الاجتماعية، مع أنه لو كان صحافيا لنفع بمعارفه الاجتماع، وكان خير معين لرجال البوليس على كشف المخبآت وإظهار ما في الزوايا من الخبايا والأسرار.
ولهذا لا عجب إذا اعتقدت أن الذكاء قسمان؛ قسم وهو الذي يصاحب الأدباء وأهل الشرف يدعى ذكاء عن عدل واستحقاق، وقسم وهو الذي يظهر على نوابغ المحتالين يدعى مكرا؛ لأن الذكي الحق لا يعمد إلا إيذاء عباد الله واستحلال المحرم، في حين أنه قادر على أن ينتفع من الطرق المشروعة عدلا أكثر مما ينتفع من سبل النصب والاحتيال. •••
اختلى حافظ ذات يوم إلى نفسه بعد أن غادر تفتيش سعادة خليل بك إبراهيم فحزن حزنا شديدا على ما وصل إليه من سوء الحال، فكر في المستقبل فرآه أسود من الغراب، فتمشى قلبه في صدره لشد ما أخذه من الحزن وتساوره من الهم، فصفق بيديه صفقة الأواه وندم على ما فات من أيامه وأعماله ندامة الكسعي في سالف الأزمان.
وبعد أن أطال التفكير وبرح به الشقاء أياما، لم يجد أمامه من وسيلة للخلاص غير التنسك في أحد الأديرة التي لا تنصرف إليها أفكار رجال البوليس؛ لأنهم لا يتصورون أن حافظ نجيب يدعي النصرانية ويقيم بين أظهر القسيسين والرهبان.
ولما صحت عزيمته على ذلك ذهب إلى دير وادي النطرون، ولما سئل عن الداعي الذي حمله على مغادرة العالم والانقطاع لعبادة الله قال:
إنني أحد أبناء ذوات مدينة أسيوط، توفي والدي قبل أن أبلغ سن الحلم، فأرسلتني والدتي إلى مدينة طولوز حيث مكثت فيها ثلاثة عشر عاما أتلقى العلم العالي والحقوق.
ولما انتقلت والدتي إلى رحمة الله عدت إلى بلادي وأخذت أجاهد في معترك هذه الحياة، فكان حظي منها وافرا، فعشت عيشة الرخاء واليسار، وكان لي شقيقة وحيدة وابنة عم يتيمة جعلتهما موضع آمالي، فكانتا لي نعم العزاء في أيام الكدر والشقاء، وكنت أحب ابنة عمي حبا مبرحا كما كانت هي تهواني أيضا، فتعاهدنا على الحب الدائم وإقرانه بالزواج، ولكنني قبل أن أفوز بهذه الأمنية اللذيذة رميت على حين غرة بمصاب بدد آمالي وصرم حبل آمالي، وتركني في أشقى حالات النكد والهوان بعد أن عشت مع عزيزتي تسعة أعوام كاملة آصالها مواسم وأسحارها بواسم، أما ذلك المصاب الذي دهمني فهو موت أختي وخطيبتي فجأة اختناقا بالغاز.
وبيان ذلك أن المنزل الذي كنا نقيم فيه معا ينار بالغاز الممتد بأنابيب إلى المنازل والحوانيت، وقد صادف ذات يوم أنهما دخلتا إلى مخدعهما ونامتا دون أن يلتفتا إلى أن الغاز يتصاعد من المصباح، وإن كان غير مضاء، فأوصدتا الباب والنوافذ وغرقتا في بحار النوم، ولكن عدم وجود منفذ يخرج منه الغاز دعا إلى اختناقهما قبل أن يدخل عليهما أحد يمكنهما من النجاة، ودون أن يتمكنا من الاستنجاد بأحد من العالمين.
وفي صباح اليوم الثاني أبطأتا في الخروج من مخدعيهما، وقد جرت عادتي ألا أخرج إلى عملي قبل أن أتناول معهما طعام الصباح، فأسرعت إلى غرفتهما وطرقت بابها مرارا على غير جدوى، وعند ذاك أخذني الخوف والقلق من كل جانب، فدفعت الباب بكل قواي فانفتح، ويا لهول ذلك المشهد الأليم الذي رأته عيناي بعد ذلك! فقد شاهدت أختي وابنة عمي قتيلتين لا حراك فيهما، وشعرت للحال بضيق الصدر من رائحة الغاز، فأدركت سبب الموت واستخرطت في البكاء والعويل، ولكن ماذا يفيد البكاء وقد حل القضاء المحتوم وذبلت تانك الزهرتان اليانعتان، وعما قريب أودعهما الوداع الأخير؟ ثم بلغ مني الحزن حدا كرهت معه الحياة الدنيا، فتركت أعمالي وأودعت ما أملك من المال أحد البنوك، وجئت إلى هذا الدير لأكون أحد رهبانه منقطعا لعبادة الله، والصلاة عن نفسي تينك العزيزتين رحمهما الله.
अज्ञात पृष्ठ