أما سياسة جوزفين في ذاك الموقف الحرج فإنها كانت سياسة التذلل والتضرع، ولقد أصابت في تفضيلها على كل سياسة أخرى؛ لأنها لو قابلت الجفاء بمثله لجزم نابوليون في الأمر، ولكن جوزفين درست جيدا ما انطوى عليه ذاك القلب الذي مال عنها، وأدركت أن الحب القديم لا يزال له طابع على صفحته فأخذت تصرف الجهد في معالجته، ولما ظهر أن نابوليون لم يدع أحد رجال القضاء لساعته، فيبرم معه أمر الطلاق ويتخذ الوسيلة الحاسمة الفاصلة، وأنه أظهر استعدادا لقبول الإيضاح ورؤية الدموع من أعين جوزفين، لما ظهر هذا كله قال العارفون أن جوزفين «ربحت قضيتها» مرة أخرى، وإن كانت على خطأ، وأول ما فعلته في هذا السبيل أنها أرسلت ابنها أوجين وابنتها أورتانس إلى نابوليون ليتوسطا لها ويستنزلا عفوه، فدخلا باكيين وانطرحا بين قدميه وتضرعا إليه أن لا يترك أمهما ويعيدهما يتيمين كما كانا، فرق قلب نابوليون لهما وتقبل أمهما من بين أيديهما، ومن ذاك الحين غيرت جوزفين سلوكها وخافت أن تقع في الوهدة التي حفرتها بيدها، وصارت تتحبب إلى نابوليون وتصنع له ما يشاء، بل صارت تفرغ جهدها في خدمته من كل الوجوه حتى الوجه السياسي، ومما يذكر أنه لما وكل إلى نابوليون قلب نظام الأحكام في تلك الأيام كان من مصلحته أن يتحول فكر جوهييه رئيس الديركتوار عما أراد اتخاذه من الوسائل لمفاجأة المجلس النيابي، فتولت جوزفين هذا الأمر، ودعت ليلة الحادث جوهييه لتناول العشاء عندها، فتم ما أراده نابوليون في غيابه.
ولقد أكد الذين وضعوا مذكرات ومؤلفات في موضوعنا أن جوزفين أخذت تحب نابوليون حبا أكيدا وتظهر غيرة شديدة من ذاك الحين، وأن حبها كان يزداد كلما شعرت أن قلب نابوليون أخذ يميل عنها وأنها أخذت تتقدم في مدارج العمر.
على أن نابوليون لم يكن يظهر لها جفاء، بل كان على العكس يحاسنها ويهتم بإراحتها، وإذا كان لم يجد بعد ما جرى لذة الزوج السعيد، فإنه كان يريد الراحة والسكون وطيب السمعة لبيته، فلا كلام عن الغرام ولا شكوى من ضرام الهيام مما كان يشرحه «للصديقة المعبودة» في سالف الأيام، بل كل ما هناك أقوال تدل على مودة وإكرام.
الفصل الحادي عشر
العاطفة الأبوية عند نابوليون
لم يكن سلوك جوزفين الماضي مؤثرا في حب نابوليون لابنها أوجين؛ فإنه كان يريد خير هذا الفتى ويعد خير أب له، بدليل ما كان يسديه من النصائح إليه، فقد كتب أيام حملة مصر يقول له: «سر دائما مع الجنود ونم تحت الخيمة، ولا تركن إلى العرب، وأكتب إلي في كل فرصة، أنا أحبك.» وكتب إليه كذلك: «لا تنم مكشوف العينين في مهب الهواء ... أقبلك.» وكان أوجين يشعر بذاك الحنو ويقابله بالإكرام والإخلاص بدليل ما قال نابوليون نفسه: «إن أوجين كان إذا سمع صوت مدفع أسرع ليرى ما جرى، وإذا كان أمامنا حفرة فهو الذي يمد يده إلي.» وكان نابوليون يقول: «إن أوجين يستحق أن يكون قدوة لجميع الشبان الذين في سنه.»
على أن هذا الحنو لم يكن يمنع نابوليون من إرشاد أوجين بكلمات شديدة إذا اقتضت الخدمة، ولكنه كان يختم كلامه على الغالب بعبارة تخفف من تلك الشدة، ولما عينه في إيطاليا كتب إليه: «إن قلبي لا يعرف أحدا أحب إليه منك»، وكتب أيضا: «يا بني إني مرسل إليك سيفا كنت أتقلده في حرب إيطاليا، فعسى أن يكون طالعه حسنا عليك.»
ولما أراد نابوليون أن يعقد قران أوجين وابنة ملك بافاريا بذل كل همة في إزالة المصاعب من سبيله وتبناه على وجه رسمي، وبعد عقد الزواج قال نابوليون للعروس: «لا شيء من المشاغل التي تحيق بي أحب إلي مما يضمن سعادة ولدي، فكوني واثقة يا أوغستا أن لك في قلبي من الحنو ما في قلب الأب لابنته، لا تغفلي مدراة صحتك في السفر؛ لأني لا أريد أن أراك مريضة، عليكما مني البركة الأبوية.»
وكتب إليها بعد أن صارت حاملا: «يا ابنتي إنك على صواب في اعتمادك على حبي وعطفي، فلا تهملي مراعاة حالتك الحاضرة، وابذلي جهدك حتى لا تأتينا ببنت، ويمكنني أن أصف لك الدواء الذي ينفعك ولكنك لا تصدقيني، إن الدواء هو أن تشربي كل يوم قليلا من الخمرة الصافية.»
ولما ولدت بنتا كتب إلى أوجين يقول: «إذا كانت أوغستا مكدرة الصفاء؛ لأنها ولدت بنتا، فقل لها إن التي تبدأ ببنت تلد اثني عشر ولدا.» ولو شئنا أن نذكر المكاتيب التي من هذا الطراز لاستغرقت عشرات الصفحات، فحسبنا ما تقدم دليلا على شعور نابوليون وحبه لابن جوزفين. وإن المرء ليدهش من اهتمام نابوليون بأكثر أمور أهله وذويه ومن بقاء فكره مطلقا حرا، مع أن بعض أشغاله في ذاك الوقت كان يستغرق أوقات أعلى الرجال همة وأمضاهم عزيمة وأسدهم رأيا.
अज्ञात पृष्ठ