وبدافع التعلق بقشة انطلقت خلفه، لعله يكون محقا! فأخذها إلى شارع فرعي فيه أشجار كبيرة وعمارات من طابقين مكسوة بحجر أحمر وترابي على طريقتهم التقليدية في تزيين واجهات العمارات، قال لها الصبي: هذه حارته. لكنه لا يعرف أين يسكن تحديدا، وتركها وركض. هناك ثلاث عمارات من الطرف الأيمن على امتداد الشارع، وعلى الطرف الأيسر أرض خالية، وفي كل طابق شقتان أو أكثر. هكذا أخذت تحدث نفسها من خلال ملاحظتها للنوافذ على كل جهة، نوافذ عريضة مقسمة تعلوها القمريات ذات الزخارف والزجاج الملون. وقفت تحاول أن تتذكر ما قاله لها عن إطلالة البيت؛ فقد أخبرها مرة أنه يرى الجبال من شباك المطبخ، نظرت حولها، لا تكاد ترى الجبال فالعمارات تسد عليها الرؤية. دارت حول العمارات تبحث عن عمارة تقع مطابخها على إطلالة مفتوحة، فوقع حدسها على العمارة الثالثة الأبعد، لكنها من طابقين، ومع إلغاء الطابق الأرضي لأنه لا يمكن رؤية الجبال من نوافذه، تكون قد حصرت بحثها في طابقين.
هبت نسمة هواء باردة، فملأت رئتيها، واتقد أملها، اتجهت صوب باب العمارة لتدخل، فوجدته مغلقا، يوجد «إنترفون» بجانب الباب، ضغطت على الأزرار العليا، لا أحد يجيب؛ فالوقت قبيل صلاة الجمعة. دقت الأزرار كلها مرة أخرى، فأتاها صوت امرأة تصرخ وتسب، ثم أجابها صوت طفل لم تفهم كلامه. ضحكت في سرها، وتذكرت رحلتها الفاشلة في البحث عن رائد، كان ذلك منذ زمان مضى!
التفتت عائدة، نزلت درجة، فدرجتين، «مين؟» أتاها صوت يسأل، تسارع نبض قلبها، هل يكون هو؟ «مين؟» بإلحاح أكثر هذه المرة: «آلو ... مين؟» عادت إلى الإنترفون، تعلقت بصوت وكلمات؛ فهي طاقة نجاتها الوحيدة من فشل مركب في هذه اللحظة، ابتلعت ريقها وقالت: «نعم.» أتاها الصوت نفسه: «من تبغين؟» وزال الشك دفعة واحدة، ورقصت حبات القلب طربا، وزغردت الروح بفرحة النجاح، هذا صوته! أم هكذا خيل إليها أملها؟ كلا، لن تقول له من تكون، افتعلت لهجة يمنية وقالت: «إحنا البقالة، جبنا لك الغاز، ممكن تفتح لنا الباب؟» فأجاب: «لكن أنا ما طلبت الغاز.» قالت مستجيبة لغريزتها العفوية: «افتح لنا يا أستاذ، يمكن هذا جارك. الغاز ثقيل الله يرحم والديك.»
وانفتح الباب، وتنفست الصعداء أخيرا، درجات فقط تفصلها عنه، شكرت الله أنه لم ينزل بعد إلى الصلاة، قادتها الفرحة بخطوات عجلة ومضطربة، كادت توقعها أرضا، وشيء من قلق يشتعل ببطء في قلبها، هل يكون الوهم قد خيل لي صوته؟ وهل أراه حقا؟ صعدت إلى الطابق الأول، فوجدت شقتين، شقة أمام بابها كومة من أحذية وصنادل، ليست هذه بالتأكيد، والأخرى بابها مفتوح إلى الداخل ولا أحد فيها. صعدت إلى الطابق الثاني، حيث وجدت شقتين أيضا، إحداهما لا شيء أمام بابها، والأخرى أمامها قارورة ماء كبيرة، أيهما تكون؟ وقفت تفكر لثوان وهي تلتقط أنفاسها، وصدرها يعلو ويهبط في سرعة كبيرة مستجيبا لخفقات قلب لاهثة ورئتين تطلبان الأكسجين. نظرت إلى البابين مرة أخرى ، يبدو أن الباب الثاني قد نظف في وقت قريب، لعله يكون هنا! رفعت يدها إلى زر الجرس، لا لا، ليس الجرس، إنه مزعج، حسنا، وضعت قبضة يدها على الباب لتطرقه، ثم أرختها، ماذا لو فتح لي شخص غيره؟ لكن لا بد أن يكون هنا؛ فهذا هو الطابق الأخير، وفوقنا السطح فقط. عادت إليها الشجاعة، مدت يدها مرة أخرى، طرقت طرقات خفيفة، كل طرقة كانت تنزل على قلبها رهبة وولعا وترقبا، لا أحد يجيب، حسنا، لم لا أنتظره حتى يخرج؟ اقتنعت بالفكرة، وبدأت تنزل الدرج، وحين وصلت إلى الطابق الأرضي توقفت فجأة، استدارت، صعدت الدرج ركضا، ومن غير تردد ضغطت زر الجرس مرتين، وقفت تلهث، ثوان وسمعت صوت خطوات قرب الباب، أنفاسها تتسارع، صوت مفاتيح، أحدها يدخل القفل، طق، طق، وانفتح الباب.
يا إلهي إنه هو! هو نفسه شادي، شادي العزيز، فتح فمه دهشة، وجدها تلهث مبتسمة متأثرة ووجهها محمر. وقفا يتأمل أحدهما الآخر، فتح فمه ليقول شيئا، أغلقه، أعاد تثبيت النظارة على عينيه، شعر بقطرات من العرق البارد تغزو جبهته، يده الأخرى على مقبض الباب، ماذا؟ وكيف؟ غطت وجهها بيديها، وبدأت بالبكاء، وكادت تقع أرضا، أسندها وأدخلها البيت: «مجنونة، مجنونة.»
خاتمة
مضى على زواجي بشادي عشرة أشهر، أما كيف حدث ذلك فقد تعذر لشادي اللحاق بي إلى بيروت؛ فبعد أن فرضت لبنان التأشيرة على السوريين لدخول أراضيها لم يتمكن شادي من الحصول على واحدة. طلب مني والداي العودة إلى حلب، لم أقبل طبعا؛ فقد قطعت نصف الطريق الأصعب لأصل إليه، ألا أملك القوة لأكمل نصفه الآخر؟ قام زوج خالتي بعقد قراني على شادي غيابيا، ثم تمكنت من إقناع عائلتي بالسفر إليه وحدي من غير علمه. لم يوافق والدي في أول الأمر، لكنه حين علم بوجود السيدة سمر التي تعهدت بالاعتناء بي، واستقبالي من المطار اطمأن ووافق على مضض.
سافرت إلى شادي وحدي، لم أكن أتخيل أنني سأتمكن من فعل ذلك يوما ما، لكن الظروف تتغير ويتغير معها كل شيء. أيقنت أن شادي هو الرجل الوحيد الذي أستطيع الاعتماد عليه طوال حياتي، وأنه لن يخذلني، وقد وهبني ذلك قوة كبيرة. ساعدتني السيدة سمر صديقة رندة كثيرا، واستضافتني في بيتها. لم أكن أعرف رقم شادي أو أين يسكن تحديدا. لن أنسى ذلك اليوم حين رأيته أول مرة بعد انقطاع طويل، كان أنحف كثيرا، مع نظارة طبية يرتديها. كنت في حلم حقيقي، فرحت وحزنت وبكيت وضحكت، أما هو فقد ظل يردد: «مجنونة، مجنونة.»
أخي سعيد وسلمى العزيزة ينتظران فرجا ما يجمعهما مجددا بعد عذابات وأشواق كثيرة، كم أحزن لهما! فبعد معجزة زواجهما افترقا ولم يلتقيا إلى الآن، يا لسلمى المسكينة! ويا لسعيد البائس!
فاطمة الآن في الصف السادس وهي من بقيت عند أهلي في حلب، وأبي وأمي لا يزالان هناك، أحدثهما كلما تحسنت الاتصالات لديهم.
अज्ञात पृष्ठ