5 «رائد» لقد كان هو بلا شك، لكن باختلاف كبير، لست أدري ما هو بالتحديد، لكنه فعلا تغير كثيرا. كان يغني بطلاقة أمام اللجنة والجمهور، يبدو أنه وصل إلى مراحل متقدمة في البرنامج، يا للمفاجأة، لا أكاد أصدق! بقيت أحدق في الشاشة أراقب حركاته وتعبيرات وجهه وتفاعل الجمهور معه. كانت تعليقات الحكام عليه محفزة وإيجابية.
عدت إلى غرفتي بمشاعر مختلطة، شعرت بالفرح؛ فأنا أعرف ذلك الشاب والتقينا كثيرا وتكلمنا قليلا ذات سعادة! وكأن ظهوره في شاشة التلفاز أعطاه سحرا خاصا، جعله يتفوق بخطوة علينا، نحن الذين نشاهده من منازلنا ونتوق لنكون مكانه. شعرت بشيء من القهر والغصة، بحسد بغيض، كيف له أن يترك عالمه ويعيش عالما جديدا حرا بعيدا عن كل شيء؟ هل تراه يعود إلى الوطن؟ هل يذكرني؟ لم لا أتمكن أنا من تحقيق ما أحلم به؟ لكن عن أي حلم أتحدث؟ أخذت أتابع البرنامج أسبوعيا، حتى إنني قمت بالتصويت له. كان الأمل يحدوني لأن أراه يكسب المركز الأول وينال اللقب، وكنت إذا بدأ بالغناء اختفيت تماما عن عالمي واخترقت قلبه.
كنت أشعر أنه يغني لي وحدي، غريبة كل تلك الأحاسيس التي أراها تطفح على محياه وحركات يده وتغضنات جبهته، وكأنه يقاسي حبا حقيقيا ما، أتراه يقصدني؟ كان قلبي يخفق بسرعة كلما خطرت ببالي هذه الفكرة، فأهز رأسي، وأسخر من نفسي؛ فهذا ضرب من الخيال!
وأسبوعا بعد أسبوع تألق نجم رائد أكثر، وتعلقي به صار أكبر. أكسبته الشهرة سحرا خاصا، كانت تليق به فعلا، بثيابه الأنيقة وتسريحة شعره الجديدة وساعة يده الباهظة الثمن. يده هذه أعرفها جيدا، كل الناس تراها الآن من خلف الشاشات، لكن وحدي أنا التي أعرف الندبة في راحة يده، وأعرف الكلمات التي كان يرددها، أعرف قمصانه الصيفية التي كان يرتديها، وسرواليه الوحيدين، الجينز الفاتح والقماش الأسود، كنت أشعر بالتميز عن جميع معجبيه.
وها قد حلت اللحظة الحاسمة والأسبوع الأخير من البرنامج، كان مع مشتركتين اثنتين قد وصلتا إلى التصفيات النهائية، كم كنت أحسدهما! يبدو أنهما لا تفارقانه في التدريبات والرحلات وصالونات التجميل وأفخر محلات الثياب ذات الماركات العالمية الشهيرة، هل مال قلبه إلى إحداهما؟ أم أنه يفضل العودة إلى حب قديم لا يزال في الوطن؟
كل شيء يعرض على الشاشة يبدو ساحرا ومبهرا، والمشتركون سعداء وظريفون دائما والضحكة لا تفارق وجوههم. كانوا يعيشون أسعد أيام حياتهم، وكل من يشاهدهم يحسدهم ويتمنى أن يكون مكانهم.
غنى رائد تلك الليلة أغنية «هل عندك شك»، خرجت الكلمات من فمه كالعسل حلوة ولاذعة. كان بارعا حقا، يحرك يديه بعفوية محببة، وملامح وجهه تذوب حنانا وإحساسا. كان يرتدي بزة رسمية سوداء، بقميص أبيض وربطة عنق خمرية اللون، ويضع في جيب السترة العلوي منديلا من الساتان باللون ذاته، كان مفرط الأناقة والجاذبية، وكذلك علق أحد أعضاء اللجنة، قال: «أخاف عليك من المعجبات أكثر من خوفي عليك أن تربح في البرنامج، ما هذا الإحساس العالي؟ اعترف فورا، هل توجد حبيبة؟» صفق الجمهور وتعالت هتافاتهم. أخذ قلبي يضرب بشدة، ضحك رائد وقال: «يمكن!» كلمة واحدة تركت قلبي معلقا في أرجوحة من التساؤلات؛ فلا أنا أهبط إلى أرض اليقين، ولا أنا أعلو فأطول النجوم.
وخلافا لكل توقعات الناس واستجابة لصلواتي ربما فقد ربح رائد، ربح اللقب والسيارة الفارهة والمبلغ المالي الكبير. كانت فرحتي يومها «لا أعطيها لأحد» كما يقولون. حتما سيعود رائد إلى الوطن، فهل سأراه مجددا؟
بعد يومين حان موعد حضور معرض الخط، كنت متحمسة جدا؛ إذ لم يسبق لي حضور معرض مماثل، وكالعادة، لم يسمح لي أبي بالذهاب إلا بصحبة أخي نادر. كانت القاعة مضاءة بشكل مفرط، ولوحات الخط تزين الجدران، والقليل من الناس يقفون هنا وهناك يتأملون ويتحدثون. وبينما راح أخي يتناول بعض الأطعمة المعروضة، فقد أخذت أتنقل بين اللوحات مبهورة بما أرى. لم تكن اللوحات كلها اقتباسات للآيات القرآنية؛ فقد حوت كثيرا من الحكم والأمثال والأشعار العربية، ومع ذلك فقد شعرت بشيء من القداسة في أشكال الحروف وطريقة تكرارها وكتابتها وانحناءاتها وألوانها، كان الجمال يتبدى في صورة نورانية روحية سعيدة.
شعرت أنني أصبت بعدوى الجمال فاتجهت صوب أحد الخطاطين لأحاوره، لست أدري عن أي شيء، كنت أريد الحديث معه وحسب. رأيت رجلين يقفان عند لوحة مكتوب عليها «لا غالب إلا الله» أحدهما شاب والآخر رجل في الخمسين من عمره، فخمنت أن هذا الأخير هو الخطاط. بدأت حديثي معه قائلة: «السلام عليكم، بصراحة وجدت صعوبة كبيرة في منع نفسي من التحدث إليك عن أعمالك الرائعة؛ فهذه هي تجربتي الأولى في حضور معرض للخط العربي. لقد كان شرفا لي بحق أن أقف أمام كل هذا الجمال و...» وأخذ الرجل يبتسم مما جعلني أتوقف عن الكلام، هل قلت شيئا أساء إليه؟ أم أنه يسخر مني؟ توقفت عن الكلام دفعة واحدة، قال بعدها بصوت هادئ وهو يومئ إلى الشاب الذي بجواره: «ربما عليك التوجه بالكلام للفنان صاحب اللوحات، السيد شادي!»
अज्ञात पृष्ठ