ياه! ما أعذب صوته ! وأجمل كلماته! كأنه يحكي عن حالي. بعد قليل أخذت الجوامع القريبة بالتسميع فاختلطت الأصوات وما عدت أميز كلماتها، ثم أذن الفجر، كنت أسمعه بإصغاء شديد، وسكينة تامة. قررت أن أصلي هنا بالذات، رحت وتوضأت وعدت إلى الشرفة وبدأت أصلي بعد طول انقطاع. أحسست بكل كلمة، وبكل حركة وبكل تسبيحة وتكبيرة، كان كل شيء يفتح لي معاني جديدة ومشاعر جميلة لم أشعر بها من قبل. أحسست بضياء حان يحيط بي، يلفني ويخترقني، لم أدر كم مضى علي من الوقت لكنني أحببت الصلاة من جديد. كنت جالسة على السجادة سعيدة بما قمت به، وإذا بأمي تدخل وشمعة في يدها، قالت: «ماذا تفعلين؟ الجو بارد، ادخلي.» دخلت ودسست نفسي في سريري. كانت اللذة تغمر جوارحي وتهبط على جفني نوما هنيئا، بينما راحت خيوط الصباح تتسلل عبر النافذة لتنير لي غرفتي وعالمي الصغير.
استيقظت نشطة في اليوم التالي، فهاتفت جدو نور وطلبت منه موعدا فاعتذر لملاقاتي صباحا وأجل الموعد إلى المساء، كانت فرصة لي لأنهي كتابي الذي استعرته مؤخرا. في المساء ارتديت ثيابا سميكة قليلا، وكذلك ألبست أختي فاطمة؛ فنحن في أواخر أيلول، وقد بدأ البرد باكرا هذا العام. توجهنا إلى بيت جارنا ورحب بنا كعادته، وولجنا إلى صومعته. سألني: «أنهيت الكتاب؟» شعرت بالإحراج وقلت: «كلا، لكنني أعدك أن أعيده لك قريبا. لقد شغلتني عدة أمور.» أجاب: «لا بأس، ما أخباركم؟» قلت: «بخير حال، عاد الجميع إلى مدارسهم أما أنا فلا مدرسة ولا جامعة!» قال: «الحياة بأكملها تنتظرك وهي ليست محدودة في أروقة الجامعة فحسب يا سماء.» لم أجب؛ فلم أقتنع بكلامه، وكنت لا أزال واقفة، قال: «اجلسي، أنت تنتظرين إكمال القصة صحيح؟» هززت رأسي بالإيجاب فقال: «تزوجنا أنا ورندة وعدت بها إلى الوطن.» وسكت قليلا، فقلت: «هذا رائع، كأنه حلم حقيقي.» ابتسم جدو نور بدوره وقال: «نعم، كان حلما عشناه حقيقة، وكانت سعادة انتشينا بها دفعة واحدة حتى ما بقي لنا منها شيء.» قطبت جبيني وسألته: «ماذا تقصد؟ ماذا حدث؟»
الفصل الثالث
1
1988م
رائحة تحميص الملوخية مع الثوم والكزبرة تملأ الدرج حتى مدخل العمارة، وقع خطوات سريعة تقترب نحو الباب، كان ممسكا بيدها محاولا طمأنتها وهما ينتظران الباب ليفتح، شعرت به يرتجف وقد بلل العرق يدها بالكامل، ابتسمت له، «إنه متوتر أكثر مني!» يتحرك مقبض الباب وينفتح إلى الداخل مصدرا أزيزا عاليا، يطل وجه سيدة خمسينية بثياب البيت الصوفية وقد جمعت شعرها المصبوغ بالأشقر بربطة حمراء تتناسب مع ثيابها المزهرة، منتعلة خفين أسودين وجوربين سميكين. ما إن وقعت عيناها على ابنها الذي لم تره منذ سنتين تقريبا حتى صرخت: «نووووور.» وضربت على فخذيها من هول المفاجأة، ضمته إلى صدرها بكثير من العناق والقبلات والدموع، وسرعان ما أقبلت نورة وعانقت أخاها.
وبعد موجة الاستقبال الحار الذي دام طويلا عند العتبة ولا يزال الباب مفتوحا انتبهت نورة إلى وجود سيدة في الخارج بجانب الحقائب، نظرت إلى أخيها مستفهمة، يبدو أنه نسيها لبرهة، أمسك بيدها وأدخلها إلى البيت قائلا: «ماما، نورة، هذه رندة ...» وسكت. قطبت الأم جبينها ونظرة فزع واستفهام قفزت إلى عينيها، وهي تستحثه على إكمال حديثه. ابتسم مرتبكا وأكمل: «رندة زوجتي!» وساد الصمت لحظات واختفت ملامح السعادة التي كانت ترفرف على الوجوه، لتحل محلها نظرات الصدمة والتأنيب.
كانت نورة أول من تحدث فقالت: «تفضلا بالدخول، لا بد أنكما متعبان من السفر، سأدخل الحقائب إلى غرفتك نور، إنها على حالها منذ تركتها، هيا، هيا.» دخل الجميع وأغلق الباب أخيرا، جلست رندة على إحدى الكراسي في الصالة، وحين هم نور بالجلوس جذبته والدته من يده إلى المطبخ وأغلقت الباب وقالت: «كنت أتوقع منك كل شيء، كل شيء إلا هذا، كيف طاوعك قلبك لتفعل بي ذلك؟ ما عدت تهتم لرأي أمك، كل هذه السنين وأنا أنتظر أن أفرح فيك، وأنت تحرمني من فرحة عمري؟ بهذه البساطة تفرضها علينا، حرام عليك ...» قاطعها نور ممسكا بيدها: «ماما، ماما.» انتزعتها منه وقالت والدموع تطفر من عينيها: «دعني أكمل، لا تقاطعني، أبوك ليس هنا، لكن جد حلا قبل عودته، لا تتوقع منه أن يرحب بشخص غريب معنا .» وأشاحت بوجهها ناحية الفرن وهي تدافع دموعها.
خرج نور والهم يركبه والغصة تخنقه، وجدها واقفة تنظر إليه بعين كسيرة، «لقد سمعت كل شيء.» أمسك بيديها معتذرا متوسلا، لم يقل شيئا؛ فلا شيء يمكن أن يقال، سحبت يديها بهدوء، تناولت حقيبتها وهمت بالرحيل، عندها جاءت نورة حاملة كوبا من الماء، صاحت: «رندة بالله عليك إلى أين تذهبين، تعالي، كلي شيئا على الأقل، لا يمكن أن أسمح لك بالرحيل. نور، قل شيئا، الآن يأتي بابا ونحل كل شيء.» نور بقي جامدا، الأم في المطبخ، رندة تنتظر نور، نور لا يقول شيئا، ونورة تتوسل. ابتسمت رندة وقالت: «بل سيتعقد كل شيء»، استدارت واتجهت ناحية الباب، «لا تذهبي.» قال نور أخيرا، لكن رندة فتحت الباب وإذ بها أمام عمها مباشرة.
قفزت نورة باتجاه رندة ومن غير أن تتفوه بكلمة سحبتها من يديها إلى غرفتها. دخل الأب في دوامة المفاجأة والصدمة، وجد نور أمامه منكبا على يديه يعانقه ويبكي، قال: «متى وصلت؟ لم لم تخبرنا؟ كنا أحضرناك من المطار، هكذا تفاجئنا؟» ابتسم نور مجاملة، «ما لك يا ولد، أنت مريض؟ تعالي أم نور أين أنت؟ نورة تعالي هذا أخوك رجع دكتورا قد الدنيا.» وضرب على صدر ولده بفرح. أقبلت أم نور، وحين رآها قال: «ما لك أنت أيضا؟ حصل شيء؟ أخبروني.» وأخذ ينقل نظره بينها وبينه، قالت: «قل له أنت يا نور.» أمسك نور بكتفي أمه وقال: «أمي أرجوك تمالكي أعصابك، لم يحدث شيء، لا تخيفي أبي.» صرخ الوالد على الفور: «ماذا؟ تكلم يا ولد الآن، ماذا حصل؟» التفت نور ليتحدث، فقالت أمه: «ابنك تزوج، تزوج يا أبو نور، تزوج.» وشددت على حرف الواو. ضرب نور على جبهته، حملق والده فيه، قال نور: «بابا، بابا، دعني أشرح لك كل شيء، أنت تريد أن تفرح بي، وأنا أنهيت دراستي وسأعمل، وهي طيبة جدا ولطيفة. إنها ...» ولم يعرف ما يقول فقد أخرسته ملامح وجه أبيه الذي تهاوى على أحد المقاعد وأشار إليه بيده أن اذهب، وجلس الجميع صامتين.
अज्ञात पृष्ठ