أن يفعل ذلك؛ إذ إن مسار كل جزيء يمكن، في نظره، التنبؤ به مثل مسار النجوم، ولا حاجة به إلى أية قوانين إحصائية. فهذا الفهم لا يتخلى عن فكرة السببية الدقيقة، وإنما هو يقتصر على القول إن العملية الدقيقة بعيدة عن متناول المعرفة البشرية، التي تضطر، نتيجة لنقصها، إلى الالتجاء إلى قوانين الاحتمال.
أما الرأي الثاني فيمثل وجهة النظر المضادة؛ فأنصار هذا الرأي لا يؤمنون بالسببية الدقيقة في حركة الجزيء المنفرد، وإنما يرون أن ما نلاحظه على أنه قانون سببي للطبيعة هو دائما نتيجة لعدد كبير من الحوادث الذرية؛ وعلى ذلك فمن الممكن النظر إلى فكرة السببية الدقيقة على أنها تعبير مثالي عن النظام المطرد المشاهد في بيئة العالم الكبير الذي نحيا فيه، أو تبسيط نضطر إليه نظرا إلى أن العدد الهائل من العمليات الأولية التي ينطوي عليها الموضوع يجعلنا ننظر إلى ما هو في الواقع قانون إحصائي، على أنه قانون دقيق. وتبعا لهذا الرأي لا يكون من حقنا نقل فكرة السببية الدقيقة إلى مجال العالم الأصغر؛ فليس هناك سبب يدعونا إلى افتراض أن الجزيئات تخضع لقوانين صارمة، بل إن الجزيئات التي تبدأ من مواقع متساوية قد تنتهي في المستقبل إلى مواقع مختلفة، وليس في استطاعة إنسان «لابلاس» الأرقى ذاته أن يتنبأ بمسار أي جزيء.
إن الخلاف إنما ينصب حول مسألة ما إذا كانت السببية مبدأ نهائيا أم مجرد بديل للانتظام الإحصائي، ينطبق على العالم الكبير أو الخشن، ولكن لا يمكن قبوله بالنسبة إلى عالم الذرات. فعلى أساس فيزياء القرن التاسع عشر لم يكن من الممكن الإجابة على هذا السؤال، وإنما جاءت هذه الإجابة من فيزياء القرن العشرين، التي حللت الحوادث الذرية على أساس مفهوم الكم (الكوانتم) عند بلانك. فنحن نعلم من أبحاث ميكانيكا الكم الحديثة أن الحوادث الذرية المنفردة لا تقبل تفسيرا سببيا، بل تحكمها قوانين الاحتمال فحسب. هذه النتيجة، التي صيغت في مبدأ اللاتحدد المشهور عند هيزنبرج
Heisenberg ، هي الدليل على أن الرأي الثاني هو الصحيح، وعلى أن من الواجب التخلي عن فكرة السببية الدقيقة، وأن قوانين الاحتمال أصبحت تشغل المكان الذي كان يحتله من قبل قانون السببية.
فإذا ما تذكرنا التحليل المنطقي للسببية، كما عرضناه في مستهل هذا الفصل، لبدت هذه النتيجة امتدادا طبيعيا للآراء القديمة؛ فقد أدى ذلك التحليل إلى القول بضرورة التعبير عن السببية على أنها قانون للانتظام الذي لا يعرف استثناء؛ أي على أنها علاقة من نوع «إذا حدث كذا ... حدث كذا دائما». أما قوانين الاحتمال فهي قوانين لها استثناءات، ولكنها استثناءات تحدث في نسبة مئوية منتظمة من الحالات؛ فقانون الاحتمال هو علاقة من نوع «إذا حدث كذا ... حدث كذا في نسبة مئوية معينة». ويقدم إلينا المنطق الحديث وسيلة معالجة مثل هذه العلاقة، التي يطلق عليها اسم «اللزوم الاحتمالي
»؛ تمييزا لها من اللزوم المعروف في المنطق المعتاد. وهكذا يحل التركيب الاحتمالي محل التركيب السببي للعالم الفيزيائي، ويحتاج فهم العالم الفيزيائي إلى وضع نظرية في الاحتمالات.
وينبغي أن ندرك أن تحليل فكرة السببية يكشف عن ضرورة فكرة الاحتمال، حتى بدون نتائج ميكانيكا الكم؛ ففي الفيزياء الكلاسيكية يعد القانون السببي تعبيرا مثاليا، وتكون الحوادث الفعلية أعقد مما يفترض بالنسبة إلى الوصف السببي. فعندما يحسب عالم فيزياء مسار رصاصة أطلقت من بندقية، فإنه يحسبه على أساس بعض العوامل الرئيسية، مثل شحنة البارود واتجاه الماسورة، ولكن نظرا إلى أنه لا يستطيع أن يأخذ في اعتباره كل العوامل الثانوية، كاتجاه الرياح ورطوبة الهواء؛ فإن دقة حسابه تكون محدودة. ومعنى ذلك أنه لا يستطيع التنبؤ بالنقطة التي ستصيبها الرصاصة إلا في حدود درجة احتمال معينة. وكذلك فإن المهندس حين يشيد جسرا، لا يستطيع التنبؤ بقوة تحمله إلا في حدود درجة احتمال معينة؛ فقد تحدث ظروف لا يتوقعها، تجعل الجسر ينهار تحت حمل أقل. وإذن فقانون السببية، حتى لو كان صحيحا، لا يسري إلا على موضوعات مثالية. أما الموضوعات الفعلية التي نتعامل معها فلا يمكن التحكم فيها إلا في حدود درجة عالية من الاحتمال؛ لأننا لا نستطيع تقديم وصف شامل لتركيبها السببي. ولمثل هذه الأسباب اتضحت أهمية مفهوم الاحتمال حتى قبل كشوف ميكانيكا الكم. وبعد هذه الكشوف أصبح من الواضح أن أي فيلسوف لا يستطيع إغفال مفهوم الاحتمال، إذا ما أراد أن يفهم تركيب المعرفة.
لقد كانت فلسفة المذهب العقلي تستشهد على الدوام بالسببية بوصفها دليلا على الطابع المعقول لهذا العالم؛ ففكرة اسبينوزا عن تحدد مسار الكون مقدما، لا يمكن تصورها دون اعتقاد بالسببية. وفكرة ليبنتس عن الضرورة المنطقية، التي تعمل من وراء الحوادث الفيزيائية، تتوقف على افتراض وجود ارتباط سببي بين كل الظواهر. ونظرية «كانت» في المعرفة التركيبية القبلية للطبيعة تستشهد بمبدأ السببية، إلى جانب قوانين المكان والزمان، بوصفه أبرز أمثلة هذه المعرفة. وهكذا فإن تطور مبدأ السببية، شأنه شأن تطور مشكلتي المكان والزمان، قد أدى منذ وفاة «كانت» إلى انهيار المعرفة التركيبية القبلية. وتزعزعت أسس المذهب العقلي على يد نفس العلوم التي كانت تقدم - بتفسيرها الرياضي للطبيعة - أقوى دعامة يرتكز عليها فيلسوف هذا المذهب، وأصبح الفيلسوف التجريبي في العصر الحديث يستمد أقوى حججه من الفيزياء الرياضية.
الفصل الحادي عشر
هل توجد ذرات؟
अज्ञात पृष्ठ