مقدمة المترجم
أستطيع أن أعد ترجمتي لهذا الكتاب عملا صحيح التوقيت؛ فالكتاب يعرض وجهة نظر فيلسوف من أكبر ممثلي المذهب الوضعي المنطقي (أو التجريبي المنطقي، كما يفضل هو ذاته أن يسميه)، وذلك في وقت شغلت فيه المعركة الدائرة بين أنصار هذا المذهب وخصومه صفحات غير قليلة من مجلاتنا الثقافية، بل من جرائدنا اليومية أحيانا. ولا أستطيع أن أزعم أنني كنت طرفا في هذه المعركة، غير أنني عندما أحسست أنها اتخذت أبعادا أضخم مما ينبغي، وشابها كثير من سوء الفهم والتواء التفسير، حاولت أن أعبر عن شعوري إزاءها في مقال وصفتها فيه بأنها «معركة الملل» (جريدة الجمهورية 24 نوفمبر 1966م)، وقوبل هذا المقال - شأنه شأن كثير من محاولات تبديد سوء التفاهم - بشيء من الغضب من طرفي النزاع معا!
ولقد تبين لي أن الأمر يحتاج إلى أكثر من مجرد مقال، وأنه لا بد من تقديم وجهة النظر موضوع النزاع على نحو أوسع وأكثر شمولا، لعل الاطلاع عليها أن يفيد جمهرة المثقفين في تبين بعض معالم المذهب الذي يتحدثون عنه. وعلى الرغم من أنني لم أكن في وقت من الأوقات من أنصار هذا المذهب، فإني لست، في الوقت ذاته، من أنصار مناقشة المسائل الفلسفية دون إلمام كاف بأبعادها الحقيقية؛ لذلك فقد وجدت الفرصة سانحة لإنجاز ترجمة هذا الكتاب أملا في أن يسهم في إلقاء الضوء على هذا المذهب، بحيث يتعرف عليه القارئ العربي من خلال كلمات واحد من أكبر ممثليه الأصليين، ويستطيع أن يصدر عليه حكما موضوعيا، بعيدا عن تلك الحساسيات التي تثور بين مفكرينا المحليين لأسباب قد لا تكون كلها علمية!
إن بلادنا تشهد اهتماما غير مألوف بالمشكلات الفلسفية، تعدى نطاق المتخصصين وشمل عددا غير قليل من أصحاب الثقافات المتباينة التي قد لا يكون لها اتصال مباشر بميدان الفلسفة. وهذا الاهتمام، في واقع الأمر، سلاح ذو حدين؛ فهو من جهة يفيد الفلسفة فائدة لا شك فيها، من حيث إنه يوسع قاعدة قرائها ودارسيها، ويجلب لها جمهورا لم يكن أحد يتصور أن الفلسفة ستجتذبه يوما ما. ولعل هذا هو القصد الحقيقي من الدراسة الفلسفية؛ إذ لا ينبغي أن تكون الفلسفة مبحثا يقتصر الاهتمام به على المتخصصين، وإنما يجب أن تتغلغل في الحياة العقلية للمثقفين بوجه عام، وتساعد كلا منهم على تكوين فهم أعمق للعالم الذي يعيش فيه. ومن المؤكد أن اقتصار الاهتمام بالفلسفة على مجموعة من المحترفين الذين لا يفهم أسرارها ولا يحل شفراتها سواهم، هو مظهر تدهور لا مظهر تقدم للفكر الفلسفي، غير أن لاتساع قاعدة الاهتمام بالفلسفة على هذا النحو وجها آخر، نستطيع أن نصفه بأنه وجه سلبي؛ إذ إن المناقشة والمجادلة الفلسفية يمكن أن تهبط إلى مستوى يشوبه قدر غير قليل من المغالطة؛ إذ كان أحد طرفيها أو كلاهما من الهواة الذين يخوضون ميدان الجدل وكأنهم متخصصون. ولقد كان واضحا، في المعركة الفكرية المتعلقة بالوضعية المنطقية، أن قدرا كبيرا من الخلاف يرجع إلى التسرع في فهم الآراء موضوع البحث، أو تحميلها من المعاني فوق ما تحتمل ، أو الانتقال بها من مجال إلى مجال آخر على نحو غير مشروع؛ وهذه كلها أمور يمكن معالجتها بالرجوع إلى المصادر الأصلية، ودراستها بأناة وروية.
ولو اتخذنا الكتاب الذي أقدم ها هنا ترجمته مثلا، لوجدنا أن الدراسة المتمعنة لما ورد فيه من الآراء كفيلة بأن تقنع الباحث بأن قدرا كبيرا من الخلاف بين أنصار الوضعية المنطقية وبين خصومها، ممن ينتقدونها على أساس أنها ليست علمية كما ينبغي، أو ليست علمية على الإطلاق، هو في واقع الأمر خلاف وهمي؛ لأن بين الطرفين نقاط التقاء تزيد بكثير على ما يظن كل منهما للوهلة الأولى. ولنضرب بعض الأمثلة لنقاط الالتقاء هذه، مستمدة من الآراء الفعلية التي وردت في هذا الكتاب: (1)
إن الحملة على التفكير الميتافيزيقي سمة مشتركة واضحة بين هذا الكتاب وبين الخصوم العلميين للوضعية المنطقية. وسوف يتضح للقارئ أن مؤلف هذا الكتاب قد كرس جزءا كبيرا منه لبيان الأخطار الناجمة عن الاستخدام الخالص للعقل، والاعتقاد بأن في استطاعة الذهن البشري أن يستخلص من ذاته، ودون رجوع إلى المصادر الفعلية للمعرفة، علما كاملا بالكون وبالإنسان. وهذا اتجاه لا أظن أن أية فلسفة علمية تنكره. (2)
ويرتبط بالحملة السلبية السابقة اتجاه إيجابي إلى الدفاع عن العلم، من حيث إنه أفضل ما في متناول أيدينا من وسائل اكتساب المعرفة؛ فالفكرة العامة التي يدافع عنها مؤلف الكتاب، هي أن الإجابات التأملية عن الأسئلة الفلسفية قد أخفقت طوال ما يزيد عن ألفي عام، على حين أن العلم قد بدأ، منذ القرن التاسع عشر بوجه خاص، يقدم إجابات حقيقية مقنعة على كثير من الأسئلة التي طالما تخبط فيها الميتافيزيقيون، بل إن المؤلف يسعى إلى توسيع نطاق العلم حتى في المجالات التي يظن أنها لا تخضع للقوانين العلمية؛ فهو يقدم في فصول كثيرة، ولا سيما في الفصل الأخير، دفاعا حارا عن خضوع دراسة المجتمع لقوانين علمية مشابهة لتلك التي تخضع لها دراسة الطبيعة، ويرد على الاعتراضات التي توجه إلى هذا الرأي، ولا سيما القول بأن الظاهرة الاجتماعية فردية لا تتكرر ، وهذا بدوره رأي تدافع عنه كل فلسفة علمية. (3)
ويحرص المؤلف في شتى المواقف على إنكار التفسير الغائي للظواهر، وتأكيد التفسير السببي لها، وقد أكد موقفه هذا بوجه خاص في الفصل الثاني عشر (الخاص بالتطور)، وهاجم الغائية بشدة في ميدان يعد من أقوى معاقلها، وهو ميدان البيولوجيا. (4)
ويؤكد المؤلف أهمية العمل الجماعي، لا الفردي، في الفلسفة والعلم الحديث، ابتداء من القرن التاسع عشر، ويرى أن أية محاولة لفهم الفترة العلمية الحديثة على أساس أنها نتاج عبقرية فردية لا بد أن يكون مآلها إلى الإخفاق، بل إنه يرد القدرة على التجريد الفلسفي، الذي يسود الاعتقاد بأنه فردي بطبيعته، إلى أصول اجتماعية، فيقول: «إن نمو القدرة على التجريد ظاهرة تلازم الحضارة الصناعية بالضرورة» (الفصل السابع). (5)
هناك اتجاه واضح إلى الحملة على المثالية في جميع صفحات الكتاب، ولا سيما بعض الاتجاهات المثالية المعاصرة التي تستغل نتائج الكشوف الفيزيائية في القرن العشرين من أجل دعم موقفها، وهو يحرص على الفصل بوضوح قاطع بين نتائج تلك الكشوف وبين الموقف المثالي الفلسفي، ولا يرى أي مبرر لاستناد المثالية على العلم المعاصر، بل إنه في تفسيره العام للمثالية، يحاول أن يصل إلى التركيب الأعلى
अज्ञात पृष्ठ