1
لبدا من الأمور المألوفة لنا أن تتأخر عملية الشيخوخة أو التقدم في العمر لدى الأشخاص العائدين من رحلات طويلة، ولظلوا أقل من عمر الأشخاص الآخرين الذين كان لهم في الأصل نفس عمره. والحق أن النتائج التي يصل إليها العلماء بالاستدلال المجرد، والتي تقتضي من المرء، عندما يصادفها لأول مرة، أن يتخلى عن معتقدات تقليدية، كثيرا ما تصبح عادات مألوفة لدى الأجيال اللاحقة.
وهكذا أدى التحليل العلمي إلى تفسير للزمان يختلف كل الاختلاف عن تجربة الزمان في الحياة اليومية؛ فقد اتضح أن ما نشعر بأنه تدفق للزمان، هو ذاته العملية السببية التي تكون هذا العالم، وتبين لنا أن تركيب هذه الصيرورة السببية ذو طبيعة أعقد بكثير مما يكشفه الزمان الذي ندركه بالملاحظة المباشرة، حتى يجيء يوم يغزو فيه الإنسان الفضاء الواقع بين الكواكب، وعندئذ يصبح زمان الحياة اليومية مماثلا في تعقيده للزمان كما يعرفه العلم النظري اليوم. صحيح أن العلم يجرد المضمون الانفعالي لكي ينتقل إلى التحليل المنطقي. غير أن من الصحيح أيضا أن العلم يفتح آفاقا جديدة، قد تجعلنا نمارس يوما ما انفعالات لا عهد لنا بها من قبل على الإطلاق.
الفصل العاشر
قوانين الطبيعة
كانت فكرة السببية تحتل موقع الصدارة في كل نظرية للمعرفة في العصر الحديث؛ ذلك لأن إمكان تفسير الطبيعة على أساس القوانين السببية يوحي بالفكرة القائلة إن العقل يتحكم في أحداث الطبيعة، كما أن العرض السابق لتأثير ميكانيكا نيوتن في المذاهب الفلسفية (الفصل السادس) يظهر بوضوح أن جذور المعرفة التركيبية القبلية ترجع إلى تفسير ذي طابع حتمي للعالم الفيزيائي. ولما كانت الفيزياء السائدة في عصر ما تؤثر تأثيرا عميقا في نظرية المعرفة في ذلك العصر، فسيكون من الضروري دراسة التطور الذي طرأ على مفهوم السببية في فيزياء القرنين التاسع عشر والعشرين، وهو التطور الذي أدى إلى إعادة النظر في فكرة القوانين الطبيعية، وانتهى بفلسفة جديدة للسببية.
ومما يزيد في سهولة عرض هذا التطور التاريخي إلى حد بعيد، أن يسبقه تحليل لمعنى السببية، وهذا التحليل يمكن أن يرتبط بالبحث في معنى التفسير (الذي ورد في الفصل الثاني)، وهو البحث الذي انتهى إلى أن التفسير تعميم. ولما كان التفسير إرجاعا إلى الأسباب، فإن العلاقة السببية ينبغي أن تفهم على نفس النحو. والواقع أن العالم يعني بالقانون السببي علاقة من نوع «إذا كان ... فإن ...»، مع إضافة أن نفس العلاقة تسري في كل الأحوال. فالقول إن التيار الكهربائي يسبب انحرافا لإبرة المغناطيس، يعني أنه كلما كان هناك تيار كهربائي كان هناك دائما انحراف لإبرة المغناطيس. وإضافة لفظ «دائما» تؤدي إلى تمييز القانون السببي من الاتفاق الذي يحدث بالصدفة؛ فقد حدث مرة، أثناء ظهور منظر تفجير صخور على شاشة سينما، أن اهتزت الصالة نتيجة لزلزال خفيف، وانتاب المتفرجين شعور مؤقت بأن الانفجار الذي شاهدوه على الشاشة هو الذي سبب اهتزازا في صالة العرض. فإذا رفضنا قبول هذا التفسير، فنحن إنما نشير في هذا الرفض إلى أن الاتفاق الذي لوحظ ليس قابلا للتكرار.
ولما كان التكرار هو كل ما يميز القانون السببي من الاتفاق المحض، فإن معنى العلاقة السببية ينحصر في التعبير عن تكرار لا يقبل استثناء، ولا ضرورة لأن نفترض له معنى يزيد على ذلك. الفكرة القائلة إن السبب يرتبط بنتيجته بنوع من الخيط الخفي، وإن النتيجة مضطرة إلى أن تتلو السبب، هي فكرة يرجع أصلها إلى التشبيه بالإنسان، ومن الممكن الاستغناء عنها؛ فكل ما تعنيه العلاقة السببية هو «إذا كان كذا ... حدث كذا دائما». ولو كانت صالة السينما تهتز دائما عندما يظهر انفجار على الشاشة لكانت هناك علاقة سببية؛ فنحن إذن لا نعني أي شيء أكثر من ذلك عندما نتحدث عن السببية.
صحيح أننا في بعض الأحيان لا نقف عند حد تأكيد اتفاق لا يقبل استثناء، وإنما نبحث عن مزيد من التفسير؛ فالضغط على زرار معين يصاحبه دائما رنين جرس. هذا التطابق المنتظم يفسر بقوانين الكهرباء، التي تنبئنا بأن رنين الجرس نتيجة للعلاقة بين التيار الكهربي والمغناطيسية، ولكننا إذا انتقلنا إلى صياغة هذه القوانين، وجدنا أنها بدورها تنحصر في التعبير عن علاقة من نوع «إذا حدث كذا ... حدث كذا دائما». والعنصر الوحيد الذي تمتاز به قوانين الطبيعة على حالات الانتظام البسيطة التي يمثلها نمط ضغط الأزرار، هو أن الأولى تتصف بمزيد من العمومية؛ فهي تصوغ علاقات تتمثل في تطبيقات فردية متباينة لها أنواع شديدة الاختلاف؛ فقوانين الكهرباء مثلا تعبر عن علاقات اتفاق دائمة، تلاحظ في الأجراس ذات الأزرار المضغوطة، وفي المحركات الكهربائية، وفي أجهزة الراديو والسيكلوترون.
ويقبل العلماء عامة، في أيامنا هذه، تفسير السببية على أساس العمومية، وهو التفسير الذي صيغ بوضوح في كتابات ديفيد هيوم؛ فهو يرى أن القوانين الطبيعية لا تعدو أن تكون تعبيرا عن تكرار لا يقبل استثناء. وهذا التحليل لا يوضح السببية فحسب، وإنما يمهد الطريق أيضا لتوسيع نطاق السببية على نحو تبين أنه لا غناء عنه لفهم العلم الحديث.
अज्ञात पृष्ठ