ولأضرب بعض الأمثلة لإيضاح الطبيعة التنبئية للقوانين المجردة. فالقانون القائل إن النار ساخنة، يتجاوز نطاق التجارب التي بني على أساسها هذا القانون، والتي تنتمي إلى الماضي، ويتنبأ بأننا كلما رأينا نارا فسوف تكون ساخنة. وقوانين حركة النجوم تتيح لنا التنبؤ بالمواقع المقبلة للنجوم، وتشمل تنبؤات بملاحظات مثل كسوف الشمس وخسوف القمر. والنظرية الذرية في المادة أدت إلى تنبؤات كيمائية، أمكن تحقيقها في تركيب مواد كيمائية جديدة، بل إن جميع التطبيقات الصناعية للعلم مبنية في الواقع على الطبيعة التنبئية للقوانين العلمية، ما دامت تتخذ من القوانين العلمية أساسا لتكوين أجهزة تعمل وفقا لخطة مرسومة مقدما. ولقد كان بيكن على وعي واضح بالطبيعة التنبئية للمعرفة عندما قال كلمته المشهورة: المعرفة قوة.
ولكن كيف يستطيع العقل أن يتنبأ بالمستقبل؟ لقد أدرك بيكن أن العقل وحده لا يملك أية قدرة تنبئية، وهو لا يكتسب هذه القدرة إلا مقترنا بالملاحظة، والمناهج التنبئية للعقل متضمنة في العمليات المنطقية التي ننظم بها مادة الملاحظة ونستخلص نتائجها؛ فنحن إذن نصل إلى التنبؤات عن طريق أداة الاستخلاص المنطقي، وفضلا عن ذلك فقد أدرك بيكن أنه إذا كان للاستخلاص المنطقي أن يخدم أغراضا تنبئية، فلا يمكن أن يقتصر على المنطق الاستنباطي، بل ينبغي أن يشمل مناهج منطق استقرائي.
وفي استطاعتنا أن نزيد من وضوح هذا التمييز، الذي يرتكز عليه تطور النزعة التجريبية الحديثة، من خلال بحث طبيعة القياس. فلنتأمل المثل الكلاسيكي: «كل إنسان فان، وسقراط إنسان؛ إذن سقراط فان.» إن نتيجة هذا القياس، كما أوضحنا من قبل، تلزم تحليليا عن المقدمات، ولا تضيف إليها شيئا، وإنما هي تقتصر على أن تستخلص صراحة جزءا من مضمونها. هذا الفراغ يشكل ماهية الاستدلال الاستنباطي ذاتها، وهو الثمن الذي ينبغي دفعه لكي تكون للنتيجة صحة مطلقة. وفي مقابل ذلك، لنتأمل استدلالا مثل: «كل الغربان التي لوحظت حتى الآن سوداء؛ وإذن فكل الغربان في العالم سوداء.» في هذا المثال لا تكون النتيجة متضمنة في المقدمة، وإنما تشير إلى غربان لم تلاحظ من قبل وتطبق عليها صفة شوهدت في الغربان الملاحظة؛ ومن ثم فلا يمكن ضمان صدق النتيجة؛ إذ إن من الممكن أن نكتشف يوما ما في الفيافي النائية طائرا لديه كل صفات الغراب فيما عدا اللون الأسود، ولكن، على الرغم من هذا الاحتمال، فنحن على استعداد للقيام بهذا النوع من الاستدلال لا سيما حين يكون الأمر متعلقا بأشياء أهم من الغربان؛ فنحن نحتاج إليه عندما نريد إقرار حقيقة عامة، تشمل الإشارة إلى أشياء غير ملاحظة، ونظرا إلى حاجتنا هذه إليه، فإننا نكون على استعداد لتحمل مخاطرة الخطأ. ويسمى هذا النوع من الاستدلال باسم الاستدلال الاستقرائي، أو بتعبير أخص، استدلال الاستقراء التعدادي
induction by enumeration .
ويرجع الفضل التاريخي إلى بيكن في تأكيد أهمية الاستدلال الاستقرائي للعلم التجريبي؛ فقد اعترف بقصور الاستدلال الاستنباطي، وأكد أن المنطق الاستقرائي لا يمكنه أن يأتينا بالمناهج التي ننتقل بها من الوقائع الملاحظة إلى الحقائق العامة؛ وبالتالي إلى تنبؤات متعلقة بمزيد من الملاحظات، فلا يمكن أن يكون الاستدلال الاستنباطي تنبئيا إلا إذا كانت المقدمات تنطوي على إشارة إلى المستقبل.
مثال ذلك أنه لما كانت المقدمة «كل إنسان فان» تنطوي على إشارة إلى بشر مثلنا، ممن لم يموتوا بعد، فإنها تتيح استخلاصا استنباطيا للنتيجة القائلة إننا بدورنا سنموت يوما ما، ولكن مثل هذه المقدمة لا بد قد تكونت بواسطة استدلال استقرائي معين؛ وعلى ذلك فليس في وسع المنطق الاستنباطي أن يضع نظرية للتنبؤ، ولا بد من إكماله بمنطق استقرائي. ولقد كان المنطق الاستنباطي الذي عرفه بيكن، والذي ظل هو المنطق الاستنباطي الوحيد طوال بضعة قرون هو منطق أرسطو، وكان هذا المنطق قد نقل إلى أهل العلم في العصور الوسطى في مجموعة من الكتب تحمل اسم «الأورجانون» فقام بيكن بنشر كتاب يحمل اسم «الأورجانون الجديد
Novum Organum »، يتضمن منطقه الاستقرائي الذي وضعه في مقابل أورجانون أرسطو. ويعد هذا الكتاب، من الوجهة التاريخية، أول محاولة لوضع منطق استقرائي؛ ولذا فإنه، على الرغم من نقائصه العديدة، يحتل مكانة بارزة في الآداب العالمية.
كذلك فإن بيكن قد تجاوز الأشكال القديمة للمذهب التجريبي في موقفه الإيجابي من الاستدلال الاستقرائي. مثال ذلك أن «سكستوس إمبريكوس» كان قد هاجم المنطق القياسي على أساس أنه فارغ، ولكنه لم يقبل استخدام الاستدلال الاستقرائي، الذي رآه غير صالح لإثبات المعرفة؛ وعلى ذلك فقد كان على التجريبية الإنجليزية أن تحارب المثل اليوناني الأعلى للمعرفة ذات اليقين المطلق، التي تتخذ من الرياضيات أنموذجا لها. تلك كانت وظيفتها التاريخية، التي تجعلها رائدة للفلسفة العلمية الحديثة.
وعلى الرغم من اهتمام بيكن الهائل بالاستدلال الاستقرائي، فقد أدرك نقاط ضعفه بوضوح تام. ولكي يتغلب على هذه الصعوبات، وضع منهجا يصنف الوقائع الملاحظة على أساس صفة مشتركة. وهكذا درس طبيعة الحرارة بأن جمع في قائمة واحدة ظواهر متباينة تحدث فيها الحرارة، وفي قائمة أخرى ظواهر متماثلة لا تحدث فيها الحرارة، وفي قائمة ثالثة ظواهر تحدث فيها الحرارة بدرجات متفاوتة. ولقد كان تصنيفه خليطا عجيبا قارن فيه بين ملاحظات مثل وجود الحرارة في روث الخيل وبين غياب الحرارة في ضوء القمر. ومع ذلك فعلينا ألا ننسى أن التصنيف هو الخطوة الأولى في البحث العلمي، وأن بيكن لم يكن في موقف يسمح له بوضع نظرية في المناهج الاستقرائية للفيزياء الرياضية؛ لأن الفيزياء الرياضية كانت لا تزال في مهدها. صحيح أن جاليليو كان معاصرا لبيكن، وأن منهج جاليليو الرياضي كان أرقى من تصنيف بيكن الاستقرائي، غير أنه كان لا بد أولا من وضع منهج الفرض الرياضي (انظر الفصل السادس)، واستخلاص نتائجه الكاملة، قبل أن يتسنى اتخاذه موضوعا للبحث الفلسفي. ولم يتضح إمكان استخدام المناهج الاستنباطية مقترنة بالاستدلالات الاستقرائية إلا بعد ظهور نيوتن في الجاذبية، التي نشرت بعد حوالي ستين عاما من وفاة بيكن. وعلى ذلك فليس بيكن هو الذي ينبغي أن يلام على دراسته للمنهج العلمي من خلال أنموذج مفرط في البساطة يغفل دور الرياضيات في الفيزياء، وإنما الواجب أن يوجه هذا اللوم إلى التجريبيين المتأخرين، ولا سيما جون استورت مل، الذي وضع بعد مائتين وخمسين عاما من وفاة بيكن منطقا استقرائيا لا يكاد يرد فيه ذكر المنهج الرياضي، وكان في أساسه صياغة جديدة لأفكار بيكن.
إن منطق بيكن الاستقرائي ساذج؛ لأنه يرتكز على الثقة في قاعدة يجد الذهن العادي في نفسه الاستعداد لتطبيقها. ومع ذلك فقد كان ذلك من وجهة أخرى منطقا لا يستطيع العالم الاستغناء عنه، وليس لأحد أن يتوقع نقدا للمنهج العلمي في وقت كان فيه ذلك المنهج لا يزال في مهده، وكان يغمره التفاؤل بما أحرزه في أول عهده من نجاح؛ وإذن فمن الواجب أن يدرك مؤرخو الفلسفة الذين يعيبون على منطق بيكن الاستقرائي كونه غير علمي، أن حكمهم إنما يصدر على أساس معايير لم تعرف إلا في عصر متأخر.
अज्ञात पृष्ठ