على أن هذه النقائض المزعومة التي قال بها «كانت»، والتي تتعلق أساسا بلانهائية المكان والزمان، لم تصمد للاختبار المنطقي؛ فمن السهل حلها عن طريق المنطق الذي يعلم كيف يتعامل باتساق مع الأعداد اللانهائية. كذلك اتضح أن تفسيره للعلية والهندسة على أنها مبادئ يفرضها الذهن البشري على الأشياء، هو بدوره تفسير غير مقبول؛ فقانون العلية، إن كان يسري على الإطلاق، فلا بد أن يسري على الأشياء في ذاتها، وإلا لما أمكن استخدامه في التنبؤ بالملاحظات المقبلة؛ إذ إن الذهن البشري لا يخلق ملاحظاته، وإنما هو سلبي أساسا في عملية الإدراك الحسي. كذلك فإن الهندسة، كما نعرفها اليوم، تصف خاصية للعالم الفيزيائي (انظر الفصل الثامن). وهكذا لا تظل هناك حجة يرتكز عليها تحديده المصطنع لقوى العقل، وإدخاله لعالم ميتافيزيقي، هو عالم الأشياء في ذاتها. ومع ذلك فإن هذا الجزء غير العلمي من فلسفة «كانت»، منذ نشره في كتبه، قد أصبح منبعا ينهل منه أعداء العلم،
2
وقد استخدموه لتشييد مذاهب فلسفية تقلل من قيمة التفكير العلمي، وتزعم أنها تقيم عالما من الوجود المثالي، الذي لا يعرفه إلا الفيلسوف، والفيلسوف وحده.
وهكذا يؤدي المذهب العقلي إلى تلك النظرة المثالية، التي عرضت من قبل على أنها شكل خاص من أشكال المذهب العقلي، والتي تذهب لي أن الحقيقة النهائية تقتصر على المثل أو الأفكار، على حين أن الموضوعات الفيزيائية ليست إلا نسخا ناقصة من الموضوعات المثالية. ولقد كانت أكثر الصيغ التي عبرت عن هذه النظرية امتناعا، هي تلك القائلة إن العقل جوهر الأشياء جميعا، وهي الصيغة التي عبرت عنها الفقرة التي اقتبسناها في مستهل هذا الكتاب. وقد سبق لنا أن تساءلنا عن السبب الذي يرغم الفيلسوف على صياغة آرائه على هذا النحو، وفي استطاعتنا الآن أن نأتي بالجواب؛ فهذا السبب هو أن اهتمامه الأول ليس منصبا على فهم المعرفة، وإنما على شيء آخر؛ فهو يود أن يتصور المعرفة على نحو من شأنه أن يقدم أساسا للتوجيهات الأخلاقية، وهو يود أن يجعل للمعرفة يقينا لا يمكن أن يبلغه الإدراك الحسي أبدا؛ وذلك بقصد تشييد معرفة أخلاقية مطلقة موازية لهذا اليقين، وهو لا يجد غضاضة في عرض مذهبه بلغة مجازية؛ لأنه يسيء فهم لغة التفسير العلمي.
ولقد كان كاتب الفقرة المشار إليها هو هيجل
Hegel (1770-1831م) الذي اقتبسنا هذه الفقرة من مقدمته لكتاب «فلسفة التاريخ». وقد يكون من المفيد أن نقدم بعض الملاحظات عن فلسفة هيجل؛ لأن مذهبه يمكن أن يعد الصورة المتطرفة للموقف المثالي، أو ربما كان علي أن أصفه بأنه الصورة «الكاريكاتيرية» لهذا المذهب! إن هيجل يختلف عن أفلاطون وعن «كانت» في أنه لا يشاركهما إعجابهما بالعلوم الرياضية، وهو يختلف عنهما أيضا في أن أسئلته لا تبلغ من العمق ما بلغته أسئلتهما ، غير أن كل أخطائهما تتكرر عنده، وهو يكشف عن هذه الأخطاء بطريقة تبلغ من السذاجة حدا يجعل من الممكن دراسة مذهبه بوصفه أنموذجا لما لا ينبغي أن تكون عليه الفلسفة.
إن نقطة بداية فلسفة هيجل هي التاريخ، لا العلم؛ فهو يحاول تقديم وصف لتطور الإنسان التاريخي؛ أي لتلك الفترة التي تتوافر لدينا عنها وثائق مكتوبة من فترات التاريخ البشري، عن طريق تكوين بعض الأطر البسيطة التي يعتقد أنها تفسر التطورات التاريخية؛ فهناك إطار من هذه الأطر يشبه التاريخ بنمو الفرد؛ أي إن هناك مرحلة الطفولة التي تمثلها الشعوب الشرقية القديمة، ثم مرحلة الشباب التي يحددها بأنها العصر اليوناني، ثم عصر الإنسان الناضج الذي تحقق عند الرومان، ثم عصر الكهولة الذي يمثله عصرنا. وهو في نظر هيجل ليس عصر انحلال، وإنما عصر نضوج كامل، وأعلى درجات هذا النضوج الكامل هي تلك التي بلغتها الدولة البروسية، التي كان هيجل يشتغل فيها أستاذا في برلين. ولست أدري ماذا كان هيجل خليقا بأن يقوله عن بروسيا الهتلرية، ولعله كان يجعل لها مكانا تواصل به خط التطور التاريخي كما تصوره، ولكن لعله أيضا كان يؤثر أن يرجئ حكمه حتى يرى نهاية إمبراطورية هتلر.
هذا الإطار التنظيمي البدائي، الذي هو جدير بطالب مستجد يود أن يشيد لنفسه مذهبا فلسفيا خاصا به، أقل شهرة بكثير من إطار آخر من الأطر التاريخية التي وضعها؛ فقد رأى هيجل أن التطورات التاريخية تتحرك في كثير من الأحيان من طرف إلى آخر، مثل «بندول» الساعة، ثم تصل إلى مرحلة ثالثة تشتمل إلى حد معين على نتائج المرحلتين السابقتين. مثال ذلك أن النزعة المطلقة في السياسة تعقبها أحيانا ثورة ديمقراطية، تتطور بدورها إلى حكومة ذات طابع مركزي، تعترف بحقوق الشعب. وقد أطلق على هذا الإطار اسم القانون الديالكتيكي، وهو يسمي المرحلة الأولى ب «الوضع»
thesis ، والثانية ب «الوضع المضاد»
antithesis ، والثالثة ب «الوضع المركب» (أو المركب فقط
अज्ञात पृष्ठ