والواقع أن معظم القرارات الإرادية التي نواجهها هي قرارات مستخلصة من أهداف أكثر منها أساسية، نتخذها غايات لأنفسنا، ولهذا السبب كان للإيضاح المعرفي أهميته في المسائل الأخلاقية. ونستطيع أن نذكر في هذا الصدد، إلى جانب المسائل السياسية، المسائل التعليمية والصحية والحياة الجنسية والقانون المدني والقانون الجنائي ومعاقبة المجرمين. مثال ذلك أن مسألة ما إذا كان من الواجب وضع المجرم المحكوم عليه في إصلاحية، ليست مسألة أخلاقية، وإنما هي مسألة نفسية في نظر كل من يوافقون على أن تشريع الدولة ينبغي أن يسعى إلى تكوين أكبر عدد ممكن من المواطنين المتكيفين اجتماعيا. ولكن ما أكثر التجارب التي تشهد بأن الأشخاص الذين يخرجون من الإصلاحيات يكونون عادة مهيئين لعكس هذه الغاية!
ومع ذلك، فمن الحقائق النفسية المعترف بها أنه حتى عندما يتسم التوصل إلى إيضاح معرفي، يكون من العسير تغيير الاتجاهات الإرادية. فقد نعلم أننا ما كنا نرغب في هدف أساسي معين، فلا بد لنا أيضا من قبول قرار آخر معين، ومع ذلك نتردد في قبول هذا القرار. فقد نكون مقتنعين بأن المجرم ينبغي ألا يعاقب، وإنما يجب أن يوضع في بيئة تتيح له فرص إعادة التكيف من جديد. ومع ذلك فقد يكون من العسير التغلب على نداء العقاب، والرغبة في القصاص، وهي الرغبة التي أملت عددا كبيرا من النظم الشائعة في معاملة المجرمين. كذلك فإن أخلاق العلاقات الجنسية حافلة بعدد كبير من التحريمات، إلى حد أنه يصعب جدا التغلب على مظاهر التحامل المعتادة، حتى عندما تكون الاعتبارات النفسية قد أوضحت أن من واجبنا تغيير بعض تقويماتنا التقليدية إذا ما شئنا أن يكون الرجال والنساء في مجتمعنا أسعد وأصح. ففي كل هذه الحالات، ينغي أن تدعم النتيجة المعرفية بإعادة تكييف اتجاهاتنا الإرادية. وفي هذا الصدد تقوم التربية من خلال الجماعة بدور أساسي. فنحن لا نتعلم أننا نستطيع قبول التقويمات الجديدة إلا بالعيش في بيئة تطبق فيها هذه التقويمات، وفي مثل هذه البيئة وحدها تكتسب القوة التي تمكننا من أن نريد ما أثبت الاستنتاج المنطقي أنه نتيجة لأهدافنا الأساسية. فليست الحجج المنطقية بكافية لتسوية المشكلات النفسية المتعلقة بالاتجاهات الإرادية، بل إن المنطق، مقترنا بتأثير الجماعة، هو الذي يساعدنا على تنظيم تكويننا الإرادي.
فهل يكون من الممكن رد جميع المسائل الأخلاقية إلى أهداف أساسية مشتركة؟ الواقع أن كوننا جميعا من بني البشر، إنما هو شاهد يؤيد هذا الافتراض؛ إذ يبدو من المعقول أن تكون أوجه الشبه الفسيولوجية بين البشر منطوية على تشسه في الأهداف الإرادية. ولكن هناك وقائع أخرى تناهض هذا الافتراض؛ إذ إن هناك جماعات معينة، كالنبلاء في المجتمعات الإقطاعية، أو الرأسماليين في الدولة الرأسمالية، أو أعضاء الحزب المسيطرين على دولة تأخذ بنظام الحزب الواحد. تتمتع بمزايا واضحة نتيجة لاحتفاظها بامتيازات طبقتها.
وإني لأعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال ليست على هذا القدر من البساطة. فقد رأينا أن معرفة وجود علاقة لزوم بين الأهداف لا تؤدي بذاتها إلى تغيير في الاتجاهات الإرادية، أي أنه، إذا كان لهذه المعرفة أن تؤدي إلى إعادة نظر في القرارات، فلا بد أن تكون مصحوبة بتهيئة للرغبات الإرادية على نحو معين. فإذا كانت هذه التهيئة ضرورية وممكنة، فلا يهم كثيرا أن تكون متعلقة بقرارات أساسية أو بقرارات مستنتجة. فحتى الرغبات الأساسية تخضع لتأثير الجماعة، ومن الممكن أن تتغير نتيجة للقوة الإيحائية لبيئة تتمثل فيها رغبات أخرى ونتائجها.
وكثيرا ما يؤدي الإيمان بالأخلاق المطلقة إلى زيادة صعوبة عملية التكيف ضرورات الجماعة. فالشخص الذي يتشيع بتعاليم النظرية القائلة إن القواعد الأخلاقية تكون حقائق مطلقة، يصعب عليه إلى حد كبير أن يتخلى عن هذه القواعد، وقد يظل بمنأى عن تأثير عملية التكيف التي تمارسها الجماعة. وعلى العكس من ذلك، فإن الشخص الذي يعلم أن القواعد الأخلاقية ذات طبيعة إرادية
volitional ، يكون على استعداد لتغيير أهدافه إلى حد ما إذا رأى أن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها أن يتعامل مع الآخرين. فأساس التربية الاجتماعية هو تكييف المرء لأهدافه مع أهداف الآخرين. أما الأنانية الساذجة فتصادف مقاومة إذا ما وقفت في وجه أنانية الآخرين، وسرعان ما يكتشف الأناني أن من مصلحته التعاون مع الجماعة. فالأخذ والعطاء اللذان يتيحهما التعاون الاجتماعي يجلب رضاء أعمق بكثير مما يجلبه إصرار المرء بعناد على عدم التخلي عن أهدافه. وهكذا فإن الشخص الذي تربى في ظل نظرة تجريبية إلى الأخلاق، يكون أفضل استعدادا لكي يصبح عضوا متكيفا مع المجتمع ممن يؤمن بالمذهب المطلق.
وليس المقصود من ذلك أن التجريبي شخص يسهل عليه التلون حسبما يقتضيه الموقف. فهو على الرغم من استعداده للتعلم من الجماعة، يكون أيضا ميالا إلى توجيه الجماعة في اتجاه رغباته الإرادية الخاص. فهو يعلم أن التقدم الاجتماعي كثيرا ما يكون راجعا إلى مثابرة أفراد معينين كانوا أقوى من الجماعة. وهو يحاول مرارا وتكرارا أن يغير الجماعة على قدر استطاعته. ولهذا التفاعل بين الجماعة وبين الفرد تأثيره في الفرد والجماعة معا.
وعلى ذلك فإن التوجيه الأخلاقي للمجتمع البشري إنما هو حصيلة عملية تكيف متبادل. ولا يقوم الاعتراف بالعلاقات بين مختلف الأهداف إلا بدور محدود في هذه العملية. أما الدور الأكبر فتقوم به مؤثرات نفسية من نوع غير معرفي، تصدر من الأفراد لأفراد آخرين ، ومن الأفراد إلى الجماعة، ومن الجماعة إلى الأفراد. فالاحتكاك بين الإرادات والرغبات هو القوة الدافعة لكل تطور أخلاقي. لذلك كان من الممكن الاعتراف بأن القوة تقوم بدور رئيسي في تغيير التقويمات الأخلاقية وذلك إذا قيست القوة بأي شكل من أشكال النجاح في تأكيد رغبات المرء في مقابل رغبات الآخرين. على أن هذا المعنى، الذي هو أوسع المعاني، لهذا اللفظ، لا يقتصر على قوة السلاح؛ فمن الممكن أن تكون هناك صور أخرى للقوة لها نفس الفعالية، وربما أكثر؛ كقوة التنظيم الاجتماعي، وقوة طبقة اجتماعية اكتشفت مصالحها المشتركة، وقوة الجماعات المتعاونة، وقوة الكلمة المنطوقة والمكتوبة، وقوة الفرد الذي يشكل أنموذجا للجماعة عن طريق ضرب مثل رائع للسلوك. فالقوة حقا هي التي تتحكم في العلاقات الاجتماعية.
إن من واجبنا ألا نقع في خطأ الاعتقاد بأن الصراع على القوة خاضع لتحكم سلطة تعلو على مستوى البشر، تؤدي بهذا الصراع إلى غاية نهائية خيرة، كما ينبغي ألا نقع في خطأ آخر يرتبط بالخطأ السابق، وهو الاعتقاد بأن من الواجب تعريف الخير بأنه هو الأقوى؛ فقد رأينا أن ما نعده لا أخلاقية يحرز انتصارات كثيرة، وأن الخسة والأنانية الطبقية تحقق نجاحا كبيرا، ولكننا نحاول أن نحقق أهدافنا الإرادية، لا بتعصب المؤمن بحقيقة مطلقة، وإنما بإصرار الشخص الذي يثق في إرادته الخاصة. ولسنا ندرى إن كنا سنبلغ هدفنا. فمشكلة السلوك الأخلاقي، شأنها شأن مشكلة التنبؤ بالمستقبل، لا يمكن أن تحل بوضع قواعد تضمن النجاح؛ إذ إن مثل هذه القواعد لا وجود لها.
ولا وجود أيضا لقواعد نستطيع أن نكتشف بها هدفا أو معنى للكون. فهناك بعض الأمل في أن يكون تاريخ البشرية سائرا نحو التقدم، ومؤديا إلى مجتمع بشري أفضل تكيفا، على الرغم من أن هناك اتجاهات قوية تدل على عكس ذلك. أما الاعتقاد بأن العالم الفيزيائي يسير نحو التقدم بالمعنى البشري، فهو اعتقاد ممتنع. فالكون يسير تبعا لقوانين الفيزياء، لا تبعا لأوامر الأخلاق. وقد تمكنا، إلى مدى معين، من استغلال قوانين الفيزياء لمصلحتنا. وليس من المستبعد أن يجيء يوم نتمكن فيه من السيطرة على أجزاء أكبر من الكون، وإن لم يكن ذلك أمرا شديد الترجيح، وإنما الأرجح أن ينتهي الأمر بالجنس البشري إلى الفناء مع الكوكب الذي بدأت عليه حياته.
अज्ञात पृष्ठ