إن البديهيات الأخلاقية ليست حقائق ضرورية لأنها ليست حقائق من أي نوع. فالحقيقة صفة لقضايا أو أحكام، غير أن التعبيرات اللغوية الأخلاقية ليست قضايا أو أحكام وإنما هي توجيهات، والتوجيه لا يمكن تصنيفه على أساس أنه صواب أو خطأ؛ فمثل هذه الأوصاف الأخيرة لا تنطبق على التوجيه لأن الجمل التوجيهية لها طبيعة منطقية تختلف عن طبيعة الجمل الإخبارية أو القضايا.
فالأوامر، التي نستخدمها في توجيه أشخاص غيرنا، تمثل نوعا هاما من التوجيهات. فلنتأمل مثلا الأمر «أغلق الباب». هل هذا الأمر صواب أم خطأ؟ إن كل ما علينا هو أن ننطق بالسؤال لكي نرى مدى خلوه من المعنى، فالقول: «أغلق الباب» لا ينبئنا شيئا عن الأمر الواقع، كما أنه لا يمثل تحصيل حاصل، أي قضية منطقية. ولن نستطيع أن نقول ماذا يكون الحال لو كان القول: «أغلق الباب» صحيحا. فالأمر قول لغوي لا ينطبق عليه التقسيم إلى صواب أو خطأ.
فما هو الأمر إذن؟ إن الأمر قول أو تصريح لغوي نستخدمه بقصد التأثير في شخص آخر، وجعل الشخص الآخر يقوم بشيء نريده أن يقوم به أو يمتنع عن أداء شيء لا نريده أن يؤديه. من الأمور الواقعة أن من الممكن بلوغ هذا الهدف باستخدام الكلمات، على الرغم من أن هذه ليست هي الطريقة الوحيدة لبلوغه. فبدلا من أن نقول «أغلق الباب» نستطيع أن نمسك بيدي الشخص ونوجهها على نحو يؤدي إلى إغلاق الباب. ومع ذلك فإن هذا لن يكون من سوء الأدب فحسب، بل إنه لن يكون مريحا لنا؛ إذ إن من الأسهل في هذه. الحالة أن نقوم نحن أنفسنا بهذا العمل. لذلك نفضل أن ننتفع من تلك الصفة التي يتميز بها أقراننا من الناس، وهي أنهم مهيئون على نحو من شأنه أن يستجيبوا للكلمات بوصفها أدوات لإرادتنا. فلهجة الطلب التي يتصف بها الأمر تظهر بوضوح أن الأمر ليس عبارة تقريرية، حتى بالمعنى النحوي. ومع ذلك فنحن لا نعبر عن جميع الأوامر بلهجة الطلب. ففي استطاعتي أن أنطق بعبارة في الصيغة التقريرية، مثل «سأكون مسرورا لو أغلق الباب» بحيث يكون المعنى المقصود منها طلبا، بل أن هذه قد تكون وسيلة أفضل لبلوغ هدفي من الجملة التي صيغت في لهجة الطلب الآمر؛ إذ إن الأدب ليس طريقة الدبلوماسيين فقط، بل هو أيضا أمر مستحب في تلك المواقف الدبلوماسية البسيطة التي نواجهها في حياتنا اليومية. فتصريحنا هذا هو أمر متنكر في ثوب عبارة تقريرية.
ولكن أليس هذا التصريح: «سأكون مسرورا لو أغلق الباب» عبارة متعلقة برغباتي؟ إنه لكذلك بالفعل، وهو لا يستخدم على سبيل الأمر إلا في هذه الحالة وحدها. ومع ذلك فمن الصحيح أننا حيثما صرحنا بأمر كانت هناك عبارة أخرى متضايفة، تنبئنا عن إرادة شخص ما. وهكذا فإن الأمر «أغلق الباب» تناظرها العبارة التقريرية ««س» يرغب في أن يغلق الباب.» هذه العبارة قد تكون كاذبة أو صادقة، ومن الممكن تحقيقها، شأنها شأن غيرها من العبارات النفسية. وفي بعض الأحيان تستخدم العبارة المتضايفة محل الأمر، على أن من الأنسب، بالنسبة إلى أغراض التحليل المنطقي، أن نعبر عن الأوامر دائما بصيغة الأمر، وبالتالي أن نميز بينها وبين العبارات التقريرية تمييزا نحويا.
وعلى الرغم من أن الأوامر ليست صادقة ولا كاذبة، فإن الأشخاص الآخرين يفهمونها، وبالتالي يكون لها معنى، يمكن أن يسمى «معنى أداتيا
instrumental meaning ». ومن الواجب التمييز بين هذا المعنى وبين «المعنى المعرفي
cognitive meaning » الذي تتصف به العبارات التقريرية. وهو المعنى الذي عرفناه عند الكلام عن النظرية القائلة إن المعنى هو قابلية التحقيق (الفصل السادس عشر). وفضلا عن ذلك فإن لكل أمر متضايفا معرفيا تحدده العبارة التقريرية المتضايفة.
إن التوجيهات المتعلقة بأفعالنا الخاصة، شأنها شأن الأوامر، إنما هي تعبيرات عن الرغبة أو الإرادة، وهي بهذا الوصف ليست صادقة ولا كاذبة؛ وبالتالي فهي تنتمي إلى الأقوال أو التصريحات المعبرة عن الإرادة. ومن الممكن أن تتعلق الأفعال الإرادية بموضوعات متباينة؛ فنحن نرغب في الطعام والمسكن والأصدقاء واللذة وما إلى ذلك. ووجود الأفعال الإرادية فينا هو أمر واقع، فهي تتميز عن الإدراكات الحسية أو القوانين المنطقية بأنها تظهر كنواتج لنا نحن، في موقف يترك لنا اختيارا. ففي استطاعتي أن أذهب إلى المسرح أو لا أذهب، وإرادتي هي التي تجعلني أذهب، وفي استطاعتي أن أساعد شخصا آخر أو لا أساعده، وإرادتي هي التي تجعلني أساعده، أما مسألة أن لدينا حرية اختيار بحق أم لا، فتلك مسألة أخرى؛ ذلك لأنه يكفي، من أجل تعريف الفعل الإرادي، أن نؤمن على الأقل بأن لدينا القدرة على الاختيار، ولذلك فإن الكلام عن مصدر الأفعال الإرادية لا علاقة له بهذا التعريف، ولسنا في حاجة إلى أن نسأل في الوقت الحالي عما إذا كانت البيئة التي ننشأ فيها هي التي تهيئنا لرغباتنا الإرادية، أم أن هذه الرغبات تنبثق عن دوافع أساسية معينة، كالدافع الجنسي أو الدافع إلى حفظ الذات. فلنكتف إذن بالاعتراف بأن اتخاذنا قرارات إرادية توجه سلوكنا هو حقيقة نفسية واقعة.
ولا يتخذ القرار الإرادي صورة الأمر إلا عندما يكون متعلقا بأفعال يتعين على الآخرين القيام بها، وفي بعض الأحيان نصرح بالأمر مع التهديد بأن نستخدم في تنفيذه القوة، مثل قوة السلطات الحكومية أو سلطة الضابط على الجند، وفي هذه الحالة يسمى ذلك أمرا ملزما، وهناك أوامر أخرى تعبر عن رغبات، وتتخذ أيضا صورة الأمر، كما يحدث عندما نقول: «أعطني سيجارة من فضلك.»
فإذا ما وجه إلينا الأمر، أو أعرب عن الرغبة لنا، أي بعبارة أخرى إذا كنا في الجانب المتلقي للأمر، فقد تكون استجابتنا له إيجابية أو سلبية. ويكون قوام الاستجابة الإيجابية فعلا إراديا من جانبنا، متجها إلى تنفيذ الأمر، بل قد يتضمن استعدادا لإعطاء أوامر مناظرة لأشخاص آخرين، أما الاستجابة السلبية فقوامها فعل إرادي متجه ضد تنفيذ الأمر، ونحن نعبر عن هذا التقابل بلفظي «الصواب» و«الخطأ» (بالمعنى الأخلاقي). فإذا قيل لي «ينبغي أن تذهب لترى زيدا» فقد أجيب «هذا صواب» ثم أبدأ استعداداتي لزيارة زيد. وهكذا فإن الاستجابة الإيجابية لفعل إرادي يعبر عنه أمر، يكون قوامها فعلا إراديا ثانيا من نوع مشابه، يتولد لدى متلقي هذا الأمر، أما إذا كانت الاستجابة سلبية، فإن الفعل الإرادي الثاني يكون مضادا للأول. على أن الاستخدام اللغوي لا يميز دائما بمثل هذا الوضوح بين الطرفين؛ نعم ولا، أو «صواب» و«خطأ»، وإنما يستخدم كل منهما محل الآخر. ومع ذلك قد يبدو أن لنا الحق في النظر إلى التمييز المشار إليه من قبل على أنه تفسير صحيح لهذه الألفاظ.
अज्ञात पृष्ठ