منذ أسبوع أتى الكاهن الشيخ الذي أحبني مثل أولاده طيلة فتوتي السوداء، الدهماء، كقلبي الهرم ونفسي القديمة، قال لي: إن أبي قد خطبني إلى ن. س. الرجل الذي عاد حديثا من المهجر، وزاد أن الفرق كبير بيني وبين خطيبي، وأنه قد أبان فظاعة الأمر إلى أبي وخالتي، ولكنهما مصران لأن للرجل ثروة كبيرة، ثم أنهى حديثه قائلا: يا ولدي سلمي أمرك إلى الله.
لم يقل الرجل الصالح هذه الكلمات بصوت أرن كسائر الكهان الذين تعودوا أن يحملوا إلى الفتيات أحكام الاجتماع العرفية، قالها بصوت أجش حزين كأنه آت من الأعماق البعيدة.
ومنذ بلغت إرادة أوليائي أصبحت تلك المرأة الثعلبية لدنة الملمس كالحية، تبسم لي حبا وتقول للناس: إن فراقي أمر من الموت، وإذ تكلمني تخفض صوتها كمن يكلم سيدا؛ ذلك لأن ثروة خطيبي ستقلبني من ابنة الزوج المكروهة إلى محسنة محبوبة، فأبي سيشتري بثمني دارا، وزوجي سيحملني بعيدا حاملا معي أخوي.
هي اليوم دائبة لراحتي وتزييني؛ تأتي صباحا فتفتح الباب بهدوء وتهمس في أذن إخوتي أن لا يعكروا سكوني كي أنام.
في هذه الساعات الباقية لي أستحضر إلى ذهني تذكارات الماضي، فتبرز الرسوم حية، وتمر أمام عيني واضحة صحيحة كأنها لم تمر عليها السنون، ولم تطوها الأيام، تلك الرسوم المرتكزة في أخفى خفايا ذاكرتي، لا أستعيدها إلا والمرارة تملأ قلبي وترجف شفتي!
هذا البيت الذي سأفارقه أبديا كان لأمي من ذويها. هنا ولدت وتزوجت وماتت عروسا بيضاء كالزنبقة البيضاء، أراها الآن ماثلة أمامي صورة للمرأة الشرقية الغارقة في الأشغال الشاقة من الفجر إلى الليل.
تفيق فتوقد النار، وتغسل الثياب، أو تعجن الدقيق، ثم تهيئ فطور أبي، وبينما هو يأكل تقف أمامه بذل وخضوع، وإذ تطلب شيئا من حاجات العيال ينفر، فيلعن الحياة والزواج والأولاد ويخرج غاضبا، فتعود هي إلى تنظيف البيت وفي عينيها نظرات مظلمة، وحول فمها ملامح المذلة.
ثم تذهب إلى الموقد تحرك القدر، وتنقي الحبوب، وإذ تتناول الغذاء يبكي الرضيع، فتجثو قرب السرير، ثم يدخل أبي متعبا غاضبا فتقوم إلى خدمته، وإذ ينام ترفئ الثياب، وتظل تعمل إلى ساعة متأخرة. وكم استفقت في ليالي الشتاء الباردة فإذا بها قرب السرير تمسح دموعها الواحدة بعد الثانية!
وداهمتها الحمى وهي نحيلة ضئيلة، تروح في البيت وتجيء كالخيال، فلازمتها أخدمها بقلبي الصغير المملوء خوفا وحبا، ويوما طلبت الكاهن الشيخ، فدخل يحمل في يده كتابا وكأسا، فسرت إلى زاوية تقودني روح خفية، وجثوت أضرع إلى الله أن لا «يأخذها» ويتركنا يتامى، والتفت فإذا بها مستوية على وساداتها ووجهها أصفر كالشمع، ويد الكاهن فوق رأسها وفمه يتمتم كلمات كبيرة غريبة ...
فاقتربت ولصقت بذلك الفراش، وأخذت يدها الباردة وقلبي الصغير يرقص في صدري، فتململت ونظرت إلي بكل ما بقي فيها من الحياة، وقالت لي: «عديني يا ولدي أنك تهتمين بإخوتك من بعدي.» ثم سالت من عينها قطرات كبيرة، فاختبأت في صدرها أشهق وأقول: يا أمي! يا أمي!
अज्ञात पृष्ठ