لنرجع إلى الآلة التي اخترعها الأستاذ وديع، لقد اشتغل الأستاذ نهارا وليلا حتى بلغ ما يصبو إليه، وفي هذه الأيام يسمع من يسكن في جواره أنغاما رقيقة كأنغام العود تخترق الأثير، وتحمل إلى قلب كل من تتبع وديعا في جهاده عاطفة جميلة هي الشعور معه بسمو الفوز بعد الجهاد. وهذه الأنغام تخرج من طاولة خشبية بسط عليها الموسيقي اختراعه الذي سيعرضه بعد أسابيع قليلة على البيروتيين، فيعزف أمامهم الألحان الشرقية على البيانو المعروف، فيرون النقص فيه، ثم يعزف نفس الألحان على الآلة التي اخترعها، فيظهر الفرق جليا واضحا.
وقد اهتم أرباب الفن في باريس لهذا الاختراع يوم سافر إليها الأستاذ وديع صيف 1919، وعرض فكرته على صاحب معمل بلايل الذي كلفه أن يطلعه على كل ما يجد لديه، ووعده بصنع البيانو العربية حالما يتم اختراعها.
وليس صاحب معمل بلايل بالغربي الوحيد الذي يعرف قيمة هذا النابغة اللبناني، فقد سبق الأستاذ لافينياك الشهير وكتب عنه سطورا جميلة هي عبارة عن نبوءة تمت اليوم، وفي الأسطر التالية شيء من هذه المراسلة القديمة التي تدل على إقرار الغربي للشرقي بالنبوغ.
قال الأستاذ لافينياك:
عندما أتاني الأستاذ وديع صبرا سنة 1894 لم يكن يعرف كلمة في اللغة الإفرنسية، أو علامة من العلامات الموسيقية، والحق يقال: إنني لا أعلم كيف توصل إلى فهم الدروس التي كنت ألقيها على صفي، على أن نجاحه كان غريبا في بابه، فقد كان يتعلم بسهولة نادرة، وظهر لي أن الموسيقى شيء غريزي فيه.
واليوم أصبح أصيلا في علم الإيقاع، وقد برهن مرارا عديدة على مقدرة في التأليف، فهو موسيقي كامل الأوصاف، وليس هذا كل ما يقال عنه، فهو ممتاز بفضائل سامية، وبأخلاق رضية، وقد عرف أن يجعل نفسه حبيبا إلى كل رفاقه وإلى كل أساتذته. أما أنا فأسر لأنني أرى فيه - ما عدا التلميذ البارع - الصديق الحقيقي، وإنني له كذلك.
وكتب عنه الأستاذ نفسه في إحدى المجلات الموسيقية ما يأتي:
إن ما يجب إلفات النظر إليه هو مقدرته الفنية المضاعفة، فهو الموسيقي الوحيد الذي يعرف الفن الغربي والفن الشرقي في وقت واحد.
أما مواهبه الموسيقية فلم أرها في أحد من أبناء الشرق؛ لقد قدم فرنسا فتى، وتعلم فيها الموسيقى الغربية، على أنه لم يهمل موسيقى بلاده، فهو يسافر من حين إلى آخر إلى وطنه ويدرس فيه الموسيقى الشرقية، ولولا التوازن المتين في قواه العقلية لما نتج عن هذا الدرس المختلط سوى الاضطراب والتعقيد، على أن وديع صبرا قدر أن يملك ناصية الفنين في وقت واحد، فبينما هو يشتغل في تعميم الموسيقى الأوروبية في بلاده، نراه في باريس يشتغل بدون ملل بين أرباب الفن ليحبب إليهم الموسيقى العربية، ويكشف لهم مخبآتها.
ويلذ لي أن أصرح أن وديع صبرا هو أستاذ ذو مكانة سامية؛ فهو يكتب ويتكلم لغتين من لغات الموسيقى مختلفتين كل الاختلاف، ويفهم جمال الاثنتين على حد سواء. وهذا حدث مفرد في تاريخ الفن.
अज्ञात पृष्ठ