1 - سام وحام ويافث
2 - الاستيلاء المصري والآشوري
3 - الاستعمار الفارسي
4 - الاحتلال السلوقي
5 - الاستقلال النبطي
6 - بنو غسان والرومان
7 - بابل العصبيات والأديان
8 - الدولة الأموية
9 - الدول الكلبية
10 - الصليبيون
11 - هول هولاكو
12 - دولة المماليك
13 - أهوال تيمورلنك
14 - إلى المزبلة
15 - آل عثمان
16 - الدرك الأقصى
1 - سام وحام ويافث
2 - الاستيلاء المصري والآشوري
3 - الاستعمار الفارسي
4 - الاحتلال السلوقي
5 - الاستقلال النبطي
6 - بنو غسان والرومان
7 - بابل العصبيات والأديان
8 - الدولة الأموية
9 - الدول الكلبية
10 - الصليبيون
11 - هول هولاكو
12 - دولة المماليك
13 - أهوال تيمورلنك
14 - إلى المزبلة
15 - آل عثمان
16 - الدرك الأقصى
النكبات
النكبات
خلاصة تاريخ سورية منذ العهد الأول بعد الطوفان إلى عهد الجمهورية بلبنان
تأليف
أمين الريحاني
لو كان صحيحا أن ما يمكن عمله الآن قد عمل في الماضي، لما كان بقاؤنا على الأرض لازما، ولكان في اطراد الحياة فيها من الأعباء التي لا تطاق ... وما فضل أولئك الذين يمجدون الماضي ويعتقدون أن أسلافهم بلغوا درجة الكمال؟ وكيف يستطيعون أن يعيشوا أعزاء، وجل همهم أن يتحصنوا في حصون التقاليد والعادات البالية، وهم لا يشعرون بواجب في الحاضر، ولا بأمل في المستقبل؟
رابندرانات تاغور
لا أريد أن أسر المسلمين بكلمة. هؤلاء قوم كلما قال لهم الإنسان: كونوا بني آدم! قالوا: إن آباءنا كانوا كذا وكذا. فعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم، غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه اليوم من الخمول والضعة. وكلما أراد الشرقيون الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر، قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا؟
جمال الدين الأفغاني
نقله الأمير شكيب أرسلان في كتاب: «حاضر العالم الإسلامي»، صفحة 206
وقال أحد شعراء العرب الأقدمين، ينعى على التغلبيين قعودهم عن المكارم والمفاخر اكتفاء بمعلقة شاعرهم عمرو بن كلثوم:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبدا مذ كان أولهم
يا للرجال لشعر غير مسئوم
واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات (العقوبات) لسوء أفعالهم، فتذكروا في الخير وفي الشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم.
نهج البلاغة
لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم مولودون لزمان غير زمانكم.
عمر بن الخطاب
ليكن أبناؤنا خيرا منا جسما، وعقلا، ومجتمعا، وأخلاقا.
المعهد القومي للتربية الأخلاقية
في ولايات أميريكة المتحدة
إخواني أبناء هذه البلاد، سهلها وجبلها وساحلها
كثيرا ما نقرأ ونسمع أن تاريخنا مجيد،
وكثيرا ما نتغنى بمجد الأجداد وبمفاخر الأجداد،
فتعالوا نعيد النظر في أهم ما في التاريخ،
تعالوا نزور الماضي الذي ألهانا عن كل مكرمة،
تعالوا نزور الماضي فنقصر إذ ذاك من ذكر الأجداد. •••
ومن هم الأجداد، أجدادي وأجدادكم؟
القوي منهم كان ظالما، والضعيف كان مستعبدا.
اقرءوا التاريخ منزهين عن الأغراض، مجردين من الأهواء.
اقرءوا التاريخ لتدركوا اللب فيه، فتنسوا إذ ذاك قريضه وقوافيه.
اقرءوا التاريخ متفهمين روحه وروح أبطاله، فتودون إذ ذاك أن تنسوا الماضي. •••
انسوا الماضي، انسوه غير آسفين،
ولا تتكلوا على أحد في الدنيا أو في الآخرة.
ظفر الميت خيال لا يفيد، وظفر الأجنبي من حديد.
إذن، ما حك جلدك مثل ظفرك.
إذن، تعالوا نتفاهم، فنتآلف، فنتضامن، فنتحد في سبيل الوطن، بل في سبيل الحياة.
تعالوا نكتب صفحة جديدة في تاريخ هذه البلاد.
أمين الريحاني
الفريكة، لبنان
في 20 يناير سنة 1928
و27 رجب سنة 1346
الفصل الأول
سام وحام ويافث
أنت سورية بلادي،
1
وهذا تاريخك في ستة مجلدات ضخمة،
2
ألفه صديقي الأستاذ محمد كرد علي وسماه خطط الشام.
3
والخطط جمع خط وخطة؛ أي الأرض التي تنزلها ولا ينزلها نازل قبلك، فتخطها بعلامة تشير إلى أنك اخترتها للبناء وحظرتها على غير قومك من الناس. والخط الطريق الشارع، وهذا أقرب إلى الحقيقة في تاريخ سورية.
الطريق الشارع، طريق الفاتحين.
ولكننا خططناها مرة واحدة بعلامات احترمتها الأمم، فكان ذلك الحقب العربي المجيد، وكانت تلك الدولة العربية، العزيزة الجانب، التي استمرت نحو تسعين سنة، وبالتدقيق إحدى وتسعين سنة وعشرة أشهر.
وما سوى ذلك، فالخطط طرق شارعة تخضبت بدماء الأمم، والخطط علامات تجمدت دموعا على وجه الزمان. والشاهد على ذلك هذا التاريخ المنقطع النظير في تواريخ الأمم. أجل، إن هذا التاريخ، الذي هو تاريخ الأمم، ليشهد في كل صفحة من صفحاته على ما أقول.
وهو تاريخ طويل، ممل مفجع، لا يقدم على مطالعته غير القليل ممن يهمهم أخبار الأولين، وفظائع الحكام الغابرين.
إني إذن ملخصه لك في هذه النبذة الواحدة، التي يمكنك أن تقرأها في جلسة واحدة، ثم تنشد إذا شئت نشيد فخري البارودي، أو غيره من الأناشيد الوطنية الخيالية العديدة.
سأبدأ بالعلامات الأولى، علامات الحدود، وقد أعانتنا في خطها الطبيعة. أي بلادي، إن الرمال والجبال والأنهر والبحار تحيط بك، فتتعاون في تعزيز حدودك. هو ذا البحر المتوسط يمده البحر الأحمر عند العقبة، وهي ذي الجبال تقوم لحراستك في الشمال، وهناك الفرات وقد استل سيفه في الشرق. ثم البادية، تلك الحليفة الصادقة المنيعة، وقد شيدت في الجنوب حصونها.
على أن ذلك كله لم يغنك شيئا؛ فقد كنت، بلادي، الطريق الشارع، طريق الفاتحين، ومحجة الأمم. جاءوك صائلين بحرا وبرا، ومن وراء الجبال، ومن وراء الصحراء، ومما دون الفرات ودجلة وبحر الروم. جاءك الآشوريون، والمصريون، والفرس، واليونان، والرومان، والعرب، والصليبيون.
وجاءك هولاكو عدو العمران، وتيمورلنك عدو الإنسان، وابن عثمان كابوس الزمان.
ثم جاءك من الغرب فاتح كرسكي وهو ينشد ضالة الإسكندر، وجاءك من مصر ابن ألباني عظيم ينشد ضالة الكرسكي الأعظم بونابرت.
وجاءك مع الفاتحين، وقبلهم وبعدهم، طائفة من الآلهة، ورهط من الرسل والأنبياء، لو وزع ثلثهم على العالم لبلبلوه، وقد بلبلوا نصفه، والعياذ بالله!
لنعد إلى تعريف الخطط. فالخط والخطة أرض تنزلها، ولم ينزلها نازل قبلك ... إلخ.
لا يصح هذا التعريف إذن في غير الشعوب التي سكنت هذه البلاد بعد الطوفان، ولكن المؤرخين مختلفون في ذلك. والأرجح أن أقدم الشعوب في هذه البلاد هم الحثيون والعبرانيون والفينيقيون.
أما الحثيون فكانوا يسكنون في الشمال، أو بالحري، في الأرض التي تمتد من جبال طوروس إلى دمشق، وكان ملكهم مقسما إلى خمس دويلات؛ أهمها اثنتان، تلك التي كانت قرقميش (جرابلس) عاصمتها، وتلك التي نشأت في دمشق وحولها.
وكان الفينيقيون يقطنون السواحل من طرطوس إلى صور، والعبرانيون يسرحون ويمرحون في المنطقة الجنوبية التي تدعى فلسطين.
وهناك من يقول - والقول مثبوت في التوراة - إن الهجرة الكنعانية هي الهجرة الأولى إلى هذه البلاد، التي كانت تدعى بأرض كنعان، أحد أبناء حام؛ فالحاميون إذن هم أول من توطنوا هذه البلاد، بلاد كنعان، التي كانت تشمل لبنان وسورية وجميع أرض الحثيين حتى النهر الكبير، نهر الفرات.
وقد كان فيها عندما دخلها بنو إسرائيل، بعد خروجهم من مصر، واحد وثلاثون ملكا (في التوراة - يشوع 12: 7-24 - أسماؤهم وأسماء ممالكهم كلها).
وجاء موسى إلى أرض كنعان بإله اسمه يهوه، وكان الكنعانيون يعبدون إلها اسمه بعليم، فاحترب الإلهان وغلب اليهوه البعليم.
ثم أسس لرب الأسباط مملكة كبيرة في الجنوب، هي مملكة يهوذا التي شيدها شاوول (1030 قبل المسيح)، ووسع نطاقها داود، وضفر لها سليمان أكاليل المجد.
وكانت مملكة بني حداد
4
قائمة في دمشق، وقد دفعت الجزية، بالرغم عن استقلالها، للملك سليمان.
وبعد موت سليمان (933ق.م)، انقسمت مملكة الجنوب إلى مملكتين: يهوذا وإسرائيل.
وكانت عاصمة إسرائيل شكيم (نابلس)، وكان بين إسرائيل ويهوذا من الحروب ما هو مدون في التوراة. أما ملوك دمشق فكانوا يشنون الغارات على إسرائيل في أثناء تلك الحروب، وأبوا بعد موت سليمان أن يدفعوا الجزية إلى أورشليم. بيد أنهم على ما يظهر كانوا موالين للفينيقيين، وقد أشركوا مع ربهم «رمان» في العبادة ربة فينيقية عشتروت.
أما الفينيقيون، فقد كانوا بعيدين أكثر من سواهم عن الحروب، ومنصرفين كل الانصراف إلى التجارة.
هذي هي الدويلات التي كانت مؤسسة قبل الاستيلاء المصري، وأثناءه في سورية. وبعد انقراضها - كما سيجيء في الفصل الثاني - عم اسم آرام هذه الديار، فأصبحت تسمى آراما، وسكانها آراميين.
وآرام هو الابن الخامس لسام بن نوح، كان يسكن وبنيه بعد الطوفان في الجزيرة ما بين النهرين، قبل أن ينزح إلى هذه البلاد.
هو إذن جد العرب، كما أن العرب أجداد الفينيقيين، وقد جاءوا من البحرين، على الخليج العجمي، برا وبحرا إلى شواطئ البحر المتوسط.
5
كلهم إذن - الآراميون والعرب والفينيقيون والعبرانيون - ساميون، إلا الحثيين والكنعانيين، فهم من نسل حام.
فهل أنت وأنا وإخواننا القاطنون اليوم هذه الديار من سلالة الآراميين ، التي امتزجت فيها سلالات الحثي والكنعاني والفينيقي والعبراني؛ أي الحامي والسامي؟
6
ولكن المؤرخين يقولون إن في هذه البلاد شعوبا من سلالات أبناء نوح الثلاثة؛ أي حام وسام ويافث.
7
وقد يختلط في بعضهم الدم القفقاسي بالدم الأفريقي والتركي والعربي.
سام وحام ويافث، رضي الله عن الثلاثة الأجداد.
ومما لا ريب فيه أن في بلادنا، أو بالحري في شخصية أهل البلاد ودمهم، ما لا يزال متوارثا من آثار الشعور الغابرة كلها - الكنعانية والإسرائيلية والمصرية والآشورية والحثية والفينيقية والآرامية والكلدانية والفارسية واليونانية والرومانية والتترية والعربية!
فهل يا ترى في العالم أجمع بلاد أخرى مثل هذه البلاد السورية؟
بلادي موطن العصبيات أنت ومدفن الوطنية.
الفصل الثاني
الاستيلاء المصري والآشوري
قبل أن تأسست مملكة يهوذا بنحو ستمائة سنة؛ أي في القرن السابع عشر قبل المسيح، كانت البلاد السورية كلها تابعة لمصر،
1
أو بالحري كانت الدويلات الحثية والفينيقية والكنعانية، حفظا لاستقلالها النوعي، تدفع الجزية وتقدم الجنود لحكومة فرعون.
يثبت ذلك ما اكتشف في تل العمرنة على شاطئ النيل سنة 1887 للمسيح، من الرسائل المكتوبة على قطع من الآجر، المرسلة من ملوك سورية وفلسطين إلى ملوك مصر: «إننا نقدم الخراج طائعين، وندعو لفرعون بالنصر المبين.»
وقد طالما تطورت السيادة المصرية في هذه البلاد، فكانت تضعف وتقوى، وتتضاءل وتتجسم، تبعا لما يكون من حال الدولة السائدة، أو من أحوال الدول المسودة؛ ففي عهد رعمسيس الثاني مثلا، كان الملوك الحثيون والفينيقيون والكنعانيون والعبرانيون يدفعون الجزية ويقدمون الجنود صاغرين. وفي عهد سليمان الحكيم اضطر فرعون أن يصاهر سيد أورشليم وملك يهوذا، ليظل هذا مواليا له.
بعد ذلك تضاءلت السيادة المصرية في هذه البلاد، واستمرت كذلك إلى أن جاء من وراء الفرات الفاتحون الآشوريون في القرن التاسع قبل المسيح،
2
فتنازعوها والفراعنة، وتطاحنوا في سبيلها التي لم تكن لأهل البلاد غير سبيل العبودية.
وكان الفينيقيون أول من سلموا للآشوريين، ثم استعان الإسرائيليون بالفاتحين على أهل دمشق، الذين كانوا يشنون عليهم الغارات، فصاروا لقاء تلك المساعدة يدفعون الجزية لملك آشور.
ثم اتحد ملك إسرائيل وملك دمشق (733ق.م) على آخر ملوك يهوذا، فاستعان هذا بالآشوريين عليهما فأعانوه، ووضعوا بعد ذلك على رقبته النير، فأمسى الملك أميرا يدفع الجزية إلى سيد البلاد الأكبر ثغلات فلازر.
كذلك كان الفاتحون في ذلك الزمان ينصرون ملكا على ملك، وأميرا على أمير، ليتم لهم النصر على الجميع. ليس في سياسة الفاتحين والمستعمرين شيء جديد.
وفي العقد الأخير من القرن السابع (607ق.م)، زحف الفرعون نخو غازيا سورية، ليعيدها إلى حوزة مصر، فاستولى على القسم الجنوبي منها، ولكن نبوخذ نصر ملك بابل جاء بعد عشر سنوات يخرج المصريين من البلاد، فالتقى عندما وصل إلى قرقميش، عاصمة الحثيين الأولى، بملك مصر، فالتحم الجيشان هناك (597)، وكانت الغلبة للبابليين.
استمر بعد ذلك نبوخذ نصر في حملاته، فاستولى على سورية وعلى مملكة يهوذا، وظلت السيادة البابلية عزيزة في البلاد ستين سنة؛ أي منذ وقعة قرقميش إلى حين سقوط بابل (538) بيد الفرس؛ فيكون الاستيلاء الآشوري البابلي قد دام في سورية نحوا من ثلاثمائة سنة.
أما العرب فلا ذكر لهم في تاريخ سورية قبل عهد الآشوريين،
3
أقول هذا على احترامي للأستاذ كرد علي، الذي يريد أن ينزلهم في بلاد الشام قبل كل نازل حتى قبل الكنعانيين. بيد أن المؤرخ رولنسون يقول إنه كان للعرب في بلاد الكلدانيين، ما بين النهرين، ملك دام مائتين وخمسا وأربعين سنة (1543-1298ق.م)، ولا يقول أكثر من ذلك.
وقيل إن دولة الرعاة في مصر (1900-1525ق.م) كانت دولة عربية، ولكنها لم تكن على شيء من الحضارة، وقد كان عهدها الطويل فظيعا في شطره الأول، وعقيما في أطواره كلها. فلا عجب إذا كره المصريون الملوك الرعاة، وقام عليهم الفرعون آموسيس، مجدد النهضة الوطنية، فأخرجهم من البلاد (1525)، وزحف بعد ذلك إلى سورية يؤدب السوريين لظنه أن الرعاة منهم، فكان فاتحا مظفرا.
ومن المؤرخين من يقول إن الملوك الرعاة سوريون، ولا فخر، فقد أقاموا في مصر نحوا من أربعمائة سنة، وهم يأكلون من طيباتها، ويفسدون ويخربون، وما أكلت سورية بسببهم غير النبوت وخبز العبودية.
الفصل الثالث
الاستعمار الفارسي
كانت الدولة الحثية الشمالية أكبر الدويلات السورية اقتدارا، وأشدها بطشا، فغلبت حتى المصريين مرة، وأخرجتهم من فينيقية ومن أرض كنعان الجنوبية.
ثم تحطمت الدويلات الحثية كلها تحت سنابك خيل الفاتحين من الشرق ومن الغرب؛ إذ احترب المصريون والآشوريون في قلب البلاد - وعليها - كما أسلفت القول، وعم فيها الويل والبلاء.
وما خف البلاء والويل في زوال الاستيلاء الآشوري البابلي، فعندما خلع قورش ملك الفرس نير البابليين، وأسس الدولة الأشمونية الفارسية الآرية، التي قامت على أنقاض الدولة الآشورية، شرع يبسط سيادته على البلدان التي كانت في حوزة ملوك بابل ونينوى، فتم في عهده وعهد ابنه قمبيسس الاستيلاء الفارسي الآري على البلاد السورية كلها، سهلها وجبلها وساحلها، وتجاوزها إلى الجزر كقبرص وغيرها، بل إلى بلاد الإغريق ومصر وأفريقية.
كان حكم الفرس في هذه البلاد، بل في كل البلدان التي فتحوها، حكما استعماريا عسكريا، ولم يكن للوطنيين يد فيه البتة، فكان الملك يعين حاكما من رجاله أو من آل بيته، ويمده بجيش من أهل مادي وفارس لحفظ النظام والأمن والطاعة.
أما أهل سورية، فلم يجند الفرس منهم إلا للغزوات والفتوحات في البلدان الأخرى، كما كان الأتراك مثلا يجندون السوريين لمحاربة أهل اليمن وعسير.
وكان لدولة الفرس أسطول عظيم يربو عدد مراكبه على الألف، كلها من صنع أهل فينيقية وقبرص واليونان. أما رجال الأسطول وجنوده، فمن أهل مادي وفارس، ولا غرو، فكيف تثق الدولة بالأهالي وحكمها فيهم حكم المستعمر المستأثر المستبد؟ حكم طاغية يقول: ادفعوا الضرائب وقدموا الجنود طائعين صاغرين، وإلا فهذه كتائبي عندكم تعلمكم الطاعة أو تبيدكم!
استمر هذا الحكم الفارسي العسكري الاستعماري في البلاد السورية مائتين وثماني وعشرين سنة (558-330ق.م)، وبينما كانت الثورات تضطرم في البلدان الأخرى لخلع نير الأجنبي، فتحررت اليونان سنة 449، وتحررت مصر سنة 405، لم يحدث في سورية غير ثورة واحدة صغيرة غير ظافرة، وذلك في الجهة الفينيقية، وفي شرقي الأردن الذي كان يقطنه الأدوميون.
لم تكن سورية لملوك الفرس سوى طريق إلى مصر وأفريقية وبلاد الإغريق، والطريق التي يسلكها الفاتحون يجب أن تكون آمنة، ويجب أن يكون فيها ما يكفي لتموين الجيوش. أما الأمن فقد أوجده ملوك الفرس - كما قلت - بما كان لهم من الحاميات الفارسية في البلاد. وأما التموين فأمره موكل بالخراج، والخراج ينمو نماء عجيبا في ظل الرماح: هاتوا الأموال، وهاتوا الأرزاق، وهاتوا رجالكم للحروب!
مائتان وثمان وعشرون سنة من هذا الاستعمار الشرقي! وبعد ذلك؟ إن مصرع الباغي وخيم وإن تأخر مائتي سنة؛ فقد أرسل الله الإسكندر - إسكندر بن فيليبوس المقدوني - ليؤدب الدولة الفارسية الأشمونية التي كان يسوسها في آخر عهدها النساء والعبيد والخصيان.
وكان دارا الثالث - آخر ملوك الأشمونيين - قد هم باسترجاع بعض البلدان التي خسرها أسلافه السفهاء، فزحف بجيشه إلى سورية وقد اعتزم أن يغزو بلاد الإغريق.
ولكن الإسكندر كان قد عبر البحر إلى آسية (334ق.م)، ومعه خمسة وثلاثون ألف مقاتل، فالتقى بقسم من الجيش الفارسي في الأناضول، وكانت هناك وقعة «الغرانيق» التي كتب له فيها النصر الآسيوي الأول.
واستمر الفاتح الشاب زاحفا على سورية، فوصل إلى خليج الإسكندرونة، حيث كان الملك دارا وهو متأهب للحرب، فالتحم الجيشان في وقعة إيسوس (333) شمالي الخليج، وكانت الغلبة فيها للمقدونيين.
تقهقر الملك دارا بما تبقى من جنوده إلى الشرق، واستمر الإسكندر زاحفا إلى الجنوب، فوقع الرعب بعد وقعة إيسوس في قلوب الفينيقيين والسوريين، فدان أكثرهم له طائعين. «ولما وصل إلى جبيل، تلقاه أهلها بالبشر والحفاوة.»
أما صور فأبت التسليم، ودافع أهلها دفاع المستبسلين في حصار دام سبعة أشهر، ثم سلموا، وكان قد أرسل الإسكندر أحد قواده إلى دمشق فاحتلها بجنوده، واستحوذ على خزائن دارا وما كان في المدينة لأعيان الفرس من المتاع والأموال.
وفي مدة لا تتجاوز العشرين شهرا أخرج الفاتح المقدوني الفرس من البلاد السورية كلها، كما أخرج الأحلاف الترك في هذا الزمان.
أجنبي ينقذنا من أجنبي على الدوام!
الفصل الرابع
الاحتلال السلوقي
بعد وفاة الإسكندر في بابل (323ق.م)، اقتسم قواده مملكته الشاسعة: فكانت سورية الشمالية وما دونها شرقا إلى حدود الهند، حصة سلوقس نيكاتور؛ أي الفاتح. واستولى بطليموس على مصر، وعلى فلسطين وما يليها شرقا وشمالا.
كانت بابل في البدء عاصمة الدولة السلوقية، فنقلها سلوقس بعد عشر سنوات إلى أنطاكية، ليتمكن من محاربة أعدائه في الغرب.
تأسست هذه الدولة سنة 312 قبل المسيح، وبلغت ذروة المجد في عهد أنطيوخس الثالث الملقب بالكبير (223)، الذي حكم خمسا وثلاثين سنة، وبسط سيادته على البلاد السورية كلها ما عدا البتراء وما يجاورها، التي كانت يومئذ في حوزة الأنباط. وقد أغضب أنطيوخس الكبير الرومانيين بسياسته وحروبه، فحملهم على التدخل في أمور الشرق، فجر ذلك فيما بعد إلى الفتوحات الرومانية التي قضت على الدولة السلوقية.
بيد أن هذه الدولة ظلت قائمة على أركان متزعزعة أكثر من مائة سنة بعد أنطيوخس الكبير، وقد كانت خصوصا في هذه الحال، وإجمالا في كل أحوالها، مثل الدول التي تقدمتها ظلما واستبدادا.
إلا أنها لم تكن محض استعمارية أو صرف يونانية؛ فقد قسم السلاقسة البلاد إلى مقاطعات يحكمها حكام يعينهم الملك، وكانت الوظائف الصغيرة بيد أناس من الوطنيين، وكان الجيش المرابط من أهل البلاد، إلا أن ضباطه يونانيون.
قال المؤرخ: «كانت دولة السلاقسة دولة حرب ونزاع، فغدت الشام في حالة بؤس ونحس، رومة تطالبها ببسط سلطانها عليها، ومصر تحاربها لتضمها إليها، وأهل فارس يجتاحونها، فمنيت البلاد بضعف الحال وقلة الرجال.»
وقد تفككت تلك الدولة في آخر عهدها لما قام فيها من الحروب الأهلية بين الإخوان وأبناء العم الطامعين كلهم بالملك، فخرجت صور وصيدا وغيرهما من مدن الساحل على أنطاكية، وأعلنت استقلالها.
ورفع أهل الشام أصواتهم شاكين محتجين، ثم استنجدوا وقد ضاق ذرعهم، بأجنبي على أجنبي. أجل، قد استغاث الدمشقيون بتغران ملك أرمينية، فأغاثهم وأنقذهم من السلاقسة (83ق.م)، وحكم الشام بعد ذلك ثماني عشرة سنة كانت اللاحقة للسابقة عينا: سبحان الله! لقد أنسانا الأرمني ظلم السلوقي!
ثم جاء الرومان سنة 69 يؤدبون الأرمني تغران، لتدخله في حرب من حروبهم في الشرق، فأخرجوه من دمشق كما أخرج الفرنسيس فيصلا في هذا الزمان .
وبعد أربع سنوات من خروج تغران، جاء القائد الروماني بمبيوس (65ق.م)، فأزال ما تبقى من سيادة السلاقسة، وحول ملكهم السوري إلى ولاية رومانية ...
من أجنبي إلى أجنبي على الدوام!
الفصل الخامس
الاستقلال النبطي
وأين كان العرب في كل هذه الأزمنة، أزمنة الاستعمار الفارسي واليوناني؟
يقول المؤرخون إن الأدوميين من العرب، وإنهم كانوا يقطنون البلاد التي تسمى اليوم بالشرق العربي. أما الأنباط فقد جاءوا من دومة الجندل
1
في القرن الرابع قبل المسيح (312)، فغزوا أرض الأدوميين وأخرجوهم منها، ثم أسسوا هناك ملكا جديدا دام نحوا من ثلاثمائة سنة، فكانوا إذن معاصرين للسلاقسة وللرومان في أول عهدهم في بلاد الشام.
ومن هم الأنباط؟ يقول العرب إنهم سوريون، وكان الرومان واليونان يقولون إنهم عرب، أما أنهم ساميون ومن نسل إسماعيل، فمما تشهد عليه التوراة (تكوين 28: 9): «فذهب عيسو إلى إسماعيل وأخذ محلة بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت (جد الأنباط).»
ولكننا لا نعود بالقارئ إلى ذاك الزمن الأقدم، وعندنا ما هو واضح ومؤكد في الزمن القريب من العهد المسيحي؛ أي في عهد المكابيين والسلاقسة اليونان.
جاء ذكر الأنباط لأول مرة في سفر المكابيين، وقد غزا أحد الملوك السلاقسة سنة 132ق.م المملكة النبطية وعاد خاسرا. ففي هذين التاريخين ما يدل على أن الأنباط احتلوا البلاد التي هي عبر الأردن في بداية القرن الرابع قبل المسيح، وأن مملكتهم بعد مائة وسبعين سنة، كانت عزيزة الجانب، فلم يتمكن السلاقسة من الاستيلاء عليها.
وكانت تمتد هذه المملكة بين فلسطين وخليج العقبة ووادي الحجر وبحر الروم، أما عاصمتها فالبتراء، وتدعى أيضا سلع، بوادي موسى.
قال مومسون: إن البدو واليهود والنبطيين كانوا على عهد بمبيوس الروماني أصحاب السلطان في الشام.
والظاهر أن ملك البتراء الحارث الثالث دخل دمشق سنة 85 قبل المسيح، قبل أن يستنجد أهلها بالملك الأرمني تغران بسنتين. قد يكون جاءهم الحارث فزعا، أو ليصلح بينهم وبين السلاقسة؛ لأنه كان مشهورا بحبه لليونان، فلم يفلح على ما يظهر في مسعاه السلمي أو الحربي، فاستنجد الدمشقيون بعدئذ بتغران.
ولكن الأنباط عادوا إلى دمشق في عهد الحارث الرابع؛ أي بعد استيلاء الرومانيين عليها، وظلوا أصحاب السيادة الوطنية فيها أكثر من مائة سنة. هي سيادة وطنية مقيدة بسياسة رومة الخارجية.
جاء في الإنجيل (رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنتيوس 11: 32): «في دمشق والي الحارث الملك، كان يحرس مدينة الدمشقيين، يريد أن يمسكني، فتدليت من طاقة في زنبيل من السور، ونجوت من يديه.»
مما يدل على أن ملوك الأنباط لم يسرعوا إلى التنصر، ولا غيروا عاصمتهم البتراء، فعندما استولوا على دمشق عملوا عليها أحد رجالهم.
ومما أجمع عليه المؤرخون أنهم كانوا يدارون الرومان ويمالئونهم، فيقدمون لرومة الجنود لقاء تلك السيادة، ويدفعون شيئا من الخراج.
قال المؤرخ: «إن بمبيوس لما فتح الشام واستولى على دمشق وما جاورها، أبقى لدمشق استقلالها، وكذلك لبصرى وجرش وعمان.»
نولي عليكم واحدا منكم على شريطة أن تعترفوا بسيادتنا، فتدفعوا الخراج وتقدموا عند اللزوم الجنود.
هو الحكم اللامركزي - الحكم الروماني العربي، أو بالحري النبطي - الذي دام أكثر من مائة سنة في حال من الخلل والفساد تغاضت عنه رومة؛ لأنها كانت في مثلها، بل في حال أشد منها.
لكن الإمبراطور تراجان (98-117م) لم يرض بتلك الأحوال المخجلة، فنهض لإصلاحها ولسان حاله يقول: لننسحب من البلاد السورية أو لنحكمها حكما رومانيا. ومن هم الأنباط لنقيم منهم ملوكا؟ ومن هم السوريون ليكون لهم من الامتيازات أكثر مما لسواهم من الشعوب والأمم الخاضعة لسلطان رومة؟
ضرب تراجان على أيدي المفسدين في العاصمة، وجدد في الأمة روح الاستعمار، فأعاد إلى الدولة الرومانية شيئا من العز والقوة، وقد جرد على سورية جيشا كان مظفرا، فأبطل امتيازاتها، وأدخلها في صف المستعمرات، ثم حمل على الأنباط فبدد شملهم وقضى على دولتهم (106م)، فصارت البتراء وما يليها مستعمرة رومانية.
وكانت دولة تدمر - النبطية أيضا - قد دخلت في حوزة الرومانيين سنة 36 قبل المسيح، واستمرت طائعة تؤدي الخراج وتقدم الجنود لرومة نحوا من مائتي سنة.
وكان قد نزح من شرقي الأردن وبلاد الشام الأنباط النافرون من الرومان، الناقمون عليهم بعد استيلائهم الاستيلاء التام على بلادهم، فشرعوا يدسون الدسائس في تدمر ليخرجوا إخوانهم هناك من ربقة الأجانب.
فقام أذينة السميذعي يدعي الملك (250م)، فحارب الرومان وحاصرهم في مدينة حمص، فسلموا له، ولكنه توفي بعيد ذلك، ثم قامت زينب - الزباء - أرملته تعلن استقلال بلادها، وتخرج الرومان منها، فجرد الإمبراطور ديمتيوس أوريليوس حملة عليها، وتولى قيادتها بنفسه. وكانت زينب تقود جيشها، فتلاحم الجيشان في جوار حمص، فانكسر جيش الأنباط وتقهقر إلى تدمر، فحاصر أوريليوس المدينة (273م) فسلمت، ووقعت المملكة العربية أسيرة بيد الإمبراطور الروماني، ثم حل بتدمر ما حل بالبتراء قبلها.
وكان بنو السميذع القاطنون بادية الشام في أوائل النصرانية، إلا قليلا منهم، أنصار أذينة وزوجه الزباء، يمالئون الرومان، ويساعدون في تحقيق مقاصدهم الاستعمارية. بل كان الكثيرون من العرب يحاربون في صفوف الأجانب لمال أو لوظيفة أو لحزازات في الصدور ...
سأخنقك، لا بيدي، بل بيد أبنائك.
أنت سورية بلادي، واليد التي على عنقك اليوم هي يد أبنائك - «الأبرار» - لا يد الأجانب.
الفصل السادس
بنو غسان والرومان
كانت العصبيات متأصلة في هذه البلاد السورية عندما استولى عليها ملوك آشور، وقد استخدموها غير مرة لأغراضهم، كما فعلوا عندما استنجدهم الإسرائيليون على ملوك دمشق، وعندما استعان بهم ملك يهوذا على خصميه ملكي دمشق وإسرائيل.
وكانت تلك العصبيات جنسية ودينية معا، فتعصب الفينيقي لآدونيس، والإسرائيلي ليهوه، والدمشقي لرمان، والكنعاني للبعليم، ثم جاءهم الفرس بآهورا وزرادشت، والسلوقيون اليونان ببرلمان من الأصنام، والأنباط بأرباب من الخشب والصوان، ولسان حال الحكيم في ذلك الزمان يقول:
كل يعظم دينه
يا ليت شعري ما الصحيح؟
ثم جاء من يجاوب ذاك الحكيم جوابا فلسفيا لاهوتيا. جاء بولس العبراني، أحد تلاميذ يسوع الناصري، الذي ظهر في الجليل، يقول: إنما الدين الصحيح هو هذا الذي على لساني وفي قلبي، ولا دين صحيح سواه ... كان في البدء الكلمة، وكانت الكلمة ... إلخ.
أغاظ الرسول بولس الأنباط والآراميين بدمشق، فحاول عامل الحارث ملك البتراء أن يقبض عليه (كورنتيوس 11: 32)، فتدلى من الشباك وفر هاربا، لم يتنصر الأنباط في بادئ الأمر ؛ لأنهم كما ظهر كانوا موالين يومئذ للرومانيين.
ثم جاء من البلاد العربية، من أقاصي الجنوب في شبه الجزيرة، قوم من عرب الأزد، حكم عليهم بالهجرة سيل العرم، فنزلوا في بلاد الشام، «وانضافوا إلى ملوك الروم»
1
كما يقول المسعودي: «فملكوهم، بعد أن دخلوا في دين النصرانية، على من حوى الشام من العرب». وأول هؤلاء المتملكين عرب تنوخ، وأول ملوك تنوخ النعمان بن عمرو بن مالك. «ثم وردت سليح الشام فتغلبت على تنوخ وتنصرت، فملكها الروم على العرب الذين بالشام.» وبعد ذلك جاءت غسان
2
فكانت المتفوقة المتغلبة على سليح وتنوخ، والغساسنة موصوفون بالمروءة والذكاء، والدهاء والإقدام. ولا غرو، فالنكبات تفل من الشكائم، وتعلم الهوادة في سبيل السيادة، والتساهل في سبيل العيش.
تنصر بنو غسان فملكهم الروم على العرب، وكان أول ملوكهم جفنة بن عمرو، وأشهرهم الحارث، وكانت منازلهم بالشام. أما جميع ملوك جفنة من آل غسان فاثنان وثلاثون ملكا لبثوا في ملكهم نحو ثلاثمائة وخمسين سنة.
بعد أن أباد الرومانيون دولة الأنباط، شدوا النير على أهالي هذه البلاد، فاضطروا أن يقيموا الحاميات الكبيرة في المدن، ليعززوا سيادتهم فيظل الاستعمار وطيد الأركان، ولكنهم كانوا يحتاجون إلى الجنود للحروب والفتوحات في أوروبة وأفريقية، وقد رأوا ما يراه ساسة اليوم الاستعماريون، وهو أن شراء السيادة بالمال أو بالألقاب أبخس جدا من نيلها وتعزيزها بالسلاح؛ لذلك بدلوا الاستعمار بنوع من الانتداب، أو أنهم عادوا إلى خطتهم السابقة لعهد الإمبراطور تراجان.
وكان أمراء العرب من تنوخ وسليح وغسان - خصوصا غسان - قد تنصروا، ولنا أن نقول: «ترومنوا»؛ أي اقتبسوا بعض عادات الرومان، وتخلقوا ببعض أخلاقهم، كما يتفرنج بعض الناس في هذا الزمان. وقد سر ذلك الرومانيين، فقربوا منهم كبار الغساسنة وأمروهم على بلاد الشام.
وكذلك فعل ملوك فارس بالعرب الذين نزحوا من اليمن إلى العراق، فنزلوا مكانا هناك سموه الحيرة، التي صارت بعدئذ مقام الملوك اللخميين؛ أي المناذرة من آل النعمان بن المنذر. وكان المناذرة العرب بيد الأعاجم الفرس مثل الغساسنة العرب بيد الأعاجم الرومان، وكان الفرس أعداء الرومان، فصار اللخميون أعداء الغساسنة!
أجل، قد أقام الرومان ملوكا من غسان ليمكنوا السيادة الرومانية في البلاد، وليقاوموا بهم أعداء رومة وبيزنطية، بل أقاموهم ملوكا ليردوا عن سورية إغارات اللخميين وغزوات الفرس، فاحترب الأخوان الغساني واللخمي من أجل الأجنبي ابن رومة.
وكان الواحد تحت الانتداب الفارسي، والآخر تحت الانتداب الروماني.
أجل، قد كان الرومان والفرس يصطنعون ملوكا من أولئك العرب أجدادنا، كما تصطنع دول الفرنج ملوك هذا الزمان.
أنت سورية بلادي.
أنت عنوان الفخامة!
الفصل السابع
بابل العصبيات والأديان
حكم اليونان في هذه البلاد مائتين وتسعا وستين سنة، فانتشرت الثقافة اليونانية في الطبقات الراقية من الأمة، وحلت الأساطير اليونانية محل الأساطير الآشورية والفينيقية، أو أنها اقتبست بعضها، فصارت عشتروت مثلا أفروديت، ودخل البعل في برلمان الأصنام.
أما لغة الأهالي فظلت كما كانت آرامية منذ بداية الدولة السلوقية وقبلها، إلا أن الطبقات العالية وأولياء الأمر والطامعين بالوظائف، كانوا يحسنون أيضا لغة الفاتحين.
وجاء بعد اليونان الرومان، فحكموا في سورية سبعة قرون كاملة، وقد كان العهد الأول؛ أي منذ فتح الشام (65ق.م) إلى حين سقوط الدولة النبطية (106م)، عهدا شبيها بالانتداب أو بالحكم اللامركزي، وكان العهد الثاني؛ أي من أيام تراجان إلى أيام قسطنطين، عهدا استعماريا استبداديا، فاشتد النير الروماني على البلاد، وكان الناس فوق ذلك يعيشون في خوف دائم من الاضطهادات الدينية، التي كانت تبدأ في رومة أو في القسطنطينية، وتمتد بويلاتها إلى الولايات والمستعمرات الرومانية كلها.
أما العهد الثالث؛ أي من ولاية قسطنطين إلى ولاية هرقل، فقد عم فيه الفساد الديني والمدني، وصارت القسطنطينية قطب المناقشات اللاهوتية التي أفسدت على الناس عيشهم، وبلبلت عقائدهم، وبدلت حرية الضمير بالطاعة العمياء للبطاركة والأساقفة، الذين أصبحوا في نعيم من الدنيا يرفلون بالأرجوان، ويبارون بالترف والأبهة أصحاب الصولجان.
وكان ملوك الفرس الساسانيون لا يزالون يتطلعون إلى هذه البلاد، بل إلى ملكهم القديم، ويطمعون باسترجاعه، فاغتنم كسرى أنوشروان فرصة سنحت من جراء الفساد الذي عرا الدولة البيزنطية المسيحية، وزحف إلى سورية في طليعة القرن السابع (611م)، فاحتل قسما منها، ثم استعادها الإمبراطور هرقل، ولكنها لم تدم منذ ذاك الحين غير بضع سنين في حوزة الرومان؛ إذ كان قد ظهر في الحجاز نبي عربي، يحمل كلمة في التوحيد الإلهي، آمن بها الناس وحملوا السيف في سبيلها.
وراح أولئك العرب بكتابهم الشريف، وبسيفهم البتار، يدوخون الممالك، ويهدون الملوك أو يهدون عروشهم.
جاء عرب التوحيد من الحجاز - يوم كانت الدولة الرومانية لا تزال مشغولة بالمناقشات اللاهوتية، بالثالوث وبالمشيئة الواحدة والمشيئتين - وهم يكبرون ويهللون: الله أكبر! لا إله إلا الله! جاءوا باسم الله الواحد فاتحين، وهم يحملون الكتاب والرمح، ووصايا أبي بكر العشر في القتال.
لا تغدر، لا تمثل، لا تقتل هرما ولا امرأة ولا وليدا، لا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا ما أكلتم، لا تحرقن نخلا، لا تخربن عامرا، لا تغل (الغلول الخيانة في المغنم)، لا تجبن.
إن مثل هذه الوصايا لجميل في كل زمان ومكان إذا عمل به، ولا شك أن العرب كانوا أرحم ممن سبقهم من الفاتحين وأعدل بالناس. ولا شك أن العصبيات، التي تحول دائما دون العدل والرحمة، كانت في تلك الأيام أشد مما هي اليوم، فلم يتغلب الإسلام عليها كلها.
مما هو جدير بالذكر أن عسكر هرقل الذي حارب وانكسر في وقعة اليرموك في السنة الثانية عشرة للهجرة (634م)، كان فيه ألوف من العرب - من لخم وجذام وقضاعة وغسان ومرة وتنوخ - ومن الأرمن أيضا!
سبحان المغير ولا يتغير، فها نحن في القرن العشرين وقد حارب الفرنج العرب ببعض العرب وبالأجانب من غير أوروبة - بالأرمن والشركس وعبيد السنغال في سورية، وبالهنود في العراق - حاربوا العرب المسلمين بجنود مسلمين من أمم إسلامية تحمل باطلا اسم الإسلام.
وكان الفضل الأكبر في ذلك الفتح العربي الإسلامي، أن استعربت الشعوب السورية، وصارت العربية لسان أهل البلاد.
إنه لأسهل على الشعوب أن يغيروا لسانهم من أن يغيروا تقاليدهم وأخلاقهم، فقد تعاقبت على هذه البلاد اللغات الفينيقية والحثية والعبرانية والسريانية والآرامية واليونانية واللاتينية، ثم جاءت العربية تحل محلها كلها.
وكان الفضل في نشر العربية في البلاد السورية راجعا أولا للوثنيين من العرب، ثم للمسيحيين قبل الفتح الإسلامي. ولا يزال المسيحي عاملا في سبيل هذه اللغة في سورية ومصر والعراق، حتى وفي ما وراء البحار - في العالم الجديد.
ولكن اللغة وحدها لا توحد العناصر، ولا تتغلب على العصبيات. كان اللخمي والأزدي واحدا في العربية، ولكن العصبية ظلت مستحوذة على الاثنين، وصارا فوق ذلك يتعصبان لأسيادهما الأجانب، الواحد للفرس والثاني للرومان.
ولا الدين، وإن كان دين التوحيد، يساعد في تحقيق الوحدة العنصرية والقومية. كان القيسي واليماني واحدا في الإسلام، وظلا في العصبية المفككة لأوصال الوطن قيسيا ويمانيا، ناهيك بالدول الإسلامية المتعددة التي قامت بعضها على بعض، وشيدت بعضها على أنقاض بعض، باسم العصبية؛ تلك العصبية التي كانت السبب الأول والأكبر في سقوطها كلها.
ولا تزال العصبيات الدينية والجنسية أو الإقليمية، متغلبة على عوامل اللغة والدين. لا يزال للفينيقي والآشوري والحثي والكنعاني والنبطي واليوناني والرومي والآرامي، أثر حي مفسد في حياة السوريين الاجتماعية والوطنية، ولا يزال للأوثان الغربية والشرقية - للبعل والزهرة واللات وعشتروت - أثر ظاهر في أديانهم.
أنت سورية بلادي، أنت بابل العصبيات، وأنت بابل الأديان.
الفصل الثامن
الدولة الأموية
تعود الناس أن يقبلوا أحكام التاريخ دون أن يعيدوا النظر فيها، وتعود الكتاب والمؤرخون أن ينقلوا ويقتبسوا بعضهم عن بعض، دون أن يحكموا العقل فيما ينقلون ويقتبسون. أما هذه النبذة التاريخية فلا حكم فيها لغير العقل والحقيقة.
قامت في الشام على أثر الفتح العربي دولة عربية مجيدة، مجيدة في ثلاثة أمور لا غير؛ أي في فتوحاتها، وفي ترفها، وفي تعزيزها اللغة العربية، وما سوى ذلك فالمؤرخون في الكلام عليها اثنان: متحيز ومتحامل. أما كاتب هذه النبذة، فلا ناقة له في الفيحاء ولا جمل في النجف.
إذن، بعد التوكل على الله والحقيقة، أقول: كانت الدولة الأموية بعيدة عن العدل - عن عدل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين - بعد الشام عن الكوفة، وكانت الدول الأموية بعيدة عن الحكمة في أكثر أعمالها، وعن النظام والإدارة في أكثر أحوالها، بعد عاصمتها عن السند والأندلس.
لا يسمح نطاق هذه النبذة بالتوسع في البحث، ولكني، إذا ما عرفت القارئ إلى الخلفاء الأمويين واحدا واحدا بكلمة أو كلمتين، أكون قد أديت البرهان على ما قلت في الفقرة السابقة.
أول الخلفاء الأمويين معاوية، وهو ولا ريب من كبار من أسسوا ملكا في العالم، وهو الأموي الوحيد الذي استطاع أن يعدل في العصبيات، فلم يؤثر واحدة على أخرى، إلا أن له زلات، والكبرى فيها هي أنه سمح بذم علي بن أبي طالب على منابر الأمصار، فتأججت النيران في صدور شيعته، وظلت تستعر حتى بلغت الشام فالتهمت العرش الأموي. فأين الحلم الذي يصفه به المؤرخون؟ ومن زلاته أنه كان يشتري الأنصار فينصرونه بألسنتهم وبأيديهم لا بقلوبهم، وقد طالما تساهل في أمور إدارية نعدها اليوم خيانة وطنية.
1
ومن زلاته أنه عين ابنه يزيدا خلفا له، وهو عالم أنه مكسال محب للهو والطرب.
وكان يزيد مولعا بتربية القرود والكلاب أكثر من ولعه بتربية الملك وتوطيد أركانه، بتربيته بالحكمة وتوطيد أركانه بالصالحات. لولا ذلك لما قتل الحسين في كربلاء؛ فقد كان في طاقة الجيش الأموي الكبير أن يأسر الحسين وقافلته التي لم يتجاوز عددها الستين نفرا، ويجيء بهم كلهم أسرى إلى دمشق. وقد كان في طاقة الخليفة يزيد، لو كان على شيء من فضائل أبيه، أن يمنع جنوده عن نهب المدينة بعد فتحها، أو أنه في الأقل لا يبيحها لهم ثلاثة أيام.
أما ثالث الخلفاء، معاوية بن يزيد، فكان خليقا بأن يكون من الزهاد لا من الملوك.
والرابع مروان بن الحكم أخذ الخلافة بالسيف، وكان يحاول أن ينسج على منوال معاوية الكبير، ولكنه قتل غدرا في الشهر التاسع من ولايته.
والخامس عبد العزيز بن مروان، الذي يعده المؤرخون مع معاوية من الطراز الأول، فقد حكم نيفا وعشرين سنة حكما عسكريا أوتوقراطيا، فكثرت حروبه. ولولا المال الذي كان يبذله لما كان فيها موفقا. هو الذي صالح الروم على مال يؤديه إليهم - ألف دينار كل يوم، وفرس وغلام !
وعبد الملك بن مروان هو أول من قيد حرية الكلام في حضرة الخلفاء، فلم يعد العرب في عهده وبعده يراجعون الخليفة كما كانت عادتهم - وكما هي عادتهم اليوم في نجد وفي اليمن - ويعترضون عليه. لو كان في عهد عبد الملك صحافة لما تمتعت يوما واحدا بالحرية، التي هي كنزها وكنز الحقيقة الأكبر.
وعبد الملك بن مروان هو الذي أمر بردم العيون والآبار في البحرين، ليفقر أهلها فيلينوا للحكام.
2
وعبد الملك بن مروان هو الذي أمر الحجاج على الحجاز ثم على العراق - الحجاج بن يوسف
3
جزار ذاك الزمان.
أما الوليد بن عبد الملك الذي تولى بعد أبيه، فقد حكم تسع سنوات حكما حسنا، وكثرت لشغفه بالعمار الأبنية الكبيرة، خصوصا المساجد بدمشق، ولكنه لكثرة ما كان يبذله من الخراج - على ما يظهر - في البناء، قلت لديه الأموال، ففعل ما فعله في هذا الزمان رئيس وزراء فرنسة. فتش الوليد الدواوين وألغى الكثير من الوظائف غير اللازمة. «اضطر إلى إحصاء أهل الديوان» - كلام المؤرخ - «وألغى منهم بشرا كثيرا بلغ عددهم عشرين ألفا.»
4
سابع الخلفاء سليمان بن عبد الملك رحمه الله؛ لأنه «أعتق سبعين ألف مملوك ومملوكة،
5
وكساهم، وعزل عمال الحجاج، وأخرج من كان في سجن العراق.» ومن حسنات سليمان أنه أوصى بالخلافة لابن عمه عمر بن عبد العزيز.
وعمر بن عبد العزيز ثامن الخلفاء، هو أعقل الأمويين وأعدلهم،
6
على أنه لم يكن محبوبا من أهله، فبعد أن حكم سنتين ونصف سنة، حكم الخلفاء الراشدين، مات مسموما. والذي أصلحه عمر هذا أفسده يزيد بعده.
يزيد بن عبد الملك تاسع الخلفاء، ذاك العاشق الولهان، مجنون حبابة التي كانت حاكمة في عهده،
7
جلس على فراش الملك أربع سنوات، وما كان حقه أن يجلس أربعة أيام.
العاشر هو هشام بن عبد الملك. وهشام هو آخر من ضفر إكليلا من المجد للدولة الأموية.
أما الحادي عشر، فهو ابن يزيد العاشق الولهان. هو الوليد الخليع، السكير، المشهور بالإلحاد. قبل البيعة بالخلافة وهو سكران. كان ينبغي أن يعتقل لا أن يقتل ؛ لأن في قتله استيقظت الفتنة واضطرب بعد ذلك أمر بني أمية.
الخليفة الثاني عشر هو يزيد بن الوليد، الذي حكم خمسة أشهر لا غير - خمسة أشهر مشئومة، كانت الفتن أثناءها أشد من الطاعون الذي انتشر في البلاد، وذهب يزيد الثالث فريسة الداءين.
وكان أخوه إبراهيم الخليفة الثالث عشر ضعيفا خوارا، فقد بايعه فريق من الناس ونازعه فريق آخر، فخلع نفسه.
أما آخر الخلفاء مروان بن محمد بن مروان، فقد كانت الخطوب في عهده أكبر منه. وأكبرها أمر أبي مسلم الخراساني الذي أظهر الدعوة علنا لبني هاشم، وجرد في سبيلها جيشا قاده عمه عبد الله بن علي، فزحف على مروان الذي كان قد جاء العراق بجيش من أهل الشام، فالتقى الجيشان في وقعة الزاب قرب الموصل (132ه/750م)، وكانت الغلبة لعبد الله. انكسر مروان لتخاذل أهل الشام. وما تخاذل أهل الشام إلا لما نالهم من ظلم الأمويين.
فكم واحد من هؤلاء الخلفاء الأربعة عشرة أحسن سياسة الملك؟ وكم واحد كان يستحق أن يحكم العباد؟
معاوية في الدرجة الأولى، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم الوليد بن عبد الملك، وأخوه هشام. أربعة من أربعة عشر.
أما العشرة الباقون، فقد كان العجز قيد الصالحين منهم، وكان الشر قيد الآخرين. كبيرهم يعطي بغير حساب، وصغيرهم يظلم بغير حساب، وكلهم يصرفون أموال الأمة في مجالس الأنس والطرب، على القيان والراقصات والندماء والشعراء.
والعجيب في أمر أولئك الأمويين، الموصوفين بالنباهة والدهاء، والحكمة والذكاء، أن الفتن كانت تستمر في حمص ولبنان وفلسطين، وفي الشام نفسها، وهم غافلون أو مشتغلون عنها في محاربة الروم وفي الفتوحات.
وما الفائدة من الفتوحات للدولة، وليس بين العاصمة والبلدان المحتلة صلة عمران أو سيادة؟! ما الذي كان يربط القيروان مثلا بالشام؟!
من الهند إلى الأندلس! إنه لملك عظيم بعيد الأرجاء. وكيف كان الأمويون يحكمون تلك البلدان الشاسعة القصية يا ترى؟ الجواب أنهم لم يحكموها. فقد كان القائد العربي يفتح البلاد ويتولاها باسم الخليفة، دون أن يراجعه في أكثر الأمور. وكثيرا ما كان أولئك القواد يتصرفون بالأموال وبالرجال كيفما شاءوا؛ مثال ذلك عمرو بن العاص في مصر، والحجاج بن يوسف في العراق.
وكان الخليفة بدمشق راضيا بأن يذكر اسمه في الخطبة بالقاهرة أو بالقيروان، وإذا جاءه منها بعض الخراج فنعمة كريم.
أجل، قد كان الأمويون يهتمون للبعيد غير المثمر إلا مجدا، ويهملون القريب وفيه الصالح الأكبر أو الخطر الأشد.
أما العدل في الرعية، العدل الذي هو أساس الملك، فهو ينعكس من الجالس على العرش. وقد عرفت أرباب العرش وفيهم العاجز والسفيه والخليع والسكير والظالم. وهاك شهادة أخرى من واحد من أهل هذا البيت:
سئل أحد شيوخ بني أمية بعد زوال الملك عنهم: ما كان سبب زوال ملككم؟ فقال: جار عمالنا على رعيتنا، فتمنوا الراحة منا، وتحومل على أهل خراجنا فتخلوا عنا، وخربت ضياعنا فخربت بيوت أموالنا، ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا، وأمضوا أمورا دوننا أخفوا علمها عنا، وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم عدونا فظاهروه على حربنا.
هذي هي الدولة التي تمدحون.
استولى الأمويون على الملك بخدعتين، في وقعة صفين وبعدها في التحكيم، فملكوا تسعين سنة. واستولى عليه العباسيون بمذبحة تلتها مذابح في سورية وفلسطين والعراق.
وعقبت المذابح الفوضى، وقد اقتدى أربابها بأبي العباس السفاح.
هذا العميطر يدعو لنفسه بالشام، فبايعته اليمانية، وقاومته القيسية، ففتك بهم ونهب دورهم وأحرقها.
وهذا ابن بيهس يحارب العميطر ثم يستولي على دمشق وينكل بأهلها.
وهذا المبرقع يدعي الخلافة، ويخرج بخمسين ألفا من أهل اليمن على الخليفة العباسي، فيحاربه ويقع بيده أسيرا.
واستمرت الفتن تضطرم ونار العصبيات تستعر في بلاد الشام في عهد العباسيين، من السفاح إلى المأمون، فلم يستطيعوا إخمادها.
وكانت الدوائر تدور كلها، لا على الباغين - الظالمين السفاحين - بل على الأهالي المساكين، على أولئك الذين يدفعون الضرائب ويلبون الدعوة للجهاد!
أنت سورية بلادي.
أنت عنوان الفخامة!
الفصل التاسع
الدول الكلبية
حكم الرومان البلاد السورية بمساعدة العرب سبعمائة سنة، ولم تدم دولة من الدول العربية الإسلامية أو الوثنية أكثر من مائتي سنة، فما السبب في ثبات الأعاجم، وفي تزعزع السيادة الوطنية واضمحلالها؟ إني أرى - والرأي يظهر غريبا - أن السبب الأول والأهم في طول حكم الرومان، وقصر مدات الأحكام العربية هو واحد؛ هو الظلم.
فالظلم في العهد غير العربي، الظلم المنظم، تنفذ أحكامه القوة القاهرة، وتساعد في التنفيذ، لمال أو جاه أو نكاية، عرب غسان وتنوخ، هم السبب في دوام السيادة الأجنبية. أجل، قد استولى الرومان على البلاد بواسطة أمرائها والمتنفذين من أبنائها.
والظلم هو السبب الأول والأهم في زوال الدول العربية. وإليك البرهان، كان حكم الخلفاء حكما فرديا أوتوقراطيا، يرتكز على عصبية من العصبيات المتعددة، لا على الجنسية العربية الشاملة لكل العصبيات؛ لذلك لم يتمكن الخلفاء الأمويون من إخماد الفتن الناشئة عن العصبيات المعادية لها في العراق؛ ولذلك لم يتمكن الخلفاء العباسيون من التغلب على العصبيات التي استعرت نيرانها بعد سقوط الأمويين في بلاد الشام.
إنه في الإجمال لحكم ظالم، لا عدل فيه لغير العصبية المرتكز عليها. ومثل هذا العدل هو نوع آخر من الظلم، إلا أن الحكومة الظالمة التي تفتقر إلى قوة إدارية وجندية منظمة، والتي ينخر في أصولها سوس العصبيات، تظل متزعزعة، ولا تلبث أن تسقط وتضمحل.
يقول المؤرخ إن ابن طولون (مثلا) كان على جانب من العدل وحسن السيرة، وإنه فكر كثيرا في عمران مملكته «حتى زاد خراجها».
زاد خراجها؟! وهل في ذلك دليل على العمران؟ أما حان لنا أن ننظر إلى حوادث التاريخ من وجهة حديثة عالية عامة؟ إني أسألك: كيف كان يصرف الخراج؟ وإذا كنت في عمل يشغلك عن بحث مثل هذه المسائل فأنا أجيب عنك: كان الخليفة، إذا كان من الصالحين، يصرف قسما كبيرا من الخراج في بناء المساجد والمدارس المسجدية. وإذا كان كالوليد بن يزيد أو كهارون الرشيد، فمعظم الخراج إنما هو لنفسه ولأهله ولمحظياته وعبيده المقربين منه. وإذا كان كبيرا كمعاوية أو ظالما كعبد الملك بن مروان، فبيت المال في نظره إنما هو لشراء الأنصار وتسكين الأعداء.
أما الناس - العدد الأكبر من الأمة - أولئك الذين يدفعون الخراج ، ويأكلون الكرباج، ثم يحملون السلاح للجهاد؛ فدعهم يعيشون في جهلهم وأوساخهم وأمراضهم وشقائهم المستمر.
وأرسل الله القرامطة على هذه الممالك تأديبا وتطهيرا ، فقام الحكام يسوقون إلى القتال أولئك الذين يدفعون الخراج ويأكلون الكرباج. إلى الجهاد! إلى الجحيم! حملوا السلاح ليردوا القرامطة عن أمرائهم وحكامهم، وما كان القرامطة بأشر من أولئك الظالمين.
أتعجب بعد ذلك إذا قيل في الإخشيد الأول إن في زوال ملكه فرحا للعالم؟!
وهذا سيف الدولة علي بن حمدان عدو الروم وخصم الإخشيد، سيف الدولة الذي حكم وحارب من سنة 333 إلى سنة 356 (945-967م)، فكان مظفرا سعيدا في حروبه كلها، وجائرا كل الجور على رعيته. سيف الدولة الذي «اشتد بكاء الناس عليه ومنه» كما يقول الأزدي. وقال صاحب الخطط، الذي يعود إلى النزاهة التاريخية، بعد أن يكون قد تعب بها وأركبها مطية الغرض، إن سيف الدولة «كان يخرب قرية ليجيز شاعرا مدحه بقصيدة.»
وكان قاضيه أبو الحصين يقول: «كل من هلك، فلسيف الدولة ما ترك!» وأدرك القدر القاضي أبا الحصين، فقتل في إحدى المعارك، فداسه سيف الدولة بحصانه قائلا: «لا رضي الله عنك؛ فإنك كنت تفتح لي أبواب الظلم.»
ولا رضي الله عمن ولج بابا من تلك الأبواب.
كان بنو حمدان وبنو إخشيد من عمال خلفاء بغداد - من عمالهم العاملين في سبيل أنفسهم وشهواتهم. ويا لها من مهزلة! مهزلة ذاك الملك. اسمع الإخشيديين والحمدانيين يخاطبون بني العباس الخلفاء: سنضرب السكة باسمكم: على الرأس والعين. وسندعو لكم في الخطبة: حبا وكرامة. ولا نكلفكم بعد ذلك شيئا.
يضربون الدينار باسم خليفة بغداد، ويتصرفون به كيفما شاءوا، ويخطبون لذاك الخليفة في الجوامع، ثم يهملونه كل الإهمال خارجها ... والظلم من شيم النفوس ... اخسأ يا أبا الطيب!
ومن مظالم سيف الدولة ما فعله ببني حمدان أبناء عمه؛ «أكب عليهم بصنوف الجور» - الكلام لابن حوقل - «حتى خرجوا بذراريهم في اثني عشر ألف فارس إلى الروم وتنصروا بأجمعهم.»
وكان يقف على مائدة هذا الأمير أربعة وعشرون طبيبا - قل خمسة أطباء تجنبا للمبالغة - لينصحوا له بتناول ما ينفع مزاجه، بينما الرعية تبكي من جوره وتشكو إلى الله ... قبح الله وجهك أيها المتنبي!
أما الآفة السياسية الكبرى في الدول العربية كلها ، فهي هذه: عندما حمل الفاطميون على الحمدانيين، استنجد هؤلاء بصاحب الروم عدوهم الأول على عدوهم الجديد! الأجنبي، ولا الخصم العربي!
وقد استنجد بالروم أيضا ذاك الذي خرج على الفاطميين، المسمى منجوكتين، فلم ينجدوه، فكسره أبو تميم الفاطمي. «وركب أبو تميم المستنصر بالله إلى المسجد الجامع يوم الجمعة، بزي أهل الوقار (وهو من أهل الدعارة)، وبين يديه القراء وقوم يفرقون الدراهم على أهل المسكنة.» ولكن ذلك لم يغنه شيئا؛ فقد هجم الناس عليه في قصره، وهو غائص في ملذاته، ففر من دمشق هاربا.
واشتعلت في المدينة نار الفتنة التي نفخ فيها رجل يعرف بالدهيقن، فجاء محمد بن الصمصامة يخمد نارها، فأخمد أنفاس ألوف من العباد.
وكان أهل صور قد نفخوا في بوق العصيان (388ه/999م)، وأمروا عليهم رجلا ملاحا يدعى العلاقة، ضرب السكة باسمه وكتب عليها: «عز بعد فاقة، لأمير علاقة»، فأرسل الفاطمي عليه أسطولا، فاستجار العلاقة بملك الروم، كما استجار قبله الحمدانيون.
وقام صاحب الروم دوقس أنطاكية يبغي الاستيلاء على أفامية، فزحف ابن الصمصامة عليه فقتله وشتت شمل رجاله.
وكان المفرج بن دغفل بن الجراح قد نزل على الرملة وعاث فيها، فجاء جيش الصمصامة يؤدبه. والويل من المؤدبين.
أما الصمصامة هذا، الذي تولى نيابة دمشق للفاطميين، فقد كان مثل سيف الدولة ظافرا سعيدا في حروبه، وكان كذلك ظالما عتيا، سفاكا للدماء. قال المؤرخ: «وعم الناس في ولايته البلاء من القتل وأخذ المال، حتى لم يبق بيت في دمشق ولا بظاهرها إلا امتلأ من جوره، خلا من كان ظالما يعينه على ظلمه ... والظلم من شيم النفوس! ... لا رضي الله عنك أيها المتنبي!»
وشيدت دولة بني مرداس على مبدأ الدولة الحمدانية، وكذلك دولة بني جراح، ودولة بني سنان؛ أي دول بني كلب - دول الكلاب كلها!
فمنذ سنة 254ه إلى سنة 463ه/867-1067م، كان الحكم في هذه البلاد السورية حكم «أبحناها لكم»، ولا فرق إذا كانت الدولة طولونية أو إخشيدية أو حمدانية أو كلبية.
فيا لتعس الناس الذين عاشوا في ذلك الزمان المظلم، وكل حاكم فيه يباري زميله ، أو يباهي خصمه بالمظالم والمذابح، وبالنهب والسلب والسبي والتدمير.
أبحناها لكم ثلاثة أيام!
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا
والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
يا للهول ويا للويل! رحم الله من عاشوا في زمن الإباحات، ولا رحم الله أربابها وجنودهم. أبشر خلقوا على صورة الله ومثاله، يتحولون في ساعة واحدة إلى وحوش ضارية؟!
وهل يستحق أولئك البرابرة خمسين صفحة في التاريخ؟ إنهم لا يستحقون والله أكثر من سطر، فيه كل أمرهم؛ فقد تحاربوا وتكالبوا، وذبحوا ونهبوا، وفسقوا ودمروا. وبكلمة أخرى: قد استباحوا كل حلال من عرض ودم ومال.
وهم أيضا أجدادنا!
الفصل العاشر
الصليبيون
ها إننا في دور السلجوقيين والتركمان، الذين حكموا الشام حقبا من الزمن، وفاقوا الدول الكلبية في الجور والفساد. والعجيب من أمرهم أنه لم يكن يهمهم غير «إعلاء كلمة الله»!
هاكم السلطان آلب أرسلان الذي حمل كفنه في الحروب، وما حمل في سبيل تلك «الكلمة» غير السيف، يفتح حلب (463ه/1071م)، وهي من بلاد المسلمين لا من بلاد الروم، ثم يحمل على الروم ليكفر عن ذنوبه في حلب، فيكسرهم ويأسر ملكهم، ثم يموت مطعونا بخنجر أحد أعدائه المسلمين «إعلاء لكلمة الله»!
وهذا أتسز بن أوق أحد كبار التركمان، اسم أعجمي عجيب، وشخصية بربرية أعجب، حاصر أتسز دمشق مرارا فظفر بها (468ه/1076م)، فكان الفتح وكان الخراب المبين. «خربت دمشق وأعمالها، وخلت الأماكن من قاطنيها، والغوطة من فلاحيها، وهان على الناس ترك الديار والأملاك»، لما قاسوه من مظالم هذا الأتسز بن أوق!
وما كان خيرا منه بنو أتابك وبنو أرتق الملوك المماليك الذين ختموا مظالم الأجيال في أواخر القرن الخامس للهجرة. ختموها! قل: خرجوا من مسرحها.
وبدت إذ ذاك طلائع الطامة الكبرى في هذه الديار السورية، طلائع الحروب الصليبية التي استمرت في حالة متقطعة مائتي سنة (490-690ه/1096-1290م).
هو عهد الظلمات في أوروبة، أو هي الأحقاب المظلمة، كما تدعى هناك. وقد كانت ظلماتهم أشد من ظلماتنا، وكذلك الظلامات. أما الأسباب، الأسباب كلها هنا وهناك، فهي تنحصر في ثلاثة: الجهل، والطمع، والتعصب الديني.
نعم ، قد جرت الدماء البشرية أنهرا باسم الدين، وهدمت موارد الحياة وصروحها باسم الدين، وزرعت الأرض عظاما إنسانية باسم الدين، وامتلأ الفضاء سما وظلاما باسم الدين، وتناسلت الشعوب بالغل والشنآن من أجل الدين.
كانت تلك الحروب الدينية أعظم ويلا على البلاد السورية من سواها، وكان الصليبيون أشد ظلما وتوحشا من أولئك الأمراء الآسيويين ذوي الأسماء العجيبة، الذين اجتاحوا باسم الإسلام، بل باسم السنة مرة والشيعة أخرى، هذه الديار التاعسة البائسة المشئومة.
وهاكم واحدا من أتباع شيخ الجبل حسن الصباح الإسماعيلي، وقد استولى على دمشق وشرع يمثل الجحيم - لا الجنة، مثل شيخه الشيخ حسن بألموت - على الأرض.
كثرت قبائح شمس الملوك إسماعيل وقبائح أعماله، وقام بعد ذلك نكاية بأهل السنة، يخون البلاد فيسلمها إلى العدو الإفرنجي، فقتلته أمه لتريح المسلمين من شره وظلمه.
وأولئك الإفرنج، وقد فتحوا القدس، «يكرهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالي البروج والبيوت - الكلام للمؤرخ الإفرنسي ميشو - ويجعلونهم طعما للنار، ويخرجونهم من الأقبية، ويجرونهم في الساحات، ثم يقتلونهم فوق جثث الآدميين. وكانوا في كل بلد يدخلونه يقتلون أهله، ويخربون عمرانه، ويحرقون كتبه ومتاعه وآثاره».
وكان الإفرنج في أنطاكية وغيرها (من بلاد العلويين)، يمالئون الإسماعيليين، وهم كفرة في نظرهم مثل المسلمين، فظاهروهم على أعداء الصليب، كما يظاهرون الفرنسيس اليوم على العرب.
وقد نصر الموارنة كذلك الإفرنج، كما نصروا الرومان على العرب من قبل، وكما نصروا الفرنسيس من بعد.
والغريب العجيب أن يجمع الغرض بين هاتين الأقليتين المارونية والعلوية، وكلتاهما متمسكة بعقيدتها وبأوليائها أشد التمسك، فتسلكان مسلكا واحدا في الماضي وفي الحاضر، وتكونان مع السائدين من الأجانب على أهل البلاد الوطنيين.
لم ينتصر الصليبيون في بادئ أمرهم لمجرد أن الموارنة والعلويين ساعدوهم على المسلمين، بل لأنهم كانوا متحدين، وكان أمراء العرب متنابذين متخاذلين ... وكيف يخضع صاحب آمد لصاحب دمشق، أو صاحب حلب لصاحب الموصل، وكل منهم يظن نفسه ظل الله على الأرض.
قف ها هنا أيها القارئ وفكر قليلا في حاضر هذه الأمة، وفي التفريق المصطنع وغير المصطنع في البلاد ، في هذه البلاد السورية القديمة وليس فيها شيء جديد، بل قل وأنت منها: ما أطغمني وما أذلني إذا كنت لا أنبذ مثل ذاك الماضي، ولا أخرج على مثل هذا الحاضر، فأسعى وأجاهد ليكون في بلادي شيء جديد، شيء شريف، سديد مفيد.
لم تخل الحروب الصليبية من كبير أو كبيرين في كرم الأخلاق، كنور الدين وريكاردوس قلب الأسد وصلاح الدين.
ولكنهم في الحرب واحد؛ فصلاح الدين مثلا مثل سواه من الفاتحين، يقطع الأشجار، ويحرق الزرع (اذكر وصية أبي بكر لأبي عبيدة)، ويروع الآمنين، ويجلي الفلاحين، ويقتل خلقا كثيرا، كما قال هو نفسه في رسالة إلى أخيه؛ لأنهم لم يقبلوا الإسلام.
قال المؤرخ: «بينا كانت داخلية البلاد مشتغلة بالنصب والعزل، وتقاتل أبناء البيت الواحد على الملك والسلطان، اجتمعت الفرنج من داخل البحر ووصلوا إلى عكا، فضربوها واحتلوها ونهبوها ... إلخ.»
هم متحدون وأنتم متشاقون متخاذلون. أنتم الفاطميون وفيكم المعز لدين الله والمستنصر بالله والحاكم بأمر الله، الذين نبرأ منهم إلى الله. وأنتم الأيوبيون وفيكم الصالح والعادل والكامل والأشرف والأفضل والطاهر والناصر، وليس فيكم - والحق يقال - إلا القليل القليل من العدل والفضل والصلاح. فالكامل ناقص، والعادل ظالم، والظاهر مكسور، والناس مرهقون، مظلومون على الدوام.
فهل يلامون إذا هم سلكوا مسلك الثعالب إلى خيرهم، بل إلى خلاصهم؟ قال ابن أبي شامة: «كسرت الفرنج ومن انضم إليهم من منافقي الإسلام، كسرة عظيمة في عسقلان.»
من «منافقي الإسلام»؟ على رسلك ابن أبي شامة، فقد كان الناس في تلك الأيام مثل ملوكهم يعملون لصالحهم قبل كل شيء، وليس ثمة وطنية يخلصون لها أو يخونونها.
أنت سورية بلادي.
أنت مهد الأنبياء.
الفصل الحادي عشر
هول هولاكو
هبت هبوب الجحيم من الشرق، من قلب آسية، فغشيت سورية بلادي. جاء هولاكو بجيوشه التتر والمغول (658ه/1259م)، يحملون السيف والنار، ولا يحسنون غير القتل والدمار، فاستولوا على القلاع والحصون، وفتكوا بالناس فتك الضواري، ودخلوا المدن فاتحين ناهبين، محرقين، مفحشين.
وكان نصارى الشرق والإسماعيلية (وما الصلة بين الاثنين غير تألم المستضعفين) من الشامتين لما حل بالشام من هول هولاكو. قال الذهبي: «ورفعوا (نصارى الشرق) الصليب في البلد، وألزموا الناس بالقيام له في الحوانيت، ونقضوا العهد وصاحوا: ظهر الدين الصحيح دين المسيح.»
وما لبث أن انتصر المسلمون على هولاكو في وقعة عين جالوت بين بيسان ونابلس، «فجاء الخبر إلى دمشق في الليل، فوقع النهب والقتل في النصارى، وأحرقت كنيستهم العظمى ...»
وسارت العساكر الإسلامية إلى فتح جبة بشري، فصعدوا في وادي حيرونا، «وحاصروا أهدن حصارا شديدا، وبعد أربعين يوما ملكوها، فنهبوا، وقتلوا، وسبوا، وهدموا القلعة التي في وسط القرية، والحصن الذي على رأس الجبل». ثم فتحوا بقوقا ومثلوا بأكابرها، وضربوا الحصون، وأحرقوا الحدث ... وظهر الدين الصحيح، دين المسيح. لله من تاريخ هو سلسلة من النكبات والانتقامات!
أما المغول فقد قصدوا دمشق في سنة 683ه/1284م، وعفوا عنها. إنما الأعمال بالنيات. ثم ذهبوا إلى وادي التيم فأحرقوها، وسبوا أهلها، وقتلوا منهم نحوا من سبعمائة نفس.
وزحفت عساكر المسلمين إلى طرابلس، حيث كانت بقية من الصليبيين، فحاصروا المدينة، فلجأ أهلها إلى المراكب في البحر، فلحق العسكر بهم إلى الجزيرة قبالة الميناء. عبروا البحر بخيولهم إليها، فقتلوا جميع من كان فيها من الرجال. أما النساء فقد فضلن الموت على ما حل بهن. «وأمر السلطان فهدمت طرابلس ودكت إلى الأرض.»
ونزل الكسروانيون والجرديون من لبنان لنجدة الفرنج، فقتلوا من عسكر السلطان خلقا كثيرا، فصدر الأمر من نائب دمشق إلى القائد العام، أن اجمع العساكر الشامية، وازحف بها على الجبل لاستئصال شأفة أهله.
صعد الجنود إلى معاقل اللبنانيين فحاقوا بها ودخلوها، فذبحوا بالرجال، وسبوا النساء، وجعلوا أعالي الديار أسفلها.
وكان ذلك كله في نهاية القرن الثالث عشر للميلاد. •••
لبنان بلدي، راح الصليبي وبقيت أنت، فهلا تعلمت؟!
الفصل الثاني عشر
دولة المماليك
عف هولاكو عن دمشق، فجاء بعد خمس عشرة سنة حفيده غازان بجيش من التتر جرار، فكسر المسلمين في جوار حمص، وتتبع المنهزمين حتى بلغ دمشق، فضربها واستولى عليها، ونهب ضياعها، وسبى أهلها.
قال المؤرخ: «أسروا من الصالحية نحو أربعة آلاف نسمة، وقتلوا نحو ثلاثمائة، أكثرهم في التعذيب على المال.»
وقال غازان إنه حارب حكام مصر والشام لأنهم خارجون من طريق الدين، غير متمسكين بأحكام الإسلام، وكان أولئك الحكام المسلمون يحاربون النصارى لأنهم كفرة مشركون. سبحان الله!
وقال مغلطاي إنه حمل إلى خزانة غازان ثلاثة آلاف ألف دينار، سوى ما لحق من التراسيم (المقررات) والبراطيل والاستخراج لغيره من الأمراء والوزراء. هو ذا طريق الدين القويم!
وهاكم بعد غازان مائة سنة (690-790ه/1290-1387م) من دولة المماليك البحرية، المماليك الشركس والأتراك، الشديدي النعرة الدينية، القليلي العدل والحكمة، الضعيفي الحلم والإرادة، الجالسين على العرش بالقاهرة، الحاكمين بأمرهم في بلاد الشام ...
فما كاد يزول كابوس الصليبيين عن البلاد، حتى احتدم القتال بين عمال المماليك والتتر، فسرت شروره إلى لبنان، فقام الكسروانيون ثانية يناوئون الشاميين، من أجل من تبقى في السواحل من الإفرنج.
وكانت وقعة عند جبيل، فكسر الكسروانيون الجيش الشامي، وقتلوا أكثر رجاله، فغنموا أمتعتهم مع أربعة آلاف رأس من الخيل.
واستمر النزاع بين الفريقين، فجاء الأفرم نائب دمشق بنفسه يقود جيشا عظيما، ليفتح كسروان من الجهة الشمالية (فسميت تلك الجهة الفتوح!) بل كانت الحملة على بلاد الظنيين (الضنية)، «فدخل العسكر تلك الجبال فحرقوا القرى، وقطعوا الكروم، وهدموا البيع، وقتلوا جميع من صادفوا من الكسروانيين».
ثم ظهرت في حوران فتنة بين اليمنية والقيسية، فتقاتلوا قتالا شديدا، وبلغت المقتلة ألف نفس.
وهاكم جيش التراكمين والعربان يزحف إلى آمد، فيباغتها وينهب أهلها المسلمين والنصارى.
وهاكم الأرمن (كان قد سبق لهم مع المسلمين مواقع ومناجزات وغزوات وكسرات) يعودون إلى مدينة سيس فيملكونها، ويطردون من كان فيها من المسلمين، ويعملون أيدي النهب والخراب في آذنة وطرسوس، مثل سواهم من المتغلبين.
يوم لنا، ويوم علينا، ولا يوم للرحمة، ولا يوم للحكمة، ولا يوم واحدا للتساهل .
وهاكم الإفرنج يعودون إلى بيروت في عشرين مركبا، فيقوم من يدعو الناس للجهاد في سبيل الله، فيلبي الدعوة جماعة من البيروتيين، فيحولون بين الإفرنج والبحر، ويذبحونهم، ويغنمون مراكبهم.
ومن الأحداث: أن نائب الشام يلبغا اليحباوي هرب منها، فتبعه جماعة من عسكرها، فتقاتل معهم، فقطعوا رأسه، وحملوه إلى السلطان بمصر. ولماذا هرب يلبغا؟ الجواب في التوراة (أمثال 28: 1).
واشتد غضب نائب حلب بيبغا آروس (أخو يلبغا في الجنسية والهمجية)، فأمر عسكره بأن ينهبوا دمشق وضياعها، ويقطعوا الأشجار، فنهبوا فوق ذلك «النساء والبنات والقماش، وجرى على أهل دمشق من بيبغا آروس (السلام على أستز بن أوق) ما لم يجر عليهم من عسكر غازان».
وظهر في جبال النصيرية (العلويين) رجل يدعي أنه الإمام المنتظر، الإمام الثاني عشر، وأنه المهدي، وأنه علي بن أبي طالب، وأنه المصطفى! فتبعه نحو ألفين من أهل تلك الجبال، فهجم بهم على جبلة، والناس في صلاة الجمعة، فنهبوها باسم علي والمهدي والإمام المنتظر.
وفتح المسلمون جزيرة أرواد، فذبحوا ألفين ممن كانوا فيها من الإفرنج، وأسروا الباقين.
وقتل السلطان نائبه في الشام تنكز (التتري)، الذي قتل أناسا كثيرين، فارتاحت البلاد.
السنيون يذبحون النصارى، والإسماعيليون العلويون ينهبون ويذبحون السنيين، ويلبغا وبيبغا وتنكز وأتباعهم ينكلون بالسنيين والعلويين والنصارى جميعا.
أنت سورية بلادي!
أنت عنوان الفخامة!
الفصل الثالث عشر
أهوال تيمورلنك
وهذه بعد مائة سنة من المماليك ثلاث عشرة سنة سوداء (790-803ه/1387-1401م) من أهوال تيمورلنك المدمر المميت، الذي شرف الشرق الأدنى بدعوة من أمرائه. لست مازحا فيما أقول؛ فإن الأمراء المتنابذين المتخاذلين هم الذين «فتحوا لتيمورلنك السبيل لغزو البلاد غزوة أذلت العزيز، وأفقرت الغني، وخربت العامر».
وسيدي صاحب «الخطط» مثل سائر المؤرخين العرب، لا يهمه من الأمة على ما يظهر غير الأعزاء فيها والأغنياء، أما الشعب الذي يدفع الخراج، ويأكل الكرباج، فعليه بهلة المتباهلين.
وكان تيمورلنك هذا صاحب دعوى «إلهية» منكرة، إلا أنه وقد دخل في الإسلام، لمن المرسلين المقربين. «بلغنا أمر الهند وما هم عليه من الفساد، فتوجهنا إليهم، فأظفرنا الله تعالى بهم، ثم زحفنا إلى الكرخ فأظفرنا الله بهم (تعالى الله عن محالفة مثل هذ الغول المغولي)، ثم بلغنا قلة أدب هذا الصبي ابن عثمان، فأردنا عرك أذنه، فشغلنا عنه بسيواس وغيرها من بلاده.»
وفتح تيمور، صاحب هذا الكلام، مدينة حلب فتحا مبينا ، فنهب وسبى وقتل، وطارد الجنود النساء فلجأن إلى الجوامع، «وكانت المرأة تطلي وجهها بطين أو بشيء حتى لا ترى بشرتها من حسنها» - الكلام من كتاب كنوز الذهب - «فيأتي عدو الله إليها ويغسل وجهها ويجامعها في الجامع ... وصارت الأبكار تفتض في المساجد وآباؤهن يشاهدونهن.»
أربعة أيام كاملة من هذه الإباحات، من هذه الفظائع (و) «وأظفرنا الله بحلب وأهلها!»
أما دمشق فدخلها تيمور صلحا، ولكنه قسم البلد بين أمرائه، فنزل كل أمير في حيه، وطلب من فيه وطالبهم بالأموال، فحل بأهل دمشق من البلاء ما يقف اليراع عنده عاجزا، وجرى عليهم من أصناف العذاب، وهتك الأعراض، ما تقشعر منه الأبدان، ثم سبوا النساء بأجمعهن، وساقوا الأولاد والرجال مربطين بالحبال. وبعد ذلك طرحوا النار في المساجد والمنازل، وكان يوما عاصفا فعم الحريق المدينة كلها. •••
وبعد خمسمائة وخمس وعشرين سنة من هذا الحريق، يجيئك يا دمشق من الغرب قوم متمدنون، فيدبون في دباباتهم هادمين، ويطيرون في طياراتهم مدمرين، ويحرقون قصورك، ويمثلون بأبنائك المجاهدين في الساحة التي شهدت مئات من الكوارث والنكبات. •••
أما صاحب «وأظفرنا الله بهم» فقد اجتاح البلدان السورية الكبيرة كلها، وأعمل فيها - بعد النهب والسبي - السيف والنار.
وجاء بعد تيمورلنك الجراد، وبعد الجراد الطاعون، فهلك في دمشق وحدها خمسون ألف نفس. •••
وبعد خمسمائة وخمس عشرة سنة عاد تيمورلنك، متجسدا في الحرب العظمى، وغزا الجراد لبنان في سنة الحرب الأولى، ثم جاءت المجاعة فهلك في الجبل وحده مائة ألف نفس.
لبنان بلدي.
سورية بلادي.
أمن نكبة إلى نكبة على الدوام؟!
الفصل الرابع عشر
إلى المزبلة
استمر عهد المماليك الأخير مائة سنة ونيفا (803-922ه/1401-1516م)، حدث في أثنائها في البلاد السورية مائة فتنة وفتنة، وإليك بمثال ملكي من أولئك المماليك يدعى الملك الناصر.
هو الملك الفاجر السكير الذي كان يصدر أوامره إلى عماله في سورية، وهو في ضجة من السكر منكرة. «وكان يتسلى في خلواته» - كما يقول الأستاذ كرد علي - «بقتل مماليكه، حتى قتل منهم زهاء ألفي مملوك للتسلية والتحلية.»
أما التسلية فمفهومة، ولكني لم أفهم معنى صديقي المؤرخ في «التحلية». فهل كان يزين القصر برءوس أولئك المماليك، أم كان يحلي شرابه بدمائهم؟
على أن الناصر كان في نهاية أمره مدحورا مذموما؛ فقد لقي ما يستحقه في دمشق؛ إذ خلعه القضاة وأثبتوا عليه الكفر؛ لأنه سفاك للدماء، مدمن للخمر. خلع، وسجن، ثم قتله في السجن بعض الفدائيين، وألقوه على مزبلة خارج البلد، وأبقوه هناك ثلاثة أيام عبرة للناس، فكانوا يجيئون أفواجا يتفرجون عليه. «وكانت الدنيا في أيامه حائلة، وحقوق الناس ضائعة، وقد خربت غالب البلاد الشامية لما قتل من أبطال، ويتم من أطفال ... إلخ.»
وهاكم الملك الأشرف برسباي، خلفه بعد بضع سنين بالجرائر والمعاصي. هو برسباي «الرجل العظيم» برأي سيدي صاحب «الخطط».
وقد قال فيه المقريزي: «كان له من الشح والبخل، والطمع والجبن، والحذر وسوء الظن، ومقت الرعية، وكثرة التلون، وسرعة التقلب في الأمور، أخبار لم يسمع بمثلها. ذلك مع بلوغ آماله، ونيل أغراضه، وقهر أعدائه، وقتلهم بيد غيره ... وشمل بلاد مصر والشام في أيامه الخراب، وقلت الأموال فيها، وافتقر الناس، وساءت سيرة الولاة والحكام.»
فهل يستحق هذا «الرجل العظيم» غير ما كان من جزاء سلفه الملك الناصر؟
إلى المزبلة بمثل هؤلاء الملوك!
الفصل الخامس عشر
آل عثمان
عندما وصل الأتراك في فتوحاتهم إلى الآستانة في أواخر القرن الخامس عشر، كان قد انفتح في أوروبة ثلاثة أبواب للمدنية الحديثة؛ الأول فتحه لوثيروس في ثورته على الكنيسة والبابا، والثاني فتحه غوتمبرغ في اختراعه حروف الطباعة، والثالث فتحه كولمبوس في اكتشافه أميركة.
أجل، إن ذاك الإصلاح الديني وذينك الاختراع والاكتشاف لمن أنوار المدنية الأوروبية التي استمرت في التقدم والارتقاء، بينما كان الشرق الأدنى يتخبط في الظلمات، فيهبط من دركة إلى أخرى، ولا يخلص من ظالم سفيه إلا ليبلى بمن هو أظلم وأسفه.
خرجت الأمة السورية من حروب الصليبيين، وإغارات المغول، ومظالم الشركسة، ومن مخالب الأوبئة والمجاعات، وهي على آخر رمق من الحياة، لا ثروة، ولا علم، ولا صناعة، ولا أمل يعيد إليها النشاط للعمل، فتطلع الناس إلى الدولة التي أسسها السلطان عثمان التركماني على أنقاض الدولة السلجوقية، وهي يومذاك في إبان شبابها ومجدها، وعقدوا عليها الآمال.
هو الخطأ الذي يخطئه السوريون، أو بالحري الأكثرية في السوريين وهم المسلمون؛ إذ يظنون أن العمران والرقي والسعادة القومية لا تكون إلا بدولة إسلامية ذات صولة واقتدار. أما العدل والمساواة، والرفق بالرعية، وإحياء البلاد بالمشاريع الاقتصادية والصناعية، فهي على ما يظهر أمور ثانوية.
لولا ذلك لما كنا نتغنى بالدولة الأموية، ونحبذ تجديدها، وقد رأيناها، وهي في ذروة المجد والاقتدار، بعيدة عن ذلك العدل الذي زان سيرة الخلفاء الراشدين، فلا تحسن معاملة الأقليات في المملكة حتى ولا العصبيات العربية الإسلامية خارج عصبيتها. والمشكل الأكبر في كل زمان من أزمنة هذا التاريخ، هو هذه الأقليات والعصبيات التي نسيء إليها، أو لا نعدل فيها، فندفعها إلى المقاومة الطائشة العمياء، التي تضيع عندها حتى مصالحها.
وإننا نلوم بني أمية لأنهم من قح العرب، ومن أقرب الناس إلى ذاك الينبوع الإنساني الذي تفجر بمكة، ينبوع العدل والإخاء والمساواة. ولكن هناك، كما تبين لنا، من هم أبعد من بني أمية بمراحل عديدة عن الضالة المنشودة.
فقد أخر الإسلام والمسلمين شعوب آسيوية همجية، دخلوا في هذا الدين العربي، ولم يدخل في نفوسهم إلا القليل القليل من فضائله، فظلوا على فطرتهم الهمجية، وقبلهم أهل الشام حكاما لمجرد أنهم مسلمون ذوو صولة واقتدار، وقد كان حظهم وحظ إخوانهم أبناء الوطن الواحد من أولئك الفاطميين والأيوبيين والشراكسة والتراكمين، ما هو مدون في التاريخ وملخص في هذه النبذة منه.
وما كان الشقاء ليعلم سورية شيئا في اتقاء شرور مثل تلك النزعات والسياسات، ولا كانت العبر تؤثر في رؤساء الأمة، وهم كلهم ينشدون مصالحهم الخاصة؛ لذلك طفقوا يتلونون ويتذبذبون في إخلاصهم لملوك المماليك، عندما خفقت أعلام الهلال الأحمر على ضفاف البسفور وفوق حصون الآستانة.
وما كان آخر ملوك الشراكسة في الشام، قانصوه الغوري، ليحدث حادثا في تطور الأمة، أو ليوقف عاملا من عوامل الفساد والتفكك في الملك، بل كان هو من تلك العوامل نفسها ، وكان فوق ذلك هرما خرفا، يعتقد بعلم الجفر، ويتيقن أن الشر سيأتيه من رجل يبدأ اسمه بالسين. أما الأعجب من ذلك فهو أن يصح مثل هذا اليقين.
هاكم اسما يبدأ بسينين اثنتين: السلطان سليم.
باشر هذا السلطان العثماني فتوحاته بقتل أربعين ألفا من الشيعة في الأناضول، ثم زحف إلى الشام، فجرد الغوري جيشا للدفاع أكثره من المتذبذبين، فانكسر في وقعة مرج دابق (922ه/1517م) وتوفي هناك.
وكان بين قواده الأمير فخر الدين المعني الأول (جد المعنيين الذين تولوا الحكم بعدئذ في لبنان)، الذي تردد وقومه في القتال قائلا: دعونا ننفرد لننظر لمن تكون النصرة فنقاتل معه. وكلمة المعني هذه تمثل حال أكثر من انضموا تحت لواء الغوري.
بعد وقعة مرج دابق استيقظت الفتنة في دمشق، ولكنها لم تدم غير بضعة أيام، فأخلدت المدينة للسكينة بعد ذلك، وفتحت أبوابها للسلطان العثماني.
وما لبث الأهالي أن أنوا أنين الضعيف المظلوم من الضرائب الفادحة، التي ضربها الفاتح على طبقات الناس كلها، ولم يستثن حتى المومسات.
وكان هذا السلطان ممن يحترمون الأولياء وأرباب الكرامات، ويستمدون من أرواحهم القدسية، فأمر بتعمير القبر المتداعي للعارف بالله محيي الدين بن عربي، وأنشأ في جواره جامعا وزاوية، ووقف عليهما وقفا كبيرا.
ثم زحف بجيشه إلى مصر ففتحها، وقتل مليكها طومنباي الذي بايعه المصريون بعد موت الغوري، ونكل بالشراكسة.
أما أهل الشام فقد قاسوا كثيرا من جنود سليم المرابطين؛ إذ كانوا يقطعون الأشجار، ويرعون الأزراع، ويخرجون الناس من بيوتهم ليتمتعوا بها وبمن فيها من الحسان.
وعندما عاد السلطان سليم بعد الفتح المصري، بدل أن يؤدب جنود الحامية، أذن لجنوده أيضا أن يدخلوا البيوت، فدخلوها فاتحين - والويل للحسان والولدان!
سرعان ما صار الناس يترحمون على الشراكسة ، كما يترحمون على الأتراك اليوم. ليس في هذه البلاد السورية شيء جديد.
كان السلطان سليم سفاحا سكيرا لواطا، لا يهمه بعد فتوحاته وقتل الشراكسة، غير لذته وسكره - الكلام لابن إياس - وإقامته في المقياس بين الصبيان المرد. وكان يقتل وزراءه وغيرهم في ساعة غضب بدون سبب، فقد قتل سبعة من الوزراء، وخنق سبعة عشر من إخوانه، وغيرهم من أهل بيته حين تولى الملك. ومن أمثال الأتراك السائرة في تلك الأيام: من أراد الموت فليكن وزيرا للسلطان سليم.
لذلك كان الوزراء يحملون صكوك وصاياهم في جيوبهم - أو هي من نكات ذاك الزمان - ويهنئون كل مرة يخرجون من المجلس السلطاني سالمين. مجلس السلطان سليم، من دخل إليه من الوزراء مفقود، ومن خرج منه مولود.
وهو في أسفاره مثله في مجلسه. لاحظ الصدر الأعظم يونس باشا، وهم في الطريق إلى مصر، أن في قطع الصحراء هلاك الجيش، فضرب السلطان عنقه. واجترأ أحد الوزراء أن يعترض على إبقاء أوقاف بعض الشراكسة بيدهم قائلا: سيستعينون بها علينا. فقال السلطان وهو يركب جواده: أين الجلاد؟ فضرب عنق الوزير، بينما كان صاحب الجلالة العظمى يضع رجله في الركاب.
هذا هو مؤسس الدولة العثمانية في البلاد السورية، وقد عاد بعد فتحها إلى الآستانة ومعه أحمال لا تعد من المال والتحف وأنواع الأسلحة والزينة مما كان في قلعة حلب وغيرها.
أما إدارة البلد فلم يغير شيئا في جزئياتها. ظل أرباب الإقطاعات مثلا كما كانوا في دولة المماليك يضمنون الخراج، ويحملون الكرباج، فيدفعون للولاة مما يجمعون، وهم فيما يجمعون لا يرحمون.
ولا هم يرحمون، فإذا غضب الوالي على أحدهم لتأخره عن الدفع مثلا، يرسل عليه جيشا من الإنكشارية فيخرب قراه، ويستصفي أمواله، ويأسر أهله، ويسبي نساءه. فهل يلام المسكين إذا حمل الكرباج؟
من أولئك الإقطاعيين في بداية العهد العثماني، الأمير فخر الدين المعني الأول حاكم الشوف، والأمير جمال الدين الأرسلاني حاكم الغرب، وبنو شهاب في وادي التيم، وبنو حرفوش في بعلبك.
وكان من قواعد الدولة أن تولي أمورها الكبرى لولاتها وقضاتها ، والصغرى لأبناء البلاد، ولكن الولاة
1
كانوا يبتاعون مناصبهم بالمزاد في دار السلطنة، فيرهقون بعد ذلك ويسخرون، ويغتصبون ويختلسون؛ ليعوضوا على أنفسهم فلا يكونون في الأقل من الخاسرين.
من أمثال هذه التجارة، بل هذا الاستعباد، أن أمر السلطان مراد مرة بأن يكتب إلى أحمد باشا كوجك والي الشام ليدفع إلى السلحدار باشا عشرين ألف ليرة (المتبقية على الوالي في الحساب) ويبقى في منصبه، فأدى كوجك المبلغ وهو يحمد الله.
ولا تظنن أن السلطان الصالح المقتدر كان يستطيع أن يصلح أمرا في السلطنة القائمة على حدي السيف والدينار، أو يغير شيئا كبيرا في أحوال أمة لم تتغذ في الألف سنة التي خلت بغير المظالم والحروب.
وهل يا ترى في سلاطين آل عثمان سلطان صالح؟ قد تعرفت أيها القارئ إلى السلطان سليم الأول، وسأعرفك إلى بضعة من خلفائه، الذين يبزون فيما فطروا عليه حتى عبد الحميد الثاني.
خلف السلطان سليم ابنه سليمان السلطان القانوني - القانوني بالقتل، فقد كان كأبيه سفاحا، قتل ابنه الأكبر وحفيده وابنه بايزيد وأولاده الخمسة، فلا عجب إذا كان يقتل كذلك وزيرا فاضلا حال دون تنفيذ ذلك الأمر «القانوني»، بقتل أهل حلب أجمعين؛ لأن جماعة منهم ثاروا على الحكم العثماني.
وهاكم سليم الثاني السلطان السكير الفاسق، «له من أعمال الخلاعة ما يخجل منها»، وقد خنق أرباب القصر عند وفاته، أولاده الخمسة ليمحوا نسله، فكان عملهم ذاك من باب التشذيب الذي يزيد الشجرة قوة ونموا.
وهاكم السلطان مراد الثالث الذي قتل إخوته الأربعة عندما تولى الملك، وهو الذي حارب الموارنة في لبنان ليرضي طائفة الروم التي شكت إليه ظلاماتهم، فوسع ثلمة الشقاق السياسي الديني في الجبل.
وهذا محمد الثالث الذي قتل يوم جلوسه على العرش تسعة عشر أخا له، وعشر جوار حاملات من أبيه، «وكان مع ذلك صالحا عابدا، ساعيا في إقامة الشعائر الدينية»!
وهاكم مصطفى الأول السلطان الأبله، يخلعه مراد الرابع السلطان السفاح الذي كان كأسلافه منهمكا في شهواته ولذاته، ولكنه بزهم جميعا بالقتل. قيل إنه قتل مائة ألف إنسان ؛ منهم خمسة وعشرون ألفا قتلهم بنفسه، أو شاهد قتلهم بأم عينه.
وهذا السلطان إبراهيم الفاجر المعتوه، الذي هلك في الثامنة والعشرين من عمره، شهيد الغواني والكئوس. إن عهده لعهد الجواري والأغوات. قيل إنه كان ينكح كل يوم بكرا، ويقتل كل من يخالف له رأيا، أو يأبى أن يرسل إليه ابنة حسناء يسمع بها.
وقد أمر السلطان إبراهيم مرة بقتل جميع المسيحيين في السلطنة، فقال شيخ الإسلام معارضا: «إن في قتلهم تنقص واردات الملك!» فاقتنع وامتنع. •••
إننا نقف رفقا بالقارئ عند إبراهيم، فنفسح مجالا لبعض الحوادث المتعلقة بهذه الديار البائسة المشئومة.
ما اهتم سلاطين آل عثمان في بلاد الشام لغير ما اهتم له الخلفاء العباسيون؛ أي لضرب السكة والخطبة والخراج. السكة باسمنا، والخطبة والخراج لنا، ولكم بعد ذلك ما تشاءون. فهل يستغرب الخروج على مثل هذا الحكم؟ إنما يستغرب أن يقبله الناس سنة واحدة، ناهيك بمائة سنة.
فما كاد ينتهي القرن السادس عشر حتى سمعت في ذاك الليل الدامس أصوات المظلومين، ولمعت سيوف الزعامات الوطنية. نعم، خرج الناس على الحكم العثماني، ولكنهم كانوا مدحورين؛ لأنهم لم يكونوا متحدين متضامنين.
فقد حارب أمراء الإقطاعات في لبنان بعضهم بعضا، وكانت في السنة الأخيرة من القرن السادس عشر وقعة نهر الكلب، بين ابن معن العربي وابن سيفا الكردي، فانكسر ابن سيفا وتشتتت جنوده، واستولى فخر الدين المعني، الذي كان في طليعة الخوارج، على بلاد كسروان وبيروت.
وكان قد ثار في حلب علي باشا جان بولاذ التركماني، فاستولى على قسم كبير من البلاد التي تليها، وظل مستقلا في حكمه سنتين، فجردت الدولة عليه جيشا كبيرا زحف إلى حلب، ففتحها وباع الأتراك عيال جان بولاذ بيد الدلال، فبيعت أمه بثلاثين قرشا، ثم مثلوا بألوف من المشاغبين وأتوا برءوسهم إلى الوزير.
وزحف هذا الجيش إلى دمشق، فقال الشاعر مؤرخا:
دخل الشام جيوش
كجمال قد رغوا
نهبوها في جمادى
أفحشوا أرخ طغوا
1016
وكان الأمير فخر الدين المعني قد ازداد شوكة في استيلائه على كثير من القلاع وتحصينها، فتعاون عليه ولاة دمشق وطرابلس وديار بكر وحلب، فجندوا جيشا كبيرا وحاصروه تسعة أشهر (1020ه/1062م)، فضاق ذرعا وهو لا يستطيع الدفاع ولا يريد التسليم، فاختفى، ثم هرب في السنة التالية إلى إيطاليا، تاركا الحكم في لبنان وما إليه لابنه علي.
سكنت مراجل الفتن بعد كسرة جان بولاذ وسفر فخر الدين إلى إيطالية، ولكنها عادت تغلي عندما رجع الأمير بعد خمس سنوات، وقد حالفه كوسموس الثاني كبير دوجات طسقانية، فاستولى المعني بمساعدة الأسطول الطسقاني على ساحل سورية، واستأنف الحرب في سبيل الاستقلال، فاستظهر والي دمشق ببني سيفا وبني حرفوش، فحملوا على المعني (1033ه/1623م)، فواقعوه في عين الجر (عنجر) وكانوا مغلوبين.
قويت كلمة فخر الدين وعظم شأنه في البلاد، فأرسلت عليه الدولة جيشا من الأناضول، تشفعه بأسطول للاستيلاء على السواحل، فكسر الثائر المعني الجيش العثماني في وقعتين قرب صفد، ثم انكسر في وادي التيم، وكان الأسطول بمساعدة بنو سيفا وغيرهم من أعداء فخر الدين، قد استولى على الساحل فتشتت المعنيون.
ومن عادات الأمير المعني أن يختفي، فاختفى بعد وقعة وادي التيم، ثم سلم نفسه إلى الوزير العثماني، فأرسله إلى الآستانة، فسمع السلطان مراد الرابع عذره في محاربة أعدائه وعفا عنه، إلا أنه أبقاه هناك أسيرا، ثم أمر بقطع رأسه، وبخنق ابنه الأكبر، ووهب أملاكه إلى والي دمشق.
أما السبب في قتله بعد العفو عنه فهو غامض بعض الغموض، بيد أن الحوادث التي تلت التسليم لا تدل على شيء من الحكمة أو من حسن النية في الدولة.
بعد أسر فخر الدين أمرت على لبنان عدوه علي بن علم الدين اليمني، فبادر هذا إلى التنكيل بآل معن وبني تنوخ أنصارهم، وضبط أرزاقهم (إنما تاريخنا سلسلة من النكبات والانتقامات)، فقام من المعنيين الأمير ملحم يثأر لأهله، فوقعت الحرب بين القيسية واليمنية، حرب العصبيات التي أرادت الدولة أن تثيرها، ثم سمعت شكاوى الناس دامعة العين، وبما أنها لم تتمكن من القبض على الأمير ملحم، قتلت نسيبه الكبير الأمير فخر الدين.
هو فخر الدين الكبير، علم الوطنية الحقة ومشعالها الأوحد في تاريخنا الحديث. •••
وكان في ذلك الزمان متوليا بدمشق درويش الشركسي الذي بكت من مظالمه الناس.
ومن الشركسي هذا إلى أسعد باشا العظم ثالث ولاة الشام من هذا البيت، مائة سنة ونيف (1638-1744م) من الويلات والنكبات، أعد منها ولا أعددها.
وفي سنة 1675 أحرقت قرى البترون، ثم في السنة التالية أحرقت بلاد جبيل وخلت من سكانها.
وأمر والي طرابلس ابن حمادة بإحراق وادي علمات وقرى جبة المنيطرة.
وفي سنة 1679 (1090ه) تولى خليل بن كيوان على صيدا، فظلم الرعية.
وبلغ ظلم والي دمشق حدا لا يطاق، فأقفلت المدينة مرتين احتجاجا عليه.
واشتد ظلم بني حمادة في جهة طرابلس، فخربت القرى ونكبت الناس.
وكانت العصبيتان القيسية واليمنية لا تزالان في قيد الوجود، بل في قيد الفتن والقرود، فتحارب اليمنية مع المتاولة والدروز، وتظاهر القيسية آل شهاب.
وكان الشيخ محمود أبو هرموش القيسي، الخارج على القيسية، متوليا على اليمنية، حاملا على خصومها، فقام الأمير حيدر الشهابي بجيش من القيسية، فباغتوا بني علم الدين وأبا هرموش وجنودهم ليلا في عين داره، وأعملوا فيهم السيف، فما سلم منها غير القليل. «وفي تلك الليلة قتل خمسة أمراء من بني علم الدين، وأمسك الشيخ محمود أبو هرموش، وقطع الأمير لسانه وأباهم يديه، فقويت شوكة القيسيين وعظم أمرهم، ونزح من كان يمنيا من البلاد.»
وعينت الدولة متسلما على حماة (1106ه/1685م) اسمه أسعد بن مزيد، فكانت مظالمه بمزيد كل يوم، فقام الحمويون وأخرجوه من البلد قهرا، فأرسلت الدولة تؤدب الثائرين، وتمثل بهم، ولسان حالها يقول: اخضعوا لعمالي مهما كانت سيرتهم، واتقوا بطشي!
وفي هذه السنة (1119ه/1698م) نهب الأمير يوسف علم الدين مع عساكر الدولة بلدة غزير وأحرقها، وفي السنة التالية غزا الأمير حيدر الشهابي بلاد المتاولة، فتجمعوا بالنبطية للدفاع، فظفر بهم هناك، وقتل منهم جمعا غفيرا. «وسار والي دمشق إلى عجلون، وباغت بلاد نابلس، وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وسبى عسكره نحوا من سبعمائة امرأة.»
وكان الفقراء يهجرون البلاد هربا من الظلم والتسخير، فأمست القرى المعمورة والقصبات المشهورة، ركاما من الطلول الدوارس. أما إذا حاول الأغنياء الجلاء فالوالي يسوق عليهم جنوده، فينهبونهم ويسبونهم، ولا غرو. فمن أين يجيء الخراج إذا هجر الأغنياء البلاد؟
وكان الوالي - والي حماة مثلا - إذا غضب على رجل يضعه على الخازوق، وإذا غضب على امرأة وضعها في خيش مع شيء من الكلس وألقاها في نهر العاصي .
وكان الأمير المتسلم في جهات لبنان إذا غضب على رجل، عاقبه بقطع أشجاره أو بحرق قريته. «وأصبح الناس يتظاهرون بالفقر، فيكتمون أموالهم ويدفنونها في الأرض، لتنجو من المصادرات والسرقات.»
وفي هذه السنة (1160ه/1746م) أحرق أسعد باشا العظم قرى البقاع؛ لأن أهلها تأخروا عن دفع الأموال الأميرية.
وقد حدث في عهده فتنة بين الدالاتية والإنكشارية، فأعمل الباشا السيف في العصاة، وسلب جنوده الدور وأحرقوها.
قال المؤرخ: «وبقيت المشنقة أياما لا تخلو من مصلوب، وتركت جثث القتلى أياما أمام السراي تأكلها الكلاب، وسلخوا رءوس القتلى وجعلوها أكواما، وصارت المدافع تطلق بكرة وعشية مدة شهرين، وكثر العزف بالأبواق وإطلاق الأسهم النارية في الفضاء.» •••
يسلخون رءوس القتلى ويعيدون إكراما للباشا أسعد الذي انتصر على أعداء الدولة ...
أنت سورية بلادي!
وأنتم أيها الطغاة العتاة أجدادي!
الفصل السادس عشر
الدرك الأقصى
ذكر صاحب «الخطط» ثلاثة أسباب لشقاء البلاد السورية في الدور العثماني؛ وهي ظلم الولاة الذين كانوا يرتشون ليرشوا الوزراء، وظلم الجنود الإنكشارية الذين كانوا يصادرون وينهبون ويهتكون حرمات البيوت والأعراض، وظلم صغار الأمراء من أهل البلاد؛ أي أصحاب الإقطاعات في الجبل وأولي النفوذ في المدن.
وقد فاته أن يذكر السبب الأول والأهم؛ أي الجهل، الجهل الذي كان مخيما على طبقات الأمة كلها.
خرجت أوروبة من العصور المظلمة قبل وصول الأتراك الفاتحين إلى حواشيها الشرقية، فظهر فيها العالم والمصلح والمخترع والمكتشف، بينما رعايا هذه الدولة التترية ظلوا مقيدين بقيود الجهل، ومسوقين بسوط الظلم إلى كل ما فيه تحقيق أهواء حكامها وشهواتهم.
فلولا الجهل لما كان الظلم، لولا الجهل لما كان الشقاق والتعصب والضعف والخنوع، ولولا الضعف والخنوع لما استطاعت تلك الدولة الأثيمة أن تحكم رعاياها المتعددة الأجناس والأديان بأذناب الخيل، بالأطواخ.
1
إلى هذا الحد بلغ احتقار الدولة لمن يدفعون خراجها، والأنكى من ذلك أن خراج بعض الألوية كان مخصصا لبعض نساء القصر؛ أي نساء السلطان الثماني الشرعيات
2 (وقد خصص ربع إيالة الشام للمرأة السابعة)، فكن يعين جباة من قبلهن يجبون حصتهن، وكثيرا ما كانت تجبى مرتين.
وهو ذا الطوخ جاء يبشر بقدوم الوزير. هاتوا المال والأرزاق، وتعالوا قدموا فروض الطاعة!
أما الذي لا يتبرع بشيء لنفقات الضيافة - وكسب المضيفين - ولا يعفر الوجه ليظهر إخلاصه للسدة الشاهانية العالية، فهو من الخونة؛ هو خائن الملة والوطن، والويل ثم الويل له.
لنعد إلى التاريخ، وقد تركنا المخلصين للعرش والملة في الشام يسلخون رءوس الخونة ويعيدون.
وكان والي دمشق في أواخر القرن الثامن عشر يحارب الجزار، والأمير بشير يحارب الأمير حيدر في لبنان، وقائد الأسطول العثماني ينصح لمسلمي بيروت بذبح النصارى، والإنكشارية في حلب يذبحون الأعيان والأشراف، والجنود الدالاتية ينهبون قرى دمشق ويخربونها، والدولة راضية بهذه الفوضى، بهذه الفتن، بهذه النكبات البعيدة عنها بشرط أن يقدم أربابها للسدة الشاهانية ما عليهم من الطاعة والمال.
وهو ذا القائد الإفرنسي الشهير يجيء بعد كسرته بمصر (1213ه/1798م) ليختم في سورية عهد البلاء والفوضى،
3
فيفشل عند أسوار عكا، ويفتك بعسكره الطاعون، فيأمر - وهو مثل كل الفاتحين - بقتل جميع الجرحى والمرضى من عساكره كي لا يعوقوه في تقهقره.
لم تتغير أحوال البلاد بعد ارتحال نابوليون بونابرت، وكيف تتغير وفيها الجزار المشهور الذي حكم بأمره وسيفه تسعا وعشرين سنة، فجعلها جنة غناء جن فيها عباد الله، جنوا مما كانوا يسمعون، جنوا مما كانوا يرون، جنوا مما كانوا يقاسون، جنوا من جنون هذا الأجنبي البشناقي، الذي جاءنا هاربا من مصر، وكان فيها من جماعة الأمير الحاكم علي بك.
حكم أحمد البشناقي الجزار تسعا وعشرين سنة (1775-1804م)، فبرز بمظالمه على كل من تقدمه من الظالمين، ولحقت جرائره بالمسلمين والمسيحيين والإسرائيليين على السواء. إني أكتفي بذكر مثلين منها:
استهل الجزار حكمه في عكا بأن ملأ السجون من جميع الناس؛ الفقراء والأغنياء والعمال والعلماء وأصحاب الحرف وكتبة الدواوين؛ وذلك ترويعا للرعية. ثم أمر إرهابا لها بقتلهم أجمعين. «وطرحت القتلى كالغنم خارج عكا، ونادى المنادي: تعالوا ادفنوا موتاكم، وكل امرأة ترفع صوتها تقتل حالا.»
كان الجزار يكره الناس جميعا، وكان كرهه الأشد للنساء. حج هذا السفاح مرة فحدث في أثناء تغيبه حادث بين حريمه ومماليكه، علم به عند رجوعه، فأبعد المماليك، نفاهم، ثم أمر بأن تشب النار في ساحة القصر. وجاء العبيد بالنساء، نسائه، الواحدة تلو الأخرى، حتى بلغ عددهن ثلاثين. وكان العبيد يلقون بالواحدة منهن إلى النار المتأججة، فيتقدم الجزار ويطأ ظهرها ورقبتها بجزمته، كذلك فعل بالثلاثين اللواتي تحولن رمادا أمام عينيه.
وكان ابن عثمان، السلطان الجالس على العرش بالآستانة، راضيا عن أحمد البشناقي الجزار؛ لأنه كان يحسن جمع الخراج، ويضيف إليه في بعض الأحايين شيئا من ماله الخاص. والجزار هو القائل: «السلطان كالبنات، يعطي نفسه لمن يعطيه أكثر.»
قبل أن نودع الجزار، الغريب الأطوار، المكون من طين ومن نار، يجب أن نذكر، فلا نظلمه، ما ذكره صاحب «الخطط»؛ إذ قال: «لا جرم أن التبعة في بعض أعماله تعود على عماله ورجاله، وأكثرهم من أبناء هذه البلاد الذين أفسدتهم تلك العصور، وباءوا بالنقص والقصور.»
4
ويجب أن أذكر حسنة واحدة، شاهدت أثرها عندما زرت الجامع الكبير بعكا؛ هناك مكتبة فيها الكتب - وأكثرها خطية - التي جمعها الجزار رضاء أو قهرا كما كان يجمع الخراج. أليس من الغريب العجيب أن يكون هذا الرجل مولعا بالكتب مبالغا في حرزها؟ «هذا الكتاب وقف أحمد باشا الجزار، لا يباع ولا يعار ولا ينقل.» هي الكلمة المطبوعة على كل مجلد من تلك المكتبة.
5
ولم يكن الجزار منقطع النظير في ذاك الزمان، إلا أنه كان أشهر الجزارين وأغربهم أطوارا. فهذا بربر (البربري) القلموني حاكم طرابلس، أحد أولئك الذين كانت تعول الدولة عليهم في إخضاع البلاد بأية طريقة كانت، خصوصا بإلقاء الفتن وإثارة الحروب بين أمرائها.
وهو ذا جزار آخر، هو جبار زاده جلال الدين باشا والي حلب (1227ه/1811م)، الذي كان يجمع الأموال بالسيف «ولا يكاد يمضي يوم إلا ويقتل إنسانا.»
وكان لهذا الجزار طريقة جديدة في التغريم والإرهاب. قال المؤرخ: «إن ابن جبار كان يرسل من طرفه اثنين حاملين بلطة، يأتيان بمن تجب مصادرته، فيزج في السجن، ويوضع في رقبته سلسلة لها شوك، ثم يطالب بما قرر عليه، فإذا لم يدفع في ثلاثة أيام يخنق ويرمى تجاه باب القلعة، وكلما خنقوا واحدا أطلقوا مدفعا، فكان يعلم عدد المخنوقين في الليلة من عدد المدافع.»
وهو ذا صاحب السعادة في السوق يتفقد شئون الرعية، يمشي الهويناء محدقا في الفضاء، وقد مشت العساكر والبلطجية عن يمينه وعن شماله، ثم يدير بوجهه إلى أحد التجار، فيبادر البلطجية إليه ويضربون عنقه! هنيئا لمن يرمقهم الباشا بنظرة من نظراته. وكان كل مرة يتفقد شئون الرعية يدير بوجهه ثلاث مرات، فيقع التعطف العالي على ثلاثة رجال، ولا ذنب لهم غير ما يريده من إرهاب الناس. لا أظن جزار عكا على غرابة أطواره وفظاعتها، كان يحسن الاختراع مثل جزار حلب في التغريم والإرهاب. •••
ومن الجزار البشناقي إلى الدستور العثماني (1908م) مائة سنة كاملة تمثل في الشطر الأول منها حرب الطوائف شر تمثيل، وامتاز الشطر الثاني بامتيازات الطوائف في لبنان، تلك الامتيازات التي كانت بنتائجها شرا من الحروب؛ لأنها عززت التعصب الديني عدو الإنسانية الأكبر.
أما أهم الحوادث في الشطر الأول من القرن التاسع عشر، فهي التي تبتدئ بإبراهيم باشا المصري الذي جاء هذه البلاد صائلا فاتحا، وتنتهي بمذابح السنة الستين. وهل من صلة بين الحادثتين؟ أجيب: نعم، بل أعتقد أنه لولا مجيء إبراهيم المذكور لما كانت تلك الحوادث، وهاك البرهان:
كان ولا يزال أبناء هذا الجيل ينقادون كل الانقياد إلى رؤسائهم الدينيين والمدنيين، وقد أوسعتك علما بهؤلاء الرؤساء لتتأكد أنهم في كل حياتهم وكل أدوارهم لم يهتموا لغير مصالحهم الخاصة، ولم يكونوا حتى في ذلك من الحكماء دائما.
دخل إبراهيم باشا البلاد فاتحا منتصرا (1830م)، وكان الأمير بشير الشهابي الملقب بالكبير مع إبراهيم، وكان إبراهيم والأمير يحاربان الدولة العلية، وكانت فرنسة سياسيا معهما. وفرنسة، «أمنا الحنون»، تسمسر لنا دائما بالطيبات - بالمذابح! ... ساعدوا إبراهيم تنجوا من الترك!
نزل رجال لبنان إلى الميدان، وكان الدروز يومذاك مع الدولة، أو بالحري كانوا أعداء الشهابيين. هي اليمنية والقيسية تبعثان ثانية وتستأنفان القتال، أما ظاهر الأمر فهو أن الدروز كانوا مع الدولة على إبراهيم وأنصاره، فسجلت الدولة هذه المكرمة للدروز، ولم تنس نصارى الجبل. هذي هي بذور السنة الستين وما تقدمها من المذابح.
وقد كان الأمير بشير ينفذ أوامر إبراهيم فيمن خرجوا عليه، فحمل على أهالي عكار والحصن وصافيتا حملات موفقة، وغزا جبال النصيرية ففتحها وأحرق عسكره ثمانين قرية من قراها. صرنا في القرن التاسع عشر ولا تزال فطرتنا فطرة الحثيين والفينيقيين والشركس والتراكمين.
أما سيد الجميع إبراهيم فقد أرهق الناس بالضرائب، وضرب على أيدي أصحاب الإقطاعات فقضى على سيادتهم ونفوذهم، ووضع قانونا للتجنيد الإجباري وشرع في تنفيذه، فنفر منه جميع السوريين، الخاصة منهم والعامة.
وقد أبى دروز حوران تجنيد أولادهم، فأرسل عليهم الفاتح الحملة تلو الأخرى، وفيها من أبناء لبنان (كما فعلت الدولة المنتدبة أمس في مرجعيون وراشيا)، فاشتد الغل بين الفريقين.
وبعد أن رد الدروز تلك الحملات مدحورة، صمم إبراهيم على تسميم الآبار بمحلول السليماني؛ ليحملهم على هجر الديار، فعلموا بذلك ونزحوا إلى إقليم البلان.
وكانت السياسة الأوروبية آخذة في التطور والتلون على عادتها، فاتفقت إنكلترة وفرنسة
6
على إبراهيم (كما اتفقتا أمس على الثوار السوريين)، وضربت المدرعات البريطانية عكا، فقام إذ ذاك الموارنة الذين كانوا مع الفاتح المصري يلبون دعوة رؤسائهم الدينيين والمدنيين، للعمل الذي فيه إرضاء «الأم الحنون»، وصون مصالح أصحاب الإقطاعات.
نعم، انقلبت فرنسة على إبراهيم فانقلب الرؤساء المحترمون معها، وقام المشايخ والأمراء، النكديون واللمعيون وبعض الشهابيين، يشقون عصا الطاعة على الحكومة المصرية، لا دفاعا عن حقوق الأمة، بل استرجاعا لحقوقهم الإقطاعية التي كانت قد أبطلت وكادت تزول.
مساكين من ينقادون للإكليروس والأمراء. ظن اللبنانيون أنهم يسترضون الدولة في نهوضهم مع من نهضوا، ليخرجوا الفاتح المصري من البلاد، ولكن انقلابهم لم يغنهم لدى الترك شيئا. قد كتب ما كتب.
بعد خروج إبراهيم باشا وسقوط الإمارة الشهابية (1842م)، وبعد تعيين عمر باشا النمساوي حاكما على لبنان، وإجماع اللبنانيين على رفضه وإصرارهم على أن يكون الحاكم وطنيا، قسمت الدولة البلاد، عملا برأي حكومة النمسة، إلى قائمقاميتين: جنوبية وشمالية، يحكم الأولى أمير أرسلاني، ويحكم الثانية أمير لمعي . فوسعت شقة الخلاف بين الدروز والنصارى، وطفقت تضرم بواسطة عمالها نيران الفتن الطائفية، فدارت الدوائر لأول مرة على الأقليتين المسيحية والإسماعيلية (وهؤلاء الإسماعيليون أو العلويون هم إخوان الموارنة في حب الأجانب وفي البلاء).
عاد أرباب النفوذ والإقطاعات - هم الحكام الوطنيون! - إلى سالف مجدهم وشرورهم، واستخدمت الدولة الدروز منهم لتنفيذ مآربها، بل للأخذ بثأرها، فكانت تنزع السلاح ممن تروم تذبيحهم في هذا السبيل. إذن ليس بعجيب أن تتلو المذابح مثل هذه الحال، فقد كانت سنة 1845 مقدمة للسنة الستين، وكان انتصار الموارنة لإبراهيم السبب الأول في المذابح، التي حدثت بعد جلائه بخمس سنين، فأعمل الدروز سيف الدولة برقابهم، ودخل جنود الدولة الجبل مفحشين. أتساعدون إبراهيم عدو الدولة وأنتم من رعاياها؟!
روي عن قنصل إنكلترة ببيروت أنه قال: «يوجد في سورية آفتان كبيرتان؛ هما: المسيحيون والدروز، فكلما ذبح أحدهما الآخر، استفادت الحكومة العثمانية.»
ولكني أعتقد وأتيقن - وقد جئتك بالبرهان القاطع - أنه لو لم يحارب الموارنة مع إبراهيم باشا لما كانت مذابح سنة 1845، ولولا هذه المذابح لما كانت «سنة الستين». لله من تاريخ هو سلسلة من الانتقامات!
وهاكم ساسة أوروبة يبادرون إلى حماية نصارى الشرق، وفي رأس الحماية تجارتهم (أي تجارة الأوروبيين) ومصالحهم السياسية والاقتصادية.
فتبع المذابح في لبنان خمسون سنة من الامتيازات؛ امتيازات القناصل لا اللبنانيين. والأجدر بتلك الحكومة أن تدعى «حكومات القناصل»؛ قناصل الدول الحامية، أولئك القناصل الذين كانوا يلعبون بأعيان لبنان وبرؤسائه لعب الأكرة، ويستمتعون في لبنان بما يقصر دونه جاه السفراء بالآستانة، ويستثمرون ضغائن الطوائف ومطامع رؤسائها لمنفعتهم ومنفعة دولهم الخاصة.
وتلت حكومة القناصل حكومة الدستور العثماني، فقام في لبنان من يدعون للاشتراك بالدستور، ولإرسال مندوبين لبنانيين إلى البرلمان بالآستانة، فأبى اللبنانيون وكانوا على عادتهم تابعين عماوة لرؤسائهم وزعمائهم، الذين يؤثرون المصلحة الخاصة دائما على مصالح الوطن كلها.
رفض لبنان الاشتراك بالدستور، رفض التنازل عن امتيازاته وقناصله (وقد تنازل عنها بعد بضع عشرة سنة لدولة فرنسة، فأعطته بدلا منها جمهورية فخمة ضرائبها لا تعد).
وذهب الدستور العثماني مع الذاهبين، وظل ساسة الترك الاتحاديون والائتلافيون يذكرون اللبنانيين بالخير! فجاءت الحرب العظمى، وجاء الحصار، بل جاء الحساب؛ كانت المجاعة، وكان التجويع.
فلو كان لبنان دستوريا في ذاك الحين، هل كان خسر يا ترى أكثر من خسارته بعد زوال الدستور؟
إني أسألك سؤالا آخر: لو كان لبنان دستوريا في ذاك الحين، هل تظن أن جمالا كان فعل بأهله ما فعل؟
إذا كان في التاريخ فائدة ما، فهي في هذه الدروس التي يلقيها علينا. هي في الأمثولة التي تعلمنا أن يجب أن نتعظ بمساوئ الماضي. هي في الأمثولة التي تعلمنا أن من الإثم أن نورث أبناءنا ما ورثناه من مساوئ الماضي. هي في الأمثولة التي تعلمنا ألا يجب أن نظل مخدرين إلى الأبد بأوهام التاريخ، ولا يجب أن نسمم عقل الأمة إلى الأبد بسمومه. يجب أن نعرف الحقيقة كلها، فنستنير بها إذا كانت خيرا، وإذا ما كانت شرا ننبذها ونتقي أمثالها.
وها قد وصلنا إلى يومنا هذا، وهو يوم من الأيام التي سردنا تاريخها. وها إن البلاد بلادان سورية ولبنان؛ سورية المجاهدة، ولبنان المتقاعد. سورية الدامية ولبنان المتفرج. سورية النازعة إلى الاستقلال، ولبنان القانع بخيال من الحرية والاستقلال. بل ترانا نعيد أغلاط أجدادنا، فيعيد التاريخ نفسه في راشيا وكوكبا ومرجعيون، وتستخدمنا دولة إفرنجية لأغراضها كما كانت تستخدمنا الدولة العثمانية.
فهل تصفو نية السوري فينسى الأجداد الذين يشيد على الدوام بمفاخرهم، وينسى الدول الإسلامية التي يتغنى على الدوام بأمجادها - وقد عرف من هذا التاريخ حقيقتها وحقيقتهم - وينصرف بكل قواه، وكل عقله، وكل قلبه، وكل ما لديه من أسباب العمل إلى ما فيه خيره وخير أخيه اللبناني على السواء قبل كل شيء؟
وهل ينبذ اللبناني رؤساءه وزعماءه الذين انقاد لهم في عهد الدستور، وفي أيام إبراهيم باشا - وفي هذا العهد، عهد الانتداب الحديث - ورأى بأم عينه نتيجة انقياده المفجعة؟!
إخواني، أبناء هذه البلاد، سهلها وجبلها وساحلها.
هل نظل مقيدين على الدوام بقيود الأجداد، بل بقيود الخوف والجهل، والتعصب والأوهام؟ هل نخدم على الدوام مصلحة السادة الرؤساء ، المعممين والمقلنسين، التي نظنها مصلحة الوطن؟
هل نخدم على الدوام مصلحة المنتدبين، التي نعلم حق العلم أنها تنافي مصلحة البلاد؟
هل نرضى بخيال الجمهورية ونساعد في خنق كل أمل من آمالنا الوطنية القومية؟
وهل نرضى بأن نقول: إننا إخوانكم، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، ولا ننبذ من قلوبنا كل غل قديم وكل حقد ديني ذميم؟ •••
إخواني، أبناء هذه البلاد، سهلها وجبلها وساحلها!
إننا لا نزال في دياجي الليل ولا تزال المحجة بعيدة.
إننا لا نزال في ظلمات قدت من ظلمات الماضي.
إننا لا نزال في أغلاط هي إحدى أغلاط الماضي.
إننا لا نزال نئن من شرور هي بنات شرور الماضي.
أي لبنان بلدي، أي سورية بلادي، إن فيكما اليوم رؤساء وزعماء هم من سلالة رؤساء وزعماء الماضي.
وإن فيكما شعبا طائعا قانعا، يائسا بائسا، محوقلا مستسلما، هو متحدر من أولئك الذين كانوا في الماضي يدفعون الخراج، ويأكلون الكرباج.
والطقس جميل،
والهوا عليل،
والليل طويل،
نعمة كريم.
7
अज्ञात पृष्ठ