الجزء الأول: في تاريخ مصر قبل الإسلام
المقدمة
1 - في زمن الملوكية المصرية، وفيه ثلاثة فصول
2 - في ذكر مصر تحت حكم اليونان، وفيه فصلان
3 - في ذكر مصر تحت حكم الرومان، وفيه فصلان
الجزء الثاني: في تاريخ مصر بعد الإسلام
المقدمة
1 - في الدولة العربية ومصر مدة حكمها، وفيه ثلاثة فصول
2 - في الدول التي حكمت مصر مستقلة، وفيه ثلاثة فصول
3 - في الكلام على الدولة العثمانية ومصر مدة حكمها، وفيه فصلان
الجزء الأول: في تاريخ مصر قبل الإسلام
المقدمة
1 - في زمن الملوكية المصرية، وفيه ثلاثة فصول
2 - في ذكر مصر تحت حكم اليونان، وفيه فصلان
3 - في ذكر مصر تحت حكم الرومان، وفيه فصلان
الجزء الثاني: في تاريخ مصر بعد الإسلام
المقدمة
1 - في الدولة العربية ومصر مدة حكمها، وفيه ثلاثة فصول
2 - في الدول التي حكمت مصر مستقلة، وفيه ثلاثة فصول
3 - في الكلام على الدولة العثمانية ومصر مدة حكمها، وفيه فصلان
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
تأليف
محمد زكي
الجزء الأول
في تاريخ مصر قبل الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك يا من زينت عرائس الأثر بلطائف الغرر، وبهرجت كواعب السير بطرائف الطرر، ونصلي على من قص علينا من الحكم آيات وسورا، وتلا لنا من المواعظ أشكالا وصورا، وعلى آله الرواة الثقات، وأصحابه أولي العزم والثبات، ما اتصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر.
أما بعد: فلما كان التاريخ آية تتلاعب بالفكر، ومرآة ترتسم فيها صور العبر، وملعبا تتلاعب فيه العقول، وميدانا تتسابق فيه الفحول، ولم أجد مع كثرة كتبه ما يشفي العلة، ويروي الغلة، لدورانها بين اختصار مخل، وتطويل ممل، جمعت هذا المختصر من صحيح الأثر وحقائق الخبر، وأودعته من الأنباء ما فيه مزدجر، ونزهته عن الخرافات، وبرأته من الترهات، وجنبته كل مبتذل شائع، كوصف الملوك والوقائع، وضمنته تاريخ من ملكوا مصر من الفراعنة الأول، وما بعدهم من الملوك والدول، مبينا فيه أسباب ارتفاع كل دولة وانخفاضها، وأسباب وجودها وانقراضها؛ فجاء - والحمد لله - فريدا في بابه ، مفيدا لطلابه، صحيح الأثر، صادق الخبر، جعله الله هاديا للعباد، ودليلا للرشاد، دائم النفع بدوام مليكنا الأكرم، وعزيز مصرنا الأفخم، من رفع عرش المجد على أرفع المباني (خديونا الأعظم عباس باشا الثاني)، ما ترنمت الأدباء بصحيح الأنباء.
المقدمة
وتشتمل على مقالتين
قد كانت مصر أولا مدة الفترة التاريخية محكومة بطائفة القسس، ثم ظهر رجل من مدينة طينة يدعى منا في نحو سنة 5626ق.ه، فتغلب على الكهنة ونزع الحكم من أيديهم، وأسس بمصر الملوكية المصرية، التي مكثت أكثر من أربعة آلاف سنة تحت حكم إحدى وثلاثين عائلة من الملوك الذين يقال لهم الفراعنة، وهم ملوك مصر القدماء. غير أن هذه المدة يتخللها بعض إغارات أجنبية كونت بعض عائلاتها، وهي إغارات الملوك الرعاة والإثيوبيين والآشوريين والعجم، ثم تغلب عليها الإسكندر الأكبر فصارت جزءا من الدولة المقدونية، وبعد موته وقعت في قبضة بطليموس أحد ملوك الطوائف فأسس فيها الدولة البطليموسية، فلم تزل في حكم اليونانيين حتى تغلب عليها الرومانيون فصارت إيالة رومانية تابعة أولا لمدينة رومة، ثم لمدينة القسطنطينية لما انقسمت الدولة الرومانية إلى دولة رومانية شرقية وإلى دولة رومانية غربية. وقبل أن نشرع في التكلم على هذه العائلات نذكر أولا وصف مصر الجغرافي وأقسامها القديمة، ومنشأ المصريين القدماء وأقسامهم، وهيئة حكومتهم وتمدنهم، ومعتقداتهم، فنقول:
المقالة الأولى
في وصف مصر الجغرافي وأقسامها القديمة، ومنشأ المصريين القدماء وأقسامهم
مصر هي واد ضيق لا يزيد عرضه عن 40 كيلومترا، يسقى بماء النيل، ويمتد من شلال أصوان إلى البحر الأبيض المتوسط على طول يبلغ 880 كيلومترا، منحصرا بين سلسلتين من الجبال الصخرية قليلتي الارتفاع، إحداهما جهة الشرق تسمى سلسلة جبال العرب، وتمتد خلفها إلى البحر الأحمر صحراء العرب، والأخرى جهة الغرب تسمى سلسة جبال ليبيا، وتوجد خلفها صحراء ليبيا التي تشتمل على خمس واحات أعظمها واحة سيوة، وهاتان السلسلتان يقل ارتفاعهما كلما اتجهتا إلى جهة الشمال حتى تنمحيا عندما تصلان إلى القاهرة، فيأخذ وادي النيل في الاتساع حينئذ، ويكون شكل مثلث كان يعرف قديما بالدلتا عند اليونانيين ، قاعدته من إسكندرية إلى بورسعيد تبلغ 250 كيلومترا تقريبا، أما نهر النيل فيجري في وسط هذا الوادي، وكان يصب قديما في البحر الأبيض المتوسط من سبعة أفرع، وأما الآن فيصب فيه من فرعين، وهما فرع رشيد وفرع دمياط.
وكانت مصر تنقسم إلى 44 قسما أو مديرية؛ اثنان وعشرون منها في الوجه البحري واثنان وعشرون في الوجه القبلي، وهذه الأقسام كانت قبل اجتماع مصر إلى مملكة واحدة عبارة عن ممالك صغيرة مستقلة تحت حكم أمراء مستقلين يتولون الإمارة بالوراثة، فلما اجتمعت مصر وصارت مملكة واحدة كونت كل مملكة من هذه الممالك الصغيرة قسما من أقسام مصر، وإنما استمر بعضها تحت حكم أمراء من بيوت العائلات الملوكية القديمة يتوارثون الإمارة كل في قسمه، ويحكمون بالتبعية لفرعون مصر؛ أي ملك الوجه القبلي والوجه البحري، وأما البعض الآخر من هذه الأقسام، فصار يحكم بحكام قابلين للعزل يعينهم الملك حسب إرادته.
وأما قدماء المصريين فينسبون إلى مصرايم بن حام بن نوح عليه السلام؛ فإن بني حام كانوا قد هاجروا من أوطانهم بآسيا عندما أخذت ذراري نوح عليه السلام في الانتشار في الأرض من بعد الطوفان، فعبروا برزخ السويس واستوطن منهم أولاد مصرايم بوادي النيل، وقد كان هؤلاء المصريون القدماء منقسمين إلى خمس طوائف، وهي طائفة القسس، وطائفة الجهادية، وطائفة الزراعين، وطائفة الصناع، وطائفة الرعاة، بحيث إن الابن كان في الغالب يحترف بحرفة أبيه، وكان أعظم هذه الطوائف شوكة واعتبارا طائفة القسس الذين مع اختصاصهم بالأمور الدينية كانت في يدهم أيضا وظائف القضاء في الحكومة، ثم طائفة الجهادية، وهكذا، وكانت جميع أراضي مصر في أيدي الملك وأيدي هاتين الطائفتين، بحيث إن بقية الأهالي كالزراعين والرعاة مثلا لم يكونوا إلا عمالا بالأجرة، وكانت حكومة مصر ملوكية مطلقة وملوكها الملقبون بالفراعنة يعتبرون اعتبار الآلهة ويزعمون أنهم من سلالتهم.
المقالة الثانية
في تمدن قدماء المصريين وبيان معتقداتهم
قد بلغ المصريون أقصى درجات التمدن من قبل الهجرة بنحو الخمسة آلاف سنة، وقد وصلوا إلى هذا التمدن من تلقاء أنفسهم لا بالأخذ عن غيرهم ، وكانوا شديدي التمسك بالديانة ويعتقدون بوحدانية الإله. غير أنهم لقبوا الإله في العبادة بألقاب مختلفة، كآمون وبتاح وأوزوريس، وميزوا كل اسم بعلامات خصوصية، وجعلوا له معابد خاصة، فتجزأت الألوهية تجزؤا كبيرا، وزال الاعتقاد بالوحدانية من عند الأمة، ولم يبق إلا عند القسس، وقد شبهوا الآلهة في مبدأ الأمر بالكواكب، ثم لم يفرقوا بينهم؛ فمثلا الإله «رع» كان رمزا للشمس، والإلهة «إيزيس» كانت رمزا للقمر، ثم جعلوا الشمس الإله الأعظم، وضموا لفظ «رع» إلى لفظ «آمون» و«بتاح» و«أوزوريس»، وقد اعتقد المصريون بتجسد الآلهة على الأرض، فعبد كل قسم من أقسام مصر الحيوان الذي يقولون إن الإله انتخبه لظهوره به مدة إقامته على الأرض، فعبدوا حينئذ التمساح والكلب والباشق (الباز) وأبا قردان والتيس والقط والنمس، وخصوصا العجل المسمى أبيس، واتخذوا لها معابد.
وكان المصريون يعتقدون أن الموت ليس إلا تغيرا في الحياة، فيقولون: إن للجسم صورة؛ أي طيفا يعيش بعده بعد أن يصير عديم الحركة ما دام محفوظا؛ ولذا كانوا يصبرون الأموات، ويضعونهم في مقابر مشيدة لأجل حفظها من حوادث الزمان ومن كل رجس وتدنيس، ثم إنهم كانوا يعتقدون أيضا بوجود الروح، وأنها تحاسب بعد الموت أمام أوزوريس وقضاة النار الاثنين والأربعين، فإذا كانت غير محسنة فهي في العذاب الأليم حتى تنعدم بعد موت ثان، وأما إذا كانت محسنة فتلحق بالجسم والطيف بعد امتحانات عديدة، وتبقى معهما حتى تبعث.
أما الصناعة فقد تقدمت كثيرا عند المصريين؛ فقد كانوا ينسجون أقمشة الكتان والصوف، ويستعملون في صباغتها ألوانا لا تتغير قط بتداول الأيام والسنين، وكانوا يحسنون سبك المعادن من ذهب وفضة وبرونز، وكانوا يعرفون القيشاني والزجاج والمينا. أما آثاراتهم فمشهورة بعظم حجمها؛ وأهمها آثارات لقصر ومدينة آبو والفيوم وأهرام الجيزة. وقد اشتغل المصريون أيضا بالعلوم، خصوصا علم الهندسة والفلك والطب والجغرافية. وقصارى الأمر أن مصر كانت منبع العلوم والمعارف، وفيها نبغ أعظم واضعي القوانين من اليونان؛ ليكورغة وصولون، وأعظم فلاسفتهم؛ فيثاغورث وأفلاطون، وغيرهم من مشاهير الرجال الذين اشتهروا بالعلوم والمعارف.
الباب الأول
في زمن الملوكية المصرية، وفيه ثلاثة فصول
إن الإحدى والثلاثين عائلة المتقدم ذكرها التي حكمت مصر من ابتداء الملك منا تنقسم إلى ثلاث طبقات تعرف بالدولة القديمة والدولة الوسطى والدولة الحديثة، وكانت كل عائلة تسمى باسم المدينة التي اتخذتها تختا لملكها؛ فيقال عائلة طينية؛ أي تخت ملكها بمدينة طينة، وعائلة منفية؛ أي تخت ملكها بمدينة منف، وعائلة طيبية؛ أي تخت ملكها بمدينة طيبة، وعائلة صاوية؛ أي تخت ملكها بمدينة صا الحجر، وهكذا. أما إذا كانت العائلة أجنبية فتسمى باسم أمتها؛ ولذا يقال العائلة الإثيوبية، والعائلة الفارسية، والعائلة المقدونية، وهكذا.
الفصل الأول
في الطبقة الأولى، وهي الدولة القديمة، وفيه ثلاثة مطالب:
حكمت هذه الدولة 1940 سنة (5626-3686ق.ه) وتشتمل على عشر عائلات من العائلة الأولى إلى العائلة العاشرة.
المطلب الأول
في الملك منا ومبدأ الدولة القديمة
لما ظهر الملك منا من مدينة طينة التي هي بلدة كانت بالقرب من العرابة المدفونة بجوار جرجا، وتغلب على الكهنة ونزع الحكم من أيديهم، تولى هو ملك مصر، ولما رأى ميل أهالي طينة إلى القسس تركها وأسس مدينة منف المعروفة الآن بالبدرشين وميت رهينة، وجعلها تخت ملكه، وحول إليها مجرى النيل، فجعله يجري بقربها من الجهة الشرقية في وسط وادي النيل، بعد أن أبطل مجراه الأصلي الذي كان بقرب سلسلة جبال ليبيا، والجسر الذي أعده لهذا الغرض موجود للآن، ويعرف بجسر قشيشة، فأصلح بذلك الأراضي التي في شرقها وجعلها تصلح للزراعة، وشيد فيها هيكلا لمعبودها بتاح، ثم سن القوانين، ونظم السياسة، ورتب الديانة، وغزا سكان ليبيا الذين شنوا غارة الحرب عليه فقهرهم، وأدخلهم تحت طاعته، ثم مات بعد أن حكم اثنتين وستين سنة.
ومن بعده تلقب ملوك مصر بملوك الوجه القبلي والبحري. غير أن مصر بقيت على التجزئة التي كانت عليها قبل ظهوره مدة الثلاث عائلات الأول التي لم يعلم من تاريخها شيء تقريبا حتى ظهرت العائلة الرابعة، فانضمت إلى بعضها وصارت مملكة واحدة.
المطلب الثاني
في زمن تشييد أهرام الجيزة، وهو العصر الأول من أعصار الفنون المصرية
قد كانت العائلة الرابعة أشهر عائلات الدولة القديمة؛ فإن في عهدها كان تشييد أهرام الجيزة؛ أكبر الأهرام الموجودة بمصر، وفي أيامها بلغت مصر درجة عظمى في التمدن، ونمت فيها الفنون والعلوم والثروة الأهلية بطريقة عجيبة، ومن عهدها صار يستدل من الآثار التي بالمقابر على تتابع الملوك والحوادث التاريخية، بل وعلى كيفية معيشة قدماء المصريين. وكان أشهر ملوكها الملك خوفو؛ فقد كان رجلا مقاتلا ومحبا لتشييد العمارات؛ فهو الذي شيد الهرم الأكبر من أهرام الجيزة، واستعمل في بنائه، مع المناوبة، في كل ثلاثة أشهر مائة ألف عامل، فاستمرت عمارته ثلاثين سنة؛ منها عشرة في توطيد أرضيته وبناء حجراته السفلى وبناء الجسر الموصل إليه من شاطئ النيل بالحجارة، وكان معدا لنقل الأحجار التي بني بها هذا الهرم، ومنها عشرون سنة في تشييد نفس الهرم، ويبلغ ارتفاعه الآن 137 مترا، ويتركب من 200 طبقة من الأحجار الجسيمة، وقد كان مغطى بطبقة من الأحجار المنحوتة أزيلت عنه من منذ قرون، ولو كان بقي على حالته الأولى لكان يبلغ ارتفاعه 150 مترا، وأما ضلع قاعدته فيبلغ 235 مترا، والأحجار التي استعملت في بنائه يبلغ حجمها 25000000 متر مكعب، وهو يشتمل على ثلاث حجرات وجملة طرقات موصلة إليها، ثم على بئر عميقة، وأعجب ما يستغرب منه في تشييد هذا الهرم المهارة التي توصل بها المصريون إلى بناء ما بداخله من الحجرات والطرقات التي مع توالي تلك السنين عليها لم يحصل لها أدنى خلل مع عظم الثقل الجسيم الذي فوقها.
أما الهرم الثاني الذي شيده الملك خفرع فيبلغ ارتفاعه 135 مترا، والهرم الثالث الذي شيده الملك منكورع، وأتمته الملكة نيتوقريس من العائلة السادسة لا يزيد ارتفاعه عن 66 مترا.
المطلب الثالث
في انتهاء الدولة القديمة
ثم حافظت مصر على رونقها مدة العائلة الخامسة والعائلة السادسة التي كانت من أشهر عائلات الدولة القديمة، أما زمن الأربع عائلات الأخيرة من هذه الدولة التي لم يعلم حقيقة ما حصل بمصر في عهدها، فكان زمن اضطراب وهيجان وحروب داخلية أوقفت مصر عن التقدم، وفقدت منف في أثنائها الرئاسة التي كانت لها على البلاد من عهد الملك منا، وتجزأت المملكة، فلما كانت أواخر أيام العائلة العاشرة انتصر أمراء طيبة على ملوك هذه العائلة، فأسسوا بطيبة العائلة الحادية عشرة التي هي مبدأ الطبقة الثانية.
الفصل الثاني
في الطبقة الثانية وهي الدولة الوسطى، وفيه مطلبان:
مكثت هذه الدولة 1361 سنة (3686-2325ق.ه) وتشتمل على ست عائلات من العائلة الحادية عشرة إلى العائلة السابعة عشرة، وفيها حصلت إغارة الملوك الرعاة.
المطلب الأول
في العصر الثاني من أعصار الفنون المصرية
قد تجددت بظهور العائلة الحادية عشرة التي هي مبدأ هذه الدولة ثروة مصر وبهجتها، وتجدد تاريخها، مع التغيير الكلي في حالة البلاد السياسية والدينية؛ فقد تغيرت أسماء الأعلام المستعملة في العائلات وأسماء الوظائف، وتغيرت الكتابة والديانة أيضا؛ فإن المرتبة الأولى صارت لمعبودات طيبة بعد أن كانت لمعبودات منف، وانتقل كرسي المملكة من منف إلى طيبة، ولكن العائلة الثانية عشرة هي التي يكون زمنها العصر الثاني من أعصار الفنون المصرية، فإنها كانت أشهر عائلات هذه الدولة، ومن أعظم عائلات مصر بهجة ورونقا وأوضحها تاريخا، وفي عهدها كانت بمصر بأجمعها من شلال أصوان إلى البحر الأبيض المتوسط مملكة واحدة خاضعة لملك واحد، كما كانت في زمن العائلة الرابعة، وقد مدت حدودها شمالا لغاية صحراء بلاد الشام وجنوبا إلى الشلال الرابع، وشيدت بتلك الجهات حصونا وقلاعا لمنع أهل آسيا والنوبة عن التعدي على حدودها، وكان أشهر ملوك هذه العائلة الملك أمنمحعت الثالث؛ فإنه نظم فيضان النيل الذي هو روح مصر؛ وذلك أنه لما وجد فيضان النيل غير منتظم؛ فتارة يزيد زيادة عظيمة بحيث يقطع الجسور ويغرق البلدان، وطورا تكون زيادته طفيفة، بحيث لا تكفي لري جميع الأراضي الزراعية، أراد أن يتدارك هذه المضار، فأمر بحفر البركة الموجودة الآن بوادي الفيوم المسماة بحيرة موريس، وكان بجانبها بركة طبيعية تعرف ببركة قارون، فكان يصرف إليهما القدر الزائد من مياه النيل عن المنافع الضرورية، إذا كان الفيضان كثيرا، وتروى بمياههما جميع أراضي الجانب الأيسر من النيل إلى البحر الأبيض المتوسط إذا كانت زيادة النيل ضعيفة.
وكان في وسط بركة موريس هرمان، في كل منهما تمثال جالس، فالهرم الأول كان فيه تمثال الملك أمنمحعت يشاهد بركته التي حفرها، والثاني كان فيه تمثال زوجته. وشيد في الجهة الشرقية من هذه البحيرة، على ربوة عالية متسعة طولها مائتا متر وعرضها مائة وستون مترا، سراية شهيرة تسمى سراية لابيرانته، يوجد بداخلها اثنتا عشرة رحبة متقابلة الأبواب؛ ستة على اليمين وستة على الشمال، وهذه السراي محاطة من الخارج بسور كبير، وفيها ثلاثة آلاف غرفة؛ منها ألف وخمسمائة في الدور الأول وألف وخمسمائة في الدور الثاني، وجميعها مسقوفة بالحجارة، ومقامة على أعمدة من الحجر الأبيض منتظمة الصفوف. وفي آخر هذه السراي هرم مزين بالرسوم يتوصل إليه من سرداب تحت الأرض، دفن فيه الملك أمنمحعت الثالث.
المطلب الثاني
في الملوك الرعاة
وبعد العائلة الثانية عشرة أخذ تاريخ مصر في الانحطاط، فإنه لا يعلم من تاريخ العائلة الثالثة عشرة والعائلة الرابعة عشرة إلا شيء قليل، أما في عهد الثلاث عائلات الأخيرة من هذه الدولة الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة، فقد كانت مصر محكومة بقوم يقال لهم: الملوك الرعاة أو الهيكسوس، وهم أقوام من آسيا، رحل، أغاروا على مصر من جهة برزخ السويس، فتملكوا على الوجه البحري بدون كبير معارضة، وأخذوا يحرقون المدن والمعابد، وينهبون ما فيها، ويقتلون الأهالي، ثم صعدوا النيل إلى مدينة طيبة. غير أنهم لم يمكنهم أن يستوطنوها، بل تركوا الحكم فيها لأمراء المصريين بشرط أن يدفعوا لهم الجزية، وقد أسسوا لهم حكومة منتظمة، ورتبوا خفراء لملاحظة الوجه القبلي، ثم غلب عليهم التمدن المصري بعد أن أقاموا في مصر مدة؛ فتعلموا لغة المصريين، واعتادوا بعوائدهم، ثم تعودوا على الترف والخمول أيضا؛ لوجود الراحة وكثرة الثروة، حتى تقوى عليهم أمراء طيبة، وطردوهم من أرض مصر بعد أن أقاموا بها أكثر من خمسمائة سنة في عهد الملك أحمس؛ أحد هؤلاء الأمراء الذي أسس بعد طردهم العائلة الثامنة عشرة؛ مبدأ الدولة الحديثة.
وقد كان بيع يوسف الصديق عليه السلام في مصر وحضور بني يعقوب إليها وتوطنهم فيها في عهد هؤلاء الملوك في أيام العائلة السادسة عشرة.
الفصل الثالث
في الطبقة الثالثة، وهي الدولة الحديثة، وفيه أربعة مطالب:
أقامت هذه الدولة 1371 سنة (2325-954ق.ه)، وتشتمل على أربع عشرة عائلة؛ من العائلة الثامنة عشرة إلى العائلة الحادية والثلاثين، وفيها حصلت إغارات الإثيوبيين والآشوريين والعجم.
المطلب الأول
في عصر الفتوحات، وهو العصر الثالث من أعصار التمدن المصري
إن عصر العائلات الثلاث الأولى من هذه الدولة كان في الرونق والبهاء كعصر العائلة الرابعة من الدولة القديمة وكعصر العائلة الثانية عشرة من الدولة الوسطى؛ أي إنه يكون المدة الثالثة من عصر التمدن المصري، وتسمى هذه العائلات الثلاث؛ أي الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرون، بالعائلات الحربية؛ فإن في عهدها كثرت فتوحات مصر واتسعت حدودها، فامتد حكمها شمالا لغاية شواطئ الدجلة والفرات، وجنوبا لغاية إقليم النيل الأزرق، وشرقا إلى الشاطئ الغربي من بلاد العرب، ودخل في حوزتها أيضا كثير من جزائر البحر الأبيض المتوسط، وكانت مكللة بالنصر في جميع فتوحاتها سواء كانت برا أو بحرا.
فأما العائلة الثامنة عشرة فكان أشهر ملوكها الملك أمنحتب الأول الذي فتح بلاد الإثيوبية لغاية البحر الأزرق، وأسس فيها مستعمرة مصرية يبلغ اتساعها قدر اتساع مصر، والملك تحتمس الأول أول من دخل بلاد آسيا من ملوك مصر وأخضع بلاد الشام لغاية نهر الفرات، ثم الملك تحتمس الثالث أعظم الذين اشتهروا بالفتوحات من ملوك مصر؛ فقد أوغل بجيوشه في مبدأ الأمر في آسيا لغاية نهر الدجلة، وأدخل تحت طاعته الأمم الذين كان أخضعهم أبوه تحتمس الأول، وأقاموا عليه راية العصيان، ثم استولى أيضا على أغلب جزائر البحر الأبيض المتوسط بمساعدة مراكب فينيقية، فتملك أولا على جزيرتي قبرص وكريد، ثم على جزائر بحر الأرخبيل وجزء عظيم من شواطئ بلاد اليونان وآسيا الصغرى، ووطد سلطته أيضا على ساحل بلاد ليبيا، وقد حكم أربعا وخمسين سنة.
أما أشهر ملوك العائلة التاسعة عشرة فهو رمسيس الثاني الملقب سيزوستريس ابن الملك سيتي ثاني ملوك هذه العائلة، ويقال له أيضا رمسيس الأكبر؛ لأنه كان أعظم ملوك مصر قوة وشوكة، وطالت مدة حكمه، وكثرت فيها الآثار المصرية والعمائر الجسيمة حتى لا يكاد يوجد بوادي النيل أثر من الآثار القديمة والعمائر العظيمة إلا وعليه اسمه ورسمه، وقد لقب هذا الملك في أيام والده بولي العهد، وكان مشتغلا بالحروب والغزوات؛ فإن والده أشركه معه في الحكم وهو صغير، وصار يعلمه اقتحام الأهوال ويعوده على مقاساة الأخطار؛ فأرسله لغزو بلاد الشام وكان عمره عشر سنين، فغزاهم بجنود والده، وأدخلهم تحت الطاعة، ثم حارب أيضا بلاد الإثيوبية، فتعود على الشجاعة والرئاسة، وكان يتولى الحكم في حياة أبيه لكبر سنه، حتى مات والده واشتغل بالملك فقام بأعبائه، واستتبت الراحة واستمر الهدوء في بلاده إلى آخر السنة الرابعة من حكمه، وبعد ذلك قامت عليه جميع سكان آسيا الغربية، وكانوا أقواما ذوي قوة وشجاعة، فخرج لملاقاتهم في السنة الخامسة من حكمه بجيش مؤلف من 150 ألف مقاتل، وسار إلى أن عبر أرض كنعان، ووصل إلى وادي الأورنط بقرب مدينة كدش، فقابله اثنان من الأعداء وقالا له: إن الأعداء تقهقروا إلى حلب، فاغتر بكلامهما، وزحف على الأعداء بحرسه الملوكي فقط، وكان باقي جيشه بعيدا عنه، فلما تقدم نحو مدينة كدش فاجأه الأعداء بجيش مؤلف من 80 ألف مقاتل، وهجموا عليه، فانهزم من معه وولوا الأدبار، وبقي هو بين أعدائه وحيدا، فتأهب للقتال بنفسه، وحمل على الأعداء بشجاعته، ولم يزل يقاتلهم حتى أدركته رجاله وفرسانه وحملوا معه، فانكسر الأعداء وطلبوا الصلح فصالحهم، ثم عادوا إلى الحرب ثانيا، واستمرت الوقائع بينهم مدة خمس عشرة سنة، حتى كاد يفنى غالب رجال الفريقين، فانعقد الصلح بين الطرفين في سنة 21 من حكم رمسيس، ثم تمم الملك رمسيس مدة السبعة وستين سنة التي أقامها على كرسي الملك في تشييد العمارات الجسيمة والمباني الفاخرة، وقبل موته أشرك معه في الحكم ابنه الثالث عشر المسمى منفتاح، فخلفه بعد أن مات، وهو الذي في أيامه كان خروج بني إسرائيل من مصر تحت رئاسة موسى عليه السلام.
وأما العائلة العشرون فكان أشهر ملوكها الملك رمسيس الثالث، ثاني ملوكها الذي فتح بلاد البون؛ أي بلاد اليمن، وكانت مصر في عهده في الشوكة التي كانت عليها أيام تحتمس الثالث ورمسيس الثاني. غير أن هذه الحروب التي وقعت في عهد الثلاث عائلات المذكورة ومكثت نحو الثلاثة قرون قد أضعفت مصر؛ فأخذت قوتها في الانحطاط من وقتئذ، ثم ضعفت السلطة الملوكية بها أيضا، فابتدأ الاختلال في الحكومة، فاستولى على التدريج كهنة آمون بطيبة على وظائف الحكومة المهمة، ولم تزل تزداد سلطتهم حتى إن رئيسهم المدعو حرحور اغتصب السلطة الملوكية في أواخر أيام هذه العائلة.
المطلب الثاني
في تجزؤ مصر وإغارة الإثيوبيين والآشوريين عليها
وبعد حرحور أراد ورثاؤه أن يوطدوا سلطتهم على جميع أنحاء المملكة، فعارضهم في ذلك أمراء الوجه البحري، وأسسوا بمدينة تنيس العائلة الحادية والعشرين، واستقل القسس وهم كهنة آمون بالوجه القبلي بمدينة طيبة، فانقسمت مصر حينئذ إلى حكومتين، ووقعت فيها الحروب الداخلية فسقطت شوكتها الخارجية، وامتنع أمراء الشام من دفع الجزية، حيث كان أغلبهم انضم إلى مملكة بني إسرائيل، التي كانت قد بلغت غاية عظمها إذ ذاك في عهد داود وسليمان عليهما السلام، ثم قام رجل من رؤساء الجيوش بالوجه البحري شامي الأصل يدعى شنشق، فتغلب على السلطة الملوكية وأسس العائلة الثانية والعشرين، ثم وطد سلطته على جميع بلاد مصر وطرد القسس من طيبة وألجأهم إلى بلاد الإثيوبية الممتدة في جنوب مصر، فأسسوا فيها مملكة مستقلة تخت ملكها مدينة نباتة على بعد 900 كيلومتر من الشلال الأول.
غير أنه بعد شنشق ابتدأ انحطاط مصر ثانيا في عهد خلفائه، فأخذت في التجزئة ثانيا، وتلقب بالألقاب الفرعونية عشرون أميرا من أمرائها، منهم اثنا عشر بالوجه البحري، وكونوا العائلة الثالثة والعشرين، إلا أن أحدهم المدعو تفنخت أمير صا الحجر بالوجه البحري شرع في التغلب عليهم وتأسيس العائلة الرابعة والعشرين، فقاوموه واستعانوا عليه بملك الإثيوبية بعنخى الذي من ذرية حرحور، فحضر بعنخى إلى مصر واستولى عليها، ولكن بعد موته ولى المصريون بوكنرو أوبوكوريس بن تفنخت ملكا عليهم، ولكنه بعد أن حكم سبع سنوات أغار عليه ملك الإثيوبية شاباك أو سباكون حفيد بغنخى وتملك على مصر وأسس فيها العائلة الخامسة والعشرين. غير أنه في ذلك الوقت كان قد قام بوادي الدجلة والفرات مملكة آشور التي تخت ملكها بمدينة نينوى على شاطئ الدجلة، وكانت هذه الدولة قد بلغت غاية عظمها، ووصلت إلى أعلى شوكتها حتى صارت هي الدولة المتسلطنة في الشرق، فامتدت سلطتها على جميع البلاد الممتدة بآسيا من بحر الخزر إلى خليج العجم، ومن نهر الدجلة إلى البحر الأبيض المتوسط حتى صارت مجاورة تقريبا لمصر، فأراد سباكون أن يتداخل في أمور الشام ضد ملكها سرجون، فانهزم وهرب إلى بلاد الإثيوبية ولما تملك على مصر طهراقه الإثيوبي بعده، وأراد أن يدخل بلاد الشام أيضا، هزمه آشوراخي الدين ملك آشور وأخذ منه مصر التي تملك عليها من بعده ابنه آشور بابنبال.
المطلب الثالث
في تجدد مجد مصر ورونقها القديم
وبعد أن تخلصت مصر من الإثيوبيين والآشوريين بقيت في أيدي أمرائها العشرين الذين منهم اثنا عشر مكونون بالوجه البحري لحكومة تعاهديه تسمى بالمقاسمة الاثني عشرية، وكان من هؤلاء الأمراء ملك صا الحجر الذي من ذرية تفنخت المدعو بسامتيك الأول، فتغلب عليهم وأسس العائلة السادسة والعشرين التي كانت من أشهر عائلات مصر؛ فإن أيامها كانت كثيرة الخيرات والعمران، وفي عهدها كانت مصر زاهية زاهرة، قد قامت من دمارها وأصلحت فيها الطرق والترع والآثار، وعادت إلى الفتوحات، وفتحت أبوابها للتجار الأجانب وخصوصا اليونانيين، وردت إلى الصناعة حركتها الأولى، ورجع للفنون رونقها القديم، بل وامتازت تماثيل ذاك الوقت بدقة صنعتها وحسن بهجتها، وظهر بمصر في ذاك الحين كتابة أوجز وأبسط من الكتابة الهيروغليفية وأسرع منها تعرف بالكتابة الديموطيقية؛ أي العامية؛ لأنها كانت معروفة عند العامة، فانتشرت المؤلفات الأدبية والعلمية بمساعدة هذه الكتابة.
وقد خلف بسامتيك الأول ابنه نخاو الثاني، فشرع في توصيل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط بواسطة أحد أفرع النيل، فلم تتم العملية، وكلف جماعة من الفينيقيين الذين كانوا في ذاك الوقت أشهر الأمم في الملاحة بالسياحة حول أفريقيا، فداروا حولها في مدة ثلاث سنوات مبتدئين من البحر الأحمر راجعين من بوغاز جبل طارق، ثم عزم هذا الملك على الدخول في بلاد الشام والتملك عليها. غير أنه في ذاك الوقت كانت مملكة بابل التي قامت بشواطئ الفرات وخلفت مملكة آشور في حكم آسيا، قد وصلت إلى غاية شوكتها ونهاية رفعتها، وامتدت أيضا من جنوب وادي الدجلة والفرات إلى البحر الأبيض المتوسط، فهزم ملكها بختنصر نخاو الثاني فالتزم نخاو بعقد الصلح معه، ثم خلف نخاو ابنه بسامتيك الثاني، ثم وح أبرع أوابرياس ابن بسامتيك، فأرسل جيوشه لفتح برقة بجهة تونس، فانهزمت عساكره، وأقاموا راية العصيان، وولوا أحد رؤساء الجيوش المدعو أحعمس أو أماسيس ملكا عليهم، فلما رجع تحارب مع الملك وهزمه وتولى هو ملك مصر، فحافظت مصر في عهد على رونقها وبهجتها. غير أنه في ذلك الوقت كان قد قام بآسيا مملكة العجم، وكانت هذه الدولة قد أدخلت في حوزتها جميع الممالك الواقعة في غرب نهر السند كمملكتي مادي وبابل اللتين قامتا على أثر مملكة آشور ومملكة ليديه القائمة بآسيا الصغرى وغيرها، حتى صارت هي الدولة المتسلطنة بآسيا الغربية جميعها، وقد امتدت من نهر السند إلى بحر الأرخبيل والبحر الأبيض المتوسط حتى صارت مجاورة تقريبا لمصر، فعزم أحد ملوكها المدعو كمبيز بن كيروش على فتوح هذه المملكة أيضا، فحضر إليها وقت موت أحعمس وإقامة ابنه بسامتيك الثالث ملكا عليها، فحاربه وأخذها منها، وأسس فيها العائلة السابعة والعشرين، وهي مبدأ الدولة الفارسية بمصر.
المطلب الرابع
في الدولة الفارسية بمصر
قد امتد حكم هذه الدولة على مصر نحو القرنين تقريبا (1147-954ق.ه)، وكان أول ملوكها بها الملك كمبيز الذي أغار عليها في عهد بسامتيك الثالث، فلما شرع هذا الملك في الإغارة عليها عقد معاهدة مع مشايخ قبائل العرب الذين لهم اليد على الطريق الموصلة إلى وادي النيل من صحراء برزخ السويس؛ ليرخصوا له بالمرور منها ويأتوا بالماء لجيشه، فسارت جيوشه في تلك الصحراء، حتى حلت أمام مدينة الطينة أو الفرما، فانتشبت الحرب بينهم وبين جيوش بسامتيك هناك، وقاوم اليونانييون المستأجرون في الجيشين مقاومة عظيمة، ثم انهزمت جيوش المصريين إلى مدينة منف لكثرة جيوش العجم، فأرسل إليهم ملك العجم رسلا ليسلموا المدينة ويذعنوا له بالطاعة، فلم يقبلوا منه وقتلوا الرسل، فغضب ملك العجم، وحضر بجيوشه إلى هذه المدينة وأحاط بقلعتها، وأقام محاصرا لها حتى استولى عليها عنوة، ووقع بسامتيك وجميع أمراء المملكة أسراء في قبضته، فقتلهم أمام بسامتيك، ثم أراد أن يقيمه ملكا على مصر بالتبعية له، لولا أن بلغه أنه عصب عليه عصبة، فقتله أيضا، وسلم حكومة مصر إلى أرياندس الفارسي.
فلما تم له فتوح مصر أظهر في أول الأمر علو الهمة والرأفة بالرعية والشفقة عليها، وسلك مسلك الأمن والراحة فلم يخل براحة البلاد وأمنيتها، بل أبقاها على عبادتها، وميز من بقي من المصريين بعلامات الامتياز، وقرب منه أمناء الديانة المصرية، ليتعلم ما اشتهروا به من العلوم والحكمة، ثم أراد أن يجعل مصر أساسا وطيدا لمشروعه، وهو أن يفتتح جميع بلاد أفريقية، فأرسل لغزو جمهورية قرطاجنة سفنا أعدها ببحرية من الفينيقيين، وكان هؤلاء الفينيقيون هم الذين عمرت قبائلهم مدينة قرطاجنة، فامتنعوا عن محاربة القرطاجيين بسبب القرابة التي بينهم، ووجه فرقة من جيشه تبلغ 50 ألف مقاتل لمحاربة واحة سيوة، فضلوا عن الطريق وتاهوا في الصحراء، فهبت عليهم ريح السموم فأهلكتهم عن آخرهم ولم ينج منهم أحد، وسار بنفسه لمحاربة بلاد الإثيوبية، واتخذ طريقه من الصحراء لكونها أقرب طريق، فانحرف عن شواطئ النيل، وأوغل بعساكره في الصحراء، فنفد زاده ولحق جيشه القحط والجوع حتى أكل بعضهم بعضا بالاقتراع من كل عشرة أنفار واحد ممن تقع عليه القرعة، فخسر خسائر عظيمة، وخاف على نفسه الهلاك فالتزم بالعودة إلى مصر بباقي جيوشه بعد أن فقد منهم كثير، فلما رجع إلى مصر استعمل مع أهلها القسوة بدل الرأفة وصارت أفعاله من يومئذ كلها اختلالات ومفاسد؛ فإنه لما وصل إلى مدينة طيبة أراد تعويض تلك الخسائر الجسيمة ، فسلب أمتعة الهياكل وزينتها وذخائرها . ولما وصل إلى منف صادف دخوله فيها يوم الاحتفال بموسم إقامة العجل المسمى أبيس على التخت المعد لإقامته، فظن أنهم فرحون مستبشرون بهزيمته فقتل الكهان وأمراء الأديان وأرباب الحل والعقد دون أن يسألهم عن الأسباب، وطعن أيضا العجل معبودهم بخنجر فأدماه، ثم دخل معبد منف وسخر بتماثيل تلك العجول، ونهب جميع ما كان في المقابر القديمة، فنبش القبور طمعا فيما يوجد بها من النفائس القديمة، ولم يسلم من أعماله الذميمة قومه ولا أهله؛ فقد قتل كثيرا من أمراء العجم ودفن البعض حيا، وقتل أخاه وأخته التي تزوج بها على خلاف عادتهم، وقتل ابن أحد وزرائه ليبرهن لأبيه على صحوه مهما تعاطى من الشراب وغير ذلك، ثم خرج من مصر يريد الرجوع إلى بلاده، فمات ببلاد الشام قبل الوصول إليها بعد أن حكم سبع سنوات وخمسة أشهر.
ثم اجتهد المصريون مرارا من بعده في الخروج عن طاعة العجم والاستقلال بأنفسهم، حتى تمكنوا من ذلك سنة 1028ق.ه لاختلال مملكة فارس في ذاك الحين، فاستقلوا بحكم أنفسهم نحو الستين سنة (1028-962ق.ه)، فقام بمصر في تلك المدة ثلاث عائلات مصرية؛ وهي الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون والثلاثون، واجتهد المصريون في تحصين حدودهم تحصينا عظيما خوفا من العجم. غير أن ذلك لم يجد نفعا؛ حيث لم يمكنهم مقاومة العجم عندما أغاروا عليها في المرة الثانية، بل إن آخر ملوكهم المدعو نقطنبو الثاني بعد أن قاوم العجم مقاومة شديدة جمع أمواله وهرب إلى بلاد النوبة، فدخلت مصر حينئذ تحت حكم العجم ثانيا، فأسسوا فيها العائلة الحادية والثلاثين، ومنهم انتقلت إلى اليونانيين بظهور الإسكندرية الأكبر حيث أغار عليها سنة 954ق.ه، وأخذها من يد دارا الثالث آخر ملوك العجم.
الباب الثاني
في ذكر مصر تحت حكم اليونان، وفيه فصلان
لما أفرغت دولة العجم في دولة الإسكندر الأكبر بإغارته عليها صارت مصر كباقي دول الشرق القديمة التي كانت تحكم حكم العجم جزءا من دولته، ثم مكثت تحت حكم اليونانيين مدة 302 سنة (954-652ق .ه)، فأسسوا فيها عائلتين: الثانية والثلاثين، وهي الدولة المقدونية ؛ أي مدة تبعيتها لدولة الإسكندر الأكبر، والثالثة والثلاثين، وهي الدولة البطليموسية؛ أي مدة استقلالها تحت حكم عائلة بطليموس أحد قواده.
الفصل الأول
في الإسكندر الأكبر وفتوح اليونانيين لمصر
قد كان الإسكندر الأكبر ملك مقدونية إحدى أقسام بلاد اليونان الشمالية رجلا عالي الهمة شديد الذكاء حميد الخصال جميل الصورة، وقد أكفل أبوه بتربيته الفيلسوف الشهير أرسطاطاليس فأحسن تربيته، واستخلفه على الملك وعمره سبع عشرة سنة مدة تغيبه في حرب طراسة، فقام بأعباء الملك، وكانت تلوح عليه من صغره سمة الفطنة والشجاعة، فلما مات والده، فيلبش ملك مقدونية استولى على المملكة وعمره عشرون سنة، فلم يلبث أن خرج عليه بعض الأمم التي أخضعها أبوه ببلاد اليونان وشواطئ الدانوب؛ أي الطونة، فأرجعهم إلى الطاعة بعد أن هزمهم شر هزيمة، حتى ارتجفت منه بقية المدن اليونانية، وأذعنت له بالطاعة بكل خضوع، ثم عزم على محاربة العجم فعبر بوغاز الدردانيل المسمى قديما هلسبونت بجيش مؤلف من 35000 مقاتل، وتلاقى بجيوش العجم عند نهر جرانيقة، فهزمها واستولى على جميع آسيا الصغرى بدون أدنى مقاومة، أما ملك العجم دارا الثالث فجهز جيشا مؤلفا من 500000 مقاتل، وحضر لملاقاته فقابله عند مدينة أسوس، وحصلت بينهما واقعة عظيمة انهزم فيها دارا وهرب في داخل بلاده، وترك أمه وأخته وامرأته وأولاده في المعركة فوقعن أسرى في يد الإسكندر، فعاملهن أحسن المعاملة، ثم اتجه إلى بلاد الشام كي يتملك على جميع الشواطئ البحرية، ودخل بلاد فينيقية ففتحت له جميع مدنها أبوابها إلا مدينة تير وهي صور؛ فإنه لم يتمكن من فتحها إلا بعد حصارها سبعة أشهر، ثم تملك على غزة أيضا، ودخل مصر من طريق بيلوز وهي الفرما، فخضعت له بكل سهولة لبغضها لحكم العجم، ولما وصل إلى مدينة منف أخذ يتفرج في داخل البلاد، وعامل أهلها بالحلم والعدل، ورتب إدارتها ونظم سياستها، ولم يغير شيئا من عوائد أهلها القديمة، ثم نزل النيل حتى وصل إلى قرية راقودة الواقعة بالبرزخ المحصور بين بحيرة مريوط والبحر الأبيض المتوسط، فاستحسن جدا موقع هذا البرزخ، واختاره موضعا لمدينة الإسكندرية، فخطط بنفسه أساساتها سنة 954ق.ه، وأناط المعمار المسمى دينوقراطس بإجراء العمل، ودخلت راقودة في سورها، وبقي اسم راقودة لخطة بالإسكندرية بنيت على آثارها، ثم توجه الإسكندر من هناك إلى معبد آمون في واحة سيوة واستجوب الكهانة، ولم يظهر نفسه، فعرفه الكهان وأعلنوا بأنهم يعهدون أنه ابن المشتري، وقد خضعت له مستعمرة كيرينة اليونانية أيضا، وهي طرابلس الغرب الآن حينما توجه إلى واحة سيوة.
وأما دارا فقد جمع بوادي الدجلة والفرات جيشا ضعف جيشه الأول الذي انهزم في واقعة أسوس، فخرج الإسكندر من مصر، ورجع على عقبه إلى بلاد الشام، ثم عبر نهري الفرات والدجلة، وتلاقى معه في سهل إربل، فهزمه أيضا، وهرب دارا إلى مدينة أكبتان، وهي همذان، فلم يقتف الإسكندر أثره، بل اتجه جنوبا، وتملك على بابل وسوس وبرسيبوليس وباسارجاد من عواصم مملكة العجم، ثم اتجه شمالا حينئذ ليقتفي أثره، فوصل إلى مدينة أكبتان. غير أن دارا كان قد خرج منها والتجأ إلى ولاية بكتريان من ولايات مملكته، وهي قسم بخارة الآن، فقتله واليها بسوس، فلم يلبث الإسكندر أن حضر إلى مدينة بكتر، وهي بلخ، تخت هذه الولاية، وقبض على بسوس بعد أن اقتفى أثره خلف نهر أكسوس، وهو نهر جيحون، وسلمه إلى أخي دارا فأماته في العذاب الأليم.
ثم قصد الإسكندر نهر السند، فعبر هذا النهر، وأراد أن يتوغل في بلاد الهند فلم تطاوعه عساكره فنزل فيه إلى مصبه، ورجع إلى مدينة بابل من طريق صحراء جدروزية، وهي بلوجستان، فأراد أن يجعلها عاصمة دولته، وينظم أمور المملكة فأدركته فيها الوفاة سنة 945ق.ه، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، فمات أثناء فتوحاته قبل أن يتمم جميع مشروعاته العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وترك له من الصيت والشهرة ما ملأ أقطار العالم، وكانت دولته إذ ذاك ممتدة من البحر الأدرياتيقي والبحر الداخل؛ أي البحر الأبيض المتوسط غربا، إلى جبال إيجود؛ أي جبال هماليا ونهير هيفاز ونهر السند غربا، ومن نهر الدانوب وهو الطونة وبحر بونت لوكسن؛ أي البحر الأسود وجبال القوقاز وبحر الخزر ونهر ياكسارت؛ أي نهر سيحون شمالا إلى بحر أريطرة؛ أي بحر عمان وخليج العجم وصحراء بلاد العرب وشلال أصوان جنوبا، فاقتسمها قواد جيوشه، فكانت مصر من نصيب أحدهم المدعو بطليموس، فأسس فيها عائلة ملوكية جديدة، وهي دولة البطالسة.
الفصل الثاني
في الدولة البطليموسية
قد حكمت هذه الدولة على مصر نحو الثلاثة قرون (945-652ق.ه)، وبلغت مصر في عهدها في الشوكة والمجد والثروة درجة عظمى، لم ترها من مدة مديدة؛ فقد صارت مدينة الإسكندرية؛ عاصمة المملكة الجديدة، منبعا للعلوم والمعارف، وكان جميع ملوك هذه العائلة يطلق عليهم اسم بطليموس مع أن كلا منهم كان له لقب خاص به، وهم نحو الأربعة عشر، استقلوا بحكم مصر، واستعملوا مع المصريين اللين والرفق، وأصلحوا البلاد واحترموا نظاماتها، مع اجتهادهم في إدخال التمدن اليوناني فيها، وكان أشهرهم بطليموس الأول الملقب لاغوس أوسوطير؛ أي المخلص، وهو المؤسس لهذه الدولة، فلما قبض على أزمة الحكومة في مصر وجه مزيد همته إلى استمالة قلوب الأهالي إليه؛ فاستعمل الرأفة والحلم في أحكامه، وأحسن التدبير والسياسة، وضم إلى مصر كيرينة والشام وقبرص وفينيقية، وشيد بمدينة الإسكندرية معابد كثيرة، وبنى بها منارة في جزيرة فاروس لتسهيل الملاحة بجوار ميناها، ومن أشهر أعماله مدرسة الإسكندرية المسماة بالرواق التي جلب إليها العلماء من اليونان وغيرها من البلدان الرائجة فيها أسواق العلوم والمعارف، وكان هذا الملك محبا لمجالسة العلماء ومحادثتهم، وقد جمع لهم كتبخانة عظيمة، فهرع إلى مصر مشاهير الرجال من أهل الشرق والغرب حتى صارت مدينة الإسكندرية مركز العلوم والمعارف.
وبطليموس الثاني الملقب فيلادلفوس؛ أي محب أخيه، وهو ابن بطليموس الأول، قد تنازل له أبوه عن الملك في حياته، فلما خلف أباه على سرير الملك اجتهد مثله في نشر العلوم والمعارف، وترجم إلى اللغة اليونانية كتب اليهود المقدمة (المعروفة بالترجمة السبعينية)، وزاد في الكتبخانة التي أنشأها أبوه، وأوسع علمي الفلك والملاحة، وأمر باستكشاف بلاد النوبة والنيل الأعلى، وكان من أعظم ملوك هذه العائلة، وعصره من أعظم الأعصر في تاريخ الفلسفة.
ثم بطليموس الثالث الملقب ويرجيطة؛ أي المحسن أو الرحوم، وهو ابن بطليموس الثاني، خلف أباه بعد موته على سرير الملك، وكانت مدته من أعظم المدد رفعة لمصر حيث امتدت فتوحاته إلى أواسط آسيا وبلاد النوبة؛ فقد أغار على بلاد الشام وعبر نهر الفرات ووصل لغاية بكتريان ببلاد العجم، فأرجع إلى مصر تماثيل الآلهة المصرية التي كان سلبها كمبيز من مصر، وضم إلى مصر الجزء الشمالي من بلاد الإثيوبية لغاية مدينة إبريم.
أما من بعده فقد ابتدأ انحطاط هذه الدولة؛ فإن الملوك الذين خلفوه كانوا قد تولوا جميعا في حداثة سنهم، فتركوا أمور المملكة في يد أوصيائهم عليها يديرونها حسب أغراضهم، ولم يلتفتوا إلا إلى اللذات والشهوات، فابتدأ حينئذ اختلال المملكة، وسقطت شوكتها الخارجية فطمع فيها جيرانها، ووقعت الحروب بين ملوكها وملوك الشام على الدوام، فالتزموا بأن يوسطوا دولة الرومانيين في الخلاف بينهم وبين هؤلاء الملوك، حيث كانت هي الدولة ذات السطوة في ذاك الوقت التي لها الكلمة النافذة على جميع ممالك البحر الأبيض المتوسط، فابتدأ تداخل الرومانيين حينئذ في أمور المملكة، ثم لما وقعت فيها الفتن والثورات لازدياد اختلالها وانهماك ملوكها على ملاذهم الشهوانية التزم هؤلاء الملوك بأن يخضعوا للسلطة الرومانية، ويحكموا برعاية مجلس رومة لهم لخوفهم من أهالي الإسكندرية، فارتبطت أمور مصر حينئذ بالدولة الرومانية حتى آل الأمر أخيرا إلى أن تملكت عليها هذه الدولة بعد موت قليوبطرة آخر ملوك هذه العائلة، فصارت مصر إيالة رومانية تحكم بعمال من الرومانيين.
الباب الثالث
في ذكر مصر تحت حكم الرومان، وفيه فصلان
إن الدولة التي أفرغت فيها دولة الإسكندر تقريبا هي الدولة الرومانية؛ فقد ورثت هذه الدولة ذاك الفاتح المقدوني في ممالكه الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وامتدت فتوحاتها على جميع البلاد الواقعة على هذا البحر، وإليها انتهى تمدن الأمم القديمة، وبها انتقل من المشرق إلى المغرب، وقد حكمت على مصر 411 سنة (652-241ق.ه)، وهذه المدة هي التي كانت فيها مصر تابعة لرومة؛ أي لدولة الرومانيين قبل انقسامها ، فلما انقسمت هذه الدولة إلى دولة رومانية شرقية وإلى دولة رومانية غربية صارت مصر أيضا تابعة للدولة الرومانية الشرقية نحو 259 سنة (241ق.ه-18ب.ه)، وهذه المدة تسمى بمدة النصرانية؛ لأن المصريين كانوا فيها قد اعتنقوا الديانة المسيحية، وأما في سائر المدد السابقة فكانت ديانة مصر الوثنية؛ ولذا مجموعها يعبر عنه بمدة الوثنية.
الفصل الأول
في فتوح الرومانيين لمصر وحكمهم بها
لا زال نفوذ الرومانيين يزداد بمصر، ولا زالت ملوك مصر تتقرب من هذه الأمة لكثرة عصيان المصريين عليهم، حتى كانت أيام بطليموس الحادي عشر الملقب أوليطيس، أي الزامر، فأوصى قبل موته بملك مصر لأكبر أولاده وكبرى بناته بشرط عقد الزواج بينهما وأن يكون الوصي عليهما الأمة الرومانية، فلما مات خلفته قليوبطرة، وحكمت بالاشتراك مع أخيها بطليموس الثاني عشر الملقب بطليموس دنيس، أي الخمار، حسب وصية أبيهما، وكانت إذ ذاك الدولة الرومانية بين يدي أميرين من أمرائها مشتركين في حكومتها؛ وهما يوليوس قيصر وبمبيوس، وكانت قد ظهرت بينهما العداوة وحصل بينهما الفشل بعد موت شريكهما الثالث أقراسوس، فوقعت بينهما الحروب، وهرب بمبيوس من رومة إلى بلاد اليونان، فتبعه فيها يوليوس قيصر وهزمه، فهرب بمبيوس إلى مصر ملتجئا إلى بطليموس دنيس ظنا منه أنه يجيره؛ حيث كان هو الذي أجلسه على كرسي المملكة، وكان بطليموس المذكور منفردا بملك مصر إذا ذاك؛ فإن أهالي الإسكندرية كانوا قد ثاروا على أخته قليوبطرة، فهربت منهم إلى بلاد الشام، فلما قدم بمبيوس مصر أرى لبطليموس وزراؤه أن لا يوقع نفسه في ورطة الاشتراك معه، فأرسل له بطليموس جماعة لاستقباله وأمرهم بقتله، فقتلوه عند حضوره إلى شاطئ مصر.
ولما حضر يوليوس قيصر إلى الإسكندرية مقتفيا أثر خصمه قدم له وزراء بطليموس رأس بمبيوس، فغضب يوليوس من هذا الفعل الشنيع ولم يستحسنه، فلما رأى منه ذلك وزراء بطليموس تجاسروا بمحاصرته في السراي الملوكية بالإسكندرية لقلة عساكره، فبقي محصورا بها حتى أتته الإمدادات، ثم هزم المصريين وغرق بطليموس في النيل، فأرجع قليوبطرة إلى الملك حيث كان أحضرها معه من الشام ليصلح بينها وبين أخيها، وأشرك معها في الحكم أخاها الثاني بطليموس الثالث عشر الملقب بطليموس الشاب، حسب وصية بطليموس الزامر، إلا أنها قتلته مسموما بعد سفر قيصر من الإسكندرية، وانفردت بملك مصر.
وأما يوليوس قيصر فقد رجع إلى رومة بعد أن قهر أحزاب خصمه وعليه من العظمة والكبرياء ما خوف منه أعضاء المجلس الروماني، وصارت في يده أزمة الحكومة الرومانية، فرام قلب الجمهورية واستعاضتها بالملوكية ليكون ملكا، وكان الرومانيون يكرهون ذلك، فتآمر عليه أعضاء مجلس رومة وقتلوه، فوقعت الحكومة الرومانية بعده في أيدي ثلاثة أمراء أخر بالاشتراك بينهم؛ وهم أقطاوس ابن بنت أخته، الذي كان قد تبناه لعدم خلفه، وأنطنيوس وليبيدس من قواد جيوشه، فاقتسموا ممالك الدولة الرومانية، وكانت مصر من قسم أنطنيوس. غير أن أقطاوس لم يلبث أن جرد ليبيدس من ولايته، ثم التفت إلى أنطنيوس، فتظلم منه لمجلس رومة بأنه أطال المكث مع قليوبطرة وترك مصالح رومة، وتحصل من المجلس على إعلان الحرب لملكة مصر، فانتشبت الحرب بحرا بين أقطاوس وبين قليوبطرة وأنطنيوس على شواطئ بلاد اليونان، فهربت قليوبطرة بما معها من المراكب المصرية إلى الإسكندرية، فتبعها أنطنيوس، ولما وصلا إلى الإسكندرية شرعا في الاستعدادات الحربية. غير أن قليوبطرة رأت من مصلحتها أن تنضم إلى الأقوى، فأرسلت إلى أقطاوس تتحبب إليه، وسلمت إليه مدينة الفرما التي هي مفتاح الديار المصرية أملا في أن تفتنه كما فتنت من قبله قيصر ثم أنطنيوس، فلما خاب ظنها في ذلك وأيست منه بالكلية قتلت نفسها سنة 652ق.ه، حتى لا تقع أسيرة في يد عدوها، وكان أنطنيوس قد قتل نفسه قبلها حتى لا يعيش بعدها، فدخلت مصر حينئذ في حوزة الرومانيين، وصارت إيالة رومانية، فصاروا يرسلون إليها عمالا من قبلهم يعينهم مجلس رومة، وكان العامل منهم بيده جميع السلطة الإدارية والعسكرية وتابعا مباشرة لمجلس رومة؛ أي ليس فوقه في الدرجة إلا مجلس رومة أو قيصر الرومانيين، وليس تابعا لحكمدار عموم المشرق.
وقد أتى على مصر في تلك المدة بعض أيام سعيدة، إلا أنها كانت في غالب أوقاتها لم تتمتع براحة ما، ولم يستمر فيها إلا الاختلال وعدم النظام، فكانت دائما مخضبة بدماء أهلها بسبب ما يقع فيها من المجادلات الدينية والاضطهادات ضد النصارى، حتى إنه لكثرة ما وقع بمصر من المآثم والمظالم في أيام دقلطيانوس أرخ المصريون بحكمه على الرومانيين، وهو التاريخ الذي يسمونه تاريخ الشهداء، وتؤرخ به القبط إلى الآن، وهو يبتدئ من 13 يونيو سنة 284ب.م، ويوافق سنة 339ق.ه وتسعة وثلاثين يوما.
وما زال النواب الرومانيون على مصر متصرفين تصرف القيصر؛ أي إن الواحد منهم كان فاعلا مختارا مرخصا في الملكية والعسكرية إلى أيام قسطنطين الذي نقل تخت مملكة الرومانيين إلى القسطنطينية، فغير حالة مصر الإدارية بأن فصل الإدارة الملكية عن الإدارة العسكرية، فعهد برئاسة الجيوش إلى قائد عسكري يعينه القيصر، وقصر المتصرف السياسي على إدارة الأقاليم والاشتغال بأعمال الري، ونقل الغلال إلى القسطنطينية، غير أنه لم تزل البلاد مضطربة لما يقع فيها من الفتن الدينية إلى سنة 241ق.ه؛ ففي تلك السنة أصدر القيصر طيودوسيس الذي كان حاكما بالقسطنطينية أمرا بمحو الديانة المصرية القديمة والتمسك بالديانة النصرانية، وأمر بهدم الهياكل المصرية والمعابد الأهلية، وكلف الأسقف تيوفيل بطريرق الإسكندرية بتنفيذه، فحمله التعصب على أن يفعل من العنف والجبروت ما لم يسمع بعمله في وقت آخر لمحو آثار ديانة صابئة؛ فقد أعدم ما صنع من الفنون المصرية، وكسر الأصنام وأبواب المعابد، وشتت كتب الكتبخانة التي كانت من أنفس الكنوز العلمية القديمة حتى سبب ذلك دمار ما كان يمكن أن يبقى إلى الآن من العلوم المصرية، فانتهت حينئذ المدة الوثنية وابتدأت مدة النصرانية، وهي مدة حكم مصر بالدولة الرومانية الشرقية؛ أي الدولة السفلى.
الفصل الثاني
في ذكر مصر مدة حكم الدولة السفلى، وهي مدة النصرانية
قد انقسمت دولة الرومانيين بعد موت طيودوسيس إلى دولة رومانية غربية بمدينة رومة تحت حكم ابنه هونوريوس، وإلى دولة رومانية شرقية بمدينة القسطنطينية تحت حكم ابنه أرقاديوس، وصارت مصر تابعة للدولة الرومانية الشرقية المسماة أيضا بالدولة السفلى، ولم تزل تحت حكمها إلى أن فتحها المسلمون سنة 18 هجرية في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فانتهت حينئذ مدة النصرانية وابتدأ مدة الإسلام.
الجزء الثاني
في تاريخ مصر بعد الإسلام
المقدمة
قد صارت مصر أولا بعد أن فتحها المسلمون جزءا من الدولة العربية؛ دولة الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين؛ أعني ولاية يرسلون إليها عمالا من طرفهم، ثم استقلت تحت حكم ثلاث عائلات مستقلة؛ وهي الدولة الفاطمية والدولة الأيوبية ودولة المماليك، ثم دخلت في حوزة الترك حين تغلب عليها السلطان سليم، فصارت إيالة عثمانية، ولم تزل كذلك إلى الآن، وإن كانت مستقلة استقلالا إداريا من عهد الهمام الأكبر محمد علي باشا، وقبل أن نشرع في التكلم على هذه الدول نذكر أولا كيف نشأت الدولة العربية بظهور النبي
صلى الله عليه وسلم
فنقول:
إن أمة العرب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عاربة ومتعربة ومستعربة؛ فالعرب العاربة، ويقال لهم: البائدة، هم العرب الأول الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لتقادم عهدهم، وهم قوم عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم الأولى. والعرب المتعربة هم بنو قحطان ولد سام بن نوح عليهما السلام، وكانوا يسكنون أولا جنوب بلاد العرب بجهة اليمن وعمان، ثم انتشرت قبائلهم في جميع أنحاء الجزيرة سيما بعد سيل العرم؛ فقد كان منهم قبيلة جرهم الثانية الذين نزلوا بمكة من عهد إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام واتحدوا به، فربي في أحيائهم وتزوج منهم، وكانت لهم سدانة البيت مدة من الزمن بعد بنيه وقبيلة خزاعة الذين نزلوا بمكة أيضا بعد سيل العرم، وأخذوا سدانة البيت من جرهم وأقاموا فيها نحوا من ثلاثمائة سنة حتى رجعت لبني إسماعيل، حيث أخذها قصي القرشي من أبي غبشان الخزاعي سنة 507م، ثم قبيلتا الأوس والخزرج اللتان سكنتا يثرب ودعيتا بالأنصار في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
وغيرهم، وقد كان هؤلاء العرب من بني قحطان يغلب عليهم الميل إلى الحضارة فسكنوا المدن وأسسوا الممالك، فكان منهم التبابعة ملوك اليمن، والمناذرة ملوك الحيرة والأنبار، والغساسنة ملوك الشام، وقد خضعوا بعضا من الزمن للسلطة الأجنبية؛ فقد كان الغساسنة عمالا للرومانيين، والمناذرة كذلك عمالا للعجم الذين تسلطوا أيضا على اليمن مدة من الزمن بعد طردهم الحبشة منها. وأما العرب المستعربة فهم بنو إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وكانوا يسكنون نجد والحجاز؛ أي أواسط جزيرة العرب، وكان أكثر ميلهم إلى البداوة، فعاشوا قبائل متفرقة في تلك النواحي، ولم يخضعوا قط لسلطة أجنبية، وكانت أشهر قبائلهم قبيلة قريش، فقد بلغت في القرن السادس من الميلاد مبلغا عظيما من الشرف وعلو الكلمة حيث آلت إليهم سدانة البيت الحرام بعد خزاعة حتى صار لهم نوع من السلطة والمشورة على جميع قبائل العرب، وفيهم نشأ النبي
صلى الله عليه وسلم
من بني هاشم؛ فقد ولد عليه الصلاة والسلام بمكة سنة 570 ميلادية، وكانت ولادته يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول، وقد مات أبوه عبد الله بن عبد المطلب بيثرب، وله من العمر شهران، وقيل قبل ولادته بشهرين، فحضنته أمه آمنة بنت وهب سيد بني زهرة، حتى بلغ من العمر ست سنوات، ثم كفله بعد أن ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة جده عبد المطلب بن هاشم سيد بني هاشم وأمير قريش حتى بلغ من العمر ثمان سنوات، فتوفي جده عبد المطلب وقام بكفالته عمه أبو طالب شقيق أبيه، فخرج به في تجارة له إلى الشام وعمره ثلاث عشرة سنة، فلما نزلوا بصرى خرج إليهم راهب اسمه بحيرا من صومعته وأخذ النبي
صلى الله عليه وسلم
من يده وقال لعمه: «سيكون لهذا الصبي شأن عظيم؛ ينتشر ذكره في مشارق الأرض ومغاربها.»
ولما كمل له من العمر خمس وعشرون سنة صار اسمه في قومه الأمين؛ لما جمع فيه من الأمور الصالحة، فعرضت عليه خديجة بنت خويلد وكانت ذات شرف ويسار أن يخرج بمالها تاجرا إلى الشام، فأجابها إلى ذلك وخرج، ثم رغبت فيه وعرضت نفسها عليه فتزوجها وعمرها يومئذ أربعون سنة، وأقامت معه إلى أن توفيت بمكة اثنتين وعشرين سنة، ولم يتزوج عليها في حياتها، وأولاده منها القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وقد ماتوا صغارا، وفاطمة زوج علي بن أبي طالب، وزينب زوج أبي العاص، ورقية وأم كلثوم تزوج بهما عثمان بن عفان واحدة بعد الأخرى، وأما إبراهيم فمن مارية القبطية وقد مات صغيرا أيضا، ولما كمل له أربعون سنة أرسله الله تعالى للناس كافة بشيرا ونذيرا، وأيده بجميع المعجزات التي أيد بها المرسلين قبله، وخصه بالقرآن الكريم الذي هو أعظم المعجزات، المحفوظ من كل طارئ ما دامت الأرضون والسموات، فأظهر الدعوة، فكان أول من آمن به خديجة زوجته وعلي ابن عمه وزيد مولاه وأبو بكر صديقه، ثم دعا أبو بكر بعضا من أشراف قريش منهم عثمان بن عفان إلى الإسلام فأسلموا، وجاء بهم إلى النبي فآمنوا به، ثم صار يزداد عدد المؤمنين يوما فيوما؛ فأسلم عمه حمزة، وأسلم عمر بن الخطاب وكان من أشد المعارضين له
صلى الله عليه وسلم ، فازداد غيظ قريش وصارت كل قبيلة تعذب من آمن منها، فأذن النبي
صلى الله عليه وسلم
لمن ليس له عشيرة تحميه في الهجرة إلى الحبشة، وأما هو عليه الصلاة والسلام، فقد منع عنه عمه أبو طالب إيذاء قريش، فلما مات أبو طالب عمه (619م)، وماتت خديجة زوجته (620م)، أصابته قريش بعظيم من أذى، فعزم على أن يترك مكة للقرشيين، فذهب أولا إلى الطائف، ثم عاد إلى مكة ومنها هاجر إلى المدينة وهي يثرب بعد أن بايع أهلها بيعتي العقبة على منعه من أعدائه، فأمر المؤمنين بالمهاجرة إليها، وخرج هو مع أبي بكر فأقاما ثلاثة أيام بغار في جبل ثور على بعد ثلاثة أميال من مكة جنوبا، ثم وصلا إلى المدينة بعد ستة أيام، ولحقهما بها علي بن أبي طالب؛ ولذا دعي أهل المدينة بالأنصار وأهل مكة بالمهاجرين، وكانت الهجرة في 8 ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة من بعثته
صلى الله عليه وسلم (16 يوليو سنة 622م).
وفي السنة الثانية منها كانت غزوة بدر، وفي الثالثة حصلت وقعة أحد، وفي الثامنة أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وفتحت مكة، فأمر النبي
صلى الله عليه وسلم
المسلمين أن لا يقتلوا فيها إلا من قاتلهم، وأمن من دخل المسجد ومن أغلق على نفسه بابه وكف يده ومن تعلق بأستار الكعبة سوى قوم يؤذونه، وأسلم أبو سفيان، وهو عظيم مكة، من تحت السيف، وفي السنة العاشرة حج عليه الصلاة والسلام حجة الوداع، ثم وعك ومرض، وتوفي يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة 11 من الهجرة بعد أن نصح الأنام، وبلغ الرسالة إلى جميع العالم، وكاتب بها الملوك
صلى الله عليه وسلم
وكان عمره ثلاثا وستين سنة.
وقد توفي عن تسع من الزوجات غير مارية سريته، أشهرهن عائشة بنت أبي بكر، وجملة زوجاته خمس عشرة، جمع بين إحدى عشرة منهن، ولما توفي أراد أهل مكة من المهاجرين رده إليها لأنها مسقط رأسه، وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته ومدار نصرته، ثم دفنوه بالمدينة في حجرته حيث قبض، ثم اجتمع المهاجرون والأنصار للمبايعة بالخلافة فبايعوا أبا بكر الصديق، وكان أول من بايعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الباب الأول
في الدولة العربية ومصر مدة حكمها، وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
وفيه مطلبان:
المطلب الأول في ذكر الخلفاء الراشدين
الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين أربعة: أبو بكر الصديق (11-13ه) وعمر بن الخطاب (13-23ه) وعثمان بن عفان (23-35ه) وعلي بن أبي طالب (35-41ه) بويع لهم بالخلافة الواحد بعد الآخر من بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
فقاموا بالأمر من بعده على التعاقب مدة ثلاثين سنة نشروا في أثنائها الديانة المحمدية نشرا عظيما، وأوسعوا الدولة الإسلامية اتساعا غريبا؛ فقد كانت مدتهم أعظم المدد الإسلامية في تعظيم الدين ونشره بالفتوحات خصوصا خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه هو الذي فتح معظم فتوحات تلك المدة؛ فإن أبا بكر لقصر مدته وخروج معظم قبائل العرب في مبدأ الأمر عن طاعته لم يتمكن إلا من فتوح بلاد العراق وجزء صغير من بلاد الشام، فإنه بعد أن رد القبائل المرتدة إلى الطاعة وأوجد وحدة بلاد العرب على يد خالد بن الوليد وغيره من الأمراء أمر هذا القائد بالمسير إلى بلاد العراق فافتتحها، وتملك على الحيرة والأنبار، ثم سيره أبو بكر رضي الله عنه من هناك إلى بلاد الشام لمساعدة أبي عبيدة بن الجراح الذي كان أرسله لفتوح تلك البلاد، فافتتحا بعض بلادها، فلما تولى الخلافة عمر بن الخطاب أتم فتوحها على أيدي هذين القائدين وذهب بنفسه للمعاهدة مع بطريرق بيت المقدس، ثم افتتح أرض الجزيرة، فصارت حينئذ جميع قبائل العرب بدون استثناء أمة واحدة خاضعة لأمير واحد، ثم دخلت جيوشه بلاد أرمينية، ووصلت إلى بلاد القوقاز، وقد سير عمرو بن العاص لفتوح مصر ففتحها، وضم إليها برقة وبلاد النوبة، وأرسل سعد بن أبي وقاص لفتوح بلاد العجم، فوصل العرب إذ ذاك إلى حدود بلاد الهند، ودخل في حوزتهم خراسان وخوارزم، ثم زاد عثمان بن عفان رضي الله عنه على ذلك أفريقية التي افتتحها عبد الله بن أبي سرح عامله على مصر، وجزائر قبرص وكريد وكوس ورودس بالبحر الأبيض المتوسط التي افتتحها معاوية عامله على الشام، فصارت مملكة العرب ممتدة حينئذ من حدود بلاد الهند شرقا إلى البحر الأبيض المتوسط وبلاد أفريقية غربا، ومن شواطئ نهر جيحون وبحر الخزر شمالا إلى الأقيانوس الهندي وبلاد النوبة جنوبا.
هذا ومع عظم هذه الدولة وما كان عليه هؤلاء الخلفاء من السلطة والشوكة، فإنهم لم يخرجوا عن حالة الزهد والقناعة التي كانوا عليها أيام النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فلم يلتفتوا إلى زينة أو فخار أو ثروة، بل استمروا على عيش الكفاف والأخذ بناصر الضعيف والنظر إلى الفقراء والمساكين؛ فإن عمر رضي الله عنه لما سافر من المدينة إلى فلسطين للتملك على بيت المقدس لم يصحب معه سوى غلام له، وكان راكبا على ناقة يتناوبها مع غلامه حاملا على مقدم رحلها حقيبتين مملوءة إحداهما دقيقا والأخرى تمرا، ومعلقا عليه مزادة ماء، وكان يتصدق من ذلك على من صادفه في طريقه. وقد كان هؤلاء الخلفاء رضي الله عنهم يقضون في الأحكام بغاية الحكمة والعدالة ؛ فإنهم كانوا يسوون بين الغنى والفقير، والرفيع والحقير؛ يؤيد ذلك ما وقع في أيام عمر رضي الله عنه؛ حيث قال لجبلة بن الأيهم ملك الغسانيين حين اشتكاه إليه رجل: إما أن ترضيه بالمال أو يلطمك كما لطمته. فقال له جبلة: ألا يفضل عندكم ملك على سوقة؟ قال: كلا، بل كلاهما في الحق سواء. وقد بويع لهم جميعا بالمدينة فاتخذوها مركزا لحكومتهم، إلا عليا رضي الله عنه؛ فإنه انتقل منها إلى الكوفة ببلاد العراق ليتمكن من إقماع الذين خرجوا عن طاعته، ولم يزل بها حتى قتل، فبويع لابنه الحسن بها، فلم يلبث أن تنازل عن الخلافة لمعاوية أمير الشام، فانتقلت الخلافة حينئذ إلى بني أمية.
المطلب الثاني
في ذكر عمرو بن العاص وفتوح العرب لمصر
قد كان فتوح العرب لمصر في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب؛ فإنه بعد أن عاد إلى المدينة من فتوح بيت المقدس رد معه من جيش الشام عمرو بن العاص ليسيره إلى مصر، وكان عمرو بن العاص هو الذي يحرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على فتوحها، وكانت مصر إذ ذاك تابعة لمملكة الرومانيين الشرقية التي كان تخت ملكها بمدينة القسطنطينية، وكان عليها عاملان من قبل هرقل قيصر الرومانيين؛ أحدهما وهو الحاكم على الأقاليم البحرية كان من القسطنطينية ومقيما بسكندرية، والآخر وهو الحاكم على أقاليم مصر الوسطى كان يدعى المقوقس ومقيما بمدينة منف، وكان يوناني الأصل مصري المولد.
فلما أمر عمر بن الخطاب عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر جهز له جيشا مؤلفا من أربعة آلاف رجل، فسار عمرو بهذا الجيش قاصدا أرض مصر سنة 18ه، فلما بلغ رفح، وهي قرية تبعد عن العريش بعشر ساعات، وصله كتاب من أمير المؤمنين يأمره فيه بالانصراف عن مصر إن لم يكن قد دخلها، فلم يفتحه عمرو بن العاص حتى وصل إلى العريش، ففتحه وتلاه على الجمهور بعد صلاة الفجر، ثم سار حتى وصل إلى مدينة الفرما، فحاصرها شهرا وتملك عليها، ثم تقدم إلى بلبيس وتملك عليها بعد أن حاصرها نحو شهر أيضا، وأسر بها أرمانوسة بنت المقوقس، وسيرها إلى أبيها مكرمة في جميع مالها، ثم سار قاصدا مدينة منف فوصل إلى حصن بابل، وهو حصن على الشاطئ الأيمن للنيل، بينه وبين الجبل المقطم في الشمال الشرقي لمنف، متصل بجزيرة الروضة بواسطة جسر من الخشب، كما أن هذه الجزيرة متصلة بالشاطئ الغربي بواسطة جسر آخر، وكان المقوقس قد تحصن فيه بعساكر المصريين لمقاومة العرب، فنزل عمرو برجاله فيما بين الحصن والجبل المقطم، وأخذ في المهاجمة عليه مدة فأبطأ عليه فتحه، فكتب إلى الخليفة يستمده فأمده بأربعة آلاف عليهم أربعة من القواد؛ وهم الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد أو خارجة بن حذافة، على القولين، وشدد الحصار على الحصن، فلما رأى المقوقس إقدام العرب وصبرهم على القتال ورغبتهم فيه، خاف أن يظهروا على رجاله، فعمد برجاله إلى باب الحصن الغربي على ضفة النيل، وعبروا على الجسر إلى الجزيرة تاركين نفرا قليلا في الحصن، أما العرب فقد تسوروا الحصن، وفي مقدمتهم الزبير بن العوام، فهرب من بقي فيه، فنزل الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، وتملكوا على الحصن بعد أن حاصروه سبعة أشهر، ثم عمدوا إلى الجسر فتعقبوا القبط إلى الجزيرة، فسار هؤلاء إلى منف عاصمة ولايتهم، وبعد أن عبروا النيل رفعوا الجسر عنه فتوقف العرب عن تعقبهم؛ حيث لم يستطيعوا عبور النيل، فأخذ المقوقس حينئذ في مكاتبة عمرو بأمر الصلح، فبعث إليه عمرو عشرة أنفار في مقدمتهم عبادة بن الصامت للمخابرة معه على أن يقبلوا واحدة من ثلاث: إما الإسلام أو الجزية أو الجهاد، ثم اجتمع عمرو والمقوقس وعقدوا معاهدة الصلح على أن يعطى للمصريين الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وهم يدفعون الجزية للمسلمين.
ولما تم التعاهد بين المسلمين والقبط هاجر جميع من كان بين هؤلاء من الروم ملتجئين إلى الإسكندرية، أما عمرو فعزم على النزول على الإسكندرية، وكانت محصنة تحصينا عظيما، وبها كثير من العسكر، فأمر عسكره بالرحيل إليها، فبينما هم يحملون للمسير وإذا بعمرو قد أخبر بأن زوج يمام قد باض على خيمته وأشرف على الفقس، فأمر عمرو بترك المخيمة قائمة إلى حين رجوعه من فتوح الإسكندرية، ثم سار قاصدا هذه المدينة، فحاصرها المسلمون أشهرا وهم لا يتمكنون من فتحها لشدة تحصينها، ثم ضيق عمرو الحصار عليها حتى التزم المحاصرون بعقد الصلح بعد مدافعة شديدة، فسلموا المدينة بعد حصارها أربعة عشر شهرا، فدخل عمرو مدينة الإسكندرية في أول يوم جمعة من شهر المحرم سنة 20 هجرية وقت صلاة الجمعة، ثم كتب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يخبره بفتوحها وما تحتوي عليه، فكتب إليه عمر يهنئه بالظفر، وولاه عاملا على الديار المصرية، فوضع الحرس الكافي في الإسكندرية، ورجع إلى الموضع الذي كان ترك فيه خيمته وعسكر هناك بجيوشه على شاطئ النيل، فبنت العسكر في أول الأمر حول الخيمة أكواخا صغيرة، ثم شيدت الأمراء ورؤساء الجيوش قصورا مشيدة، فتكون من مجموع هذه المباني مدينة عظيمة سميت بالفسطاط، ومعناه الخيمة؛ حفظا لذكر الحادثة التي كانت سببا في تأسيسها، فجعلها عمرو عاصمة مصر، واتخذها مركزا لإقامته، وبنى بها جامعه الموجود باسمه في مصر العتيقة الآن، وتفرغ حينئذ لترتيب الحكومة، فقسم مصر إلى مقاطعات، وجعل على الإسكندرية المقوقس، وعلى الوجه القبلي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وتولى بنفسه صلات خراجها، وكان قد جعل على كل فرد من الأهالي دينارين جزية، خلا الشيوخ والنساء ومن لم يبلغ الحلم، فجبى من الأموال سنويا 12 مليون دينار، وقد أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يحفر خليجا من الفسطاط إلى البحر الأحمر لسهولة النقل إلى مكة والمدينة، فحفره وسماه خليج أمير المؤمنين، ولم يزل عاملا على مصر حتى عزله عثمان بن عفان سنة 26 هجرية، وولى مكانه عبد الله بن أبي سرح، فثقل الضرائب على الأهالي حتى وصلت إلى 14 مليون دينار سنويا، ثم تولى عليها قيس بن سعد ثم محمد بن أبي بكر من قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم عاد إليها عمرو سنة 38 هجرية من قبل معاوية ، فلم يزل واليا عليها حتى مات سنة 43 هجرية.
الفصل الثاني
وفيه مطلبان:
المطلب الأول في الدولة الأموية
أقامت هذه الدولة إحدى وتسعين سنة (41-132 هجرية) تحت حكم أربعة عشر خليفة؛ أولهم معاوية بن أبي سفيان الذي كان ولاه عمر بن الخطاب عاملا على بلاد الشام، وأقره عليها عثمان بن عفان مدة خلافته، ثم خرج على علي بن أبي طالب حين تولى الخلافة، ووقعت بينهما حروب عديدة، فلما قتل علي وتنازل ابنه الحسن عن الخلافة استقر أمرها لمعاوية، فانتقل حينئذ مركز مملكة العرب إلى بلاد الشام بمدينة دمشق، وانحرفت المملكة العربية عن منهج الخلافة البسيط إلى أبهة الملك وعظمته، ثم انتقلت الخلافة أيضا من الحالة الانتخابية إلى الحالة الوراثية؛ حيث عهد بها معاوية إلى ابنه يزيد، فهاجت الأمة الإسلامية حينئذ، ولاقى بنو أمية من أهل العراق والحجاز مقاومة عظيمة؛ فإنه بموت معاوية أحضر أهل العراق الحسين بن علي من المدينة ليبايعوه بالخلافة، فقدم إليهم في سبعين نفرا من عائلته. غير أنه لما وصل إلى الفرات قابلته جيوش يزيد عند كربلا، فأحدقت به من كل جانب، فقتل هناك، وأما أهل المدينة ومكة فبايعوا عبد الله بن الزبير خليفة عليهم، فاستمر الاضطراب والشقاق إلى أن كانت أيام عبد الملك بن مروان خامس خلفاء هذه الدولة، فولى الحجاج بن يوسف عاملا على الحجاز، فحارب عبد الله بن الزبير، حتى ظهر عليه وقتله بمكة، ثم صرفه عبد الملك إلى العراق وخراسان وسجستان، فهدأ تلك البلاد، واستتبت الراحة فيها، وحينئذ تفرغت الأمة العربية للفتوحات ثانيا، فأمر عبد الملك حسنا عامله بمصر بفتوح شمال أفريقيا ثانيا الذي كان فتحه عقبة بن نافع في أيام معاوية، وتغلب عليه البربر ثانيا، ثم لما خلفه ابنه الوليد أذن لعامله على بلاد المغرب موسى بن نصير بأن يفتح بلاد إسبانيا، فأرسل موسى أحد المغاربة المدعو طارق بن زياد بجيش إلى تلك البلاد، ثم لحقه بجيش آخر، فأتما فتوحها ومدا مملكة العرب إلى جبال البرنات التي صارت آخر حدود الدولة العربية من جهة الغرب، فإن العرب لما عبروها ودخلوا فرنسا تحت قيادة عبد الرحمن الذي خلف موسى على ولاية المغرب، لم ينجحوا في مشروعهم؛ لأنهم بعد أن وصلوا إلى أواسط هذه البلاد هزمهم كارلوس مارتللو (شارل مارتل) بين طورس وبواطير، فتقهقروا ثانيا إلى الجبال المذكورة.
وأما من جهة الشرق فقد امتدت المملكة العربية إلى بلاد الهند؛ فإنه في عهد هذا الخليفة أرسل الحجاج محمد بن القاسم الثقفي لفتوح بلاد الهند الشمالية، فعبر محمد نهر السند، ووصل إلى جبال هماليا ونهر الكنك. غير أن العرب لم تحفظ هذه البلاد، فكانت هذه الفتوحات آخر تقدم العرب شرقا وغربا في فتوحاتهم التي انقطعت من يومئذ، وآخر ما وصلت إليه دولتهم من الامتداد، فإنها كانت إذ ذاك في غاية عظمها، ونهاية اتساعها ممتدة من نهر السند ووادي كشمير شرقا إلى الأقيانوس الأطلانطيقي غربا، ومن بلاد التركستان وبحر الخزر وجبال القوقاز والبحر الأبيض المتوسط (الذي يملكون فيه جزائر رودس وقبرص وكريد وجزائر الباليار) وجبال سوينة الجنوبية والبرنات شمالا إلى صحراء أفريقيا، وبلاد الإثيوبية وبحر الهند لغاية مصب نهر السند فيه جنوبا، وهذا الامتداد يبلغ طوله نحو الألف وثمانمائة فرسخا، وهو ما لم تصل إليه دولة قط، وقد وصلت إليه دولة العرب في أقل من مائة سنة.
وبعد أن بلغت دولة بني أمية هذه الدرجة القصوى في أيام الوليد ومن خلفه إلى آخر أولاد عبد الملك، اضطربت أمورها حتى تقوى حزب بني العباس وقدروا أخيرا على إظهار الدعوة لهم بجهة خراسان في أيام مروان الثاني ابن محمد آخر الخلفاء الأمويين، وبويع بالخلافة لأبي العباس السفاح بالكوفة في ربيع الأول سنة 132ه، فوقعت الحرب بين مروان وأبي العباس عند نهر الزاب بقرب الموصل، فانهزم مروان وهرب إلى مصر، فقبض عليه بأبو صير وقتل، فاستولى على الخلافة حينئذ أبو العباس وأوقع القتل في بني أمية، فلم ينج منهم إلا عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان؛ فإنه هرب إلى بلاد الأندلس، فأسس فيها دولة أموية جديدة بقرطبة تسمى بالدولة المروانية بعد أن انقرضت دولتهم من الشام وظهرت دولة بني العباس.
المطلب الثاني
في ذكر مصر في عهد الدولة الأموية
ولما آل أمر الخلافة إلى بني أمية دخلت مصر تحت حكم هذه الدولة أيضا، فكان يرسل إليها عمال من طرف الخلفاء ينتخبون أحيانا من أعضاء عائلة الخلافة، وكان مقرهم بمدينة الفسطاط عاصمة مصر في عهد هذه الدولة أيضا، إلا أن الخلفاء كانوا يسرعون في تغييرهم خوفا من أن يستقلوا بالبلاد إذا أقاموا فيها زمنا طويلا؛ فلكثرة تغييرهم كانت البلاد دائما في حالة تقلب واختلاف لم يستقر لها حال؛ ولذا لم نجد شيئا يستحق الذكر في حكم أغلبهم؛ فإن الواحد منهم كان يحضر إلى مصر ثم يصرف عنها بدون أن يبدي فيها شيئا، وقد اشتهر بعضهم بالعدل والإنصاف، والبعض - وهو الأكثر - بالجور والاعتساف.
وكان أشهر من يؤثر عنه بعض الحوادث منهم عبد العزيز بن مروان الذي ولاه عليها أبوه مروان بن الحكم رابع خلفاء هذه الدولة، وأقام بها أكثر من عشرين سنة، فلم تر مصر راحة ولا أمنا كما رأت في أيامه، وهو الذي بنى مقياس النيل الذي كان بحلوان؛ أول مقياس للنيل بناه المسلمون في مصر، وقد تولى بعده على مصر ابن أخيه عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فجعلت في أيامه الكتابة في دواوين مصر باللغة العربية بعد أن كانت لا تزال إلى ذاك الحين باللغة القبطية، ثم أسامة بن يزيد الذي ولاه عليها سليمان بن عبد الملك سابع خلفاء هذه الدولة، ولقبه أمير الخراج، فقاست منه الأهالي جميع أنواع الظلم والجور، فإنه لم يهتم إلا في جمع الأموال ولو بقوة السلاح، وجعل على كل من سافر بالنيل ضريبة قدرها عشرة دنانير يشتري بها ورقة مرور بالنهر، حتى جلب عليه ذلك سخط جميع الأهالي، وهو الذي بنى سنة 97 هجرية - بإذن من الخليفة المذكور - مقياس النيل الموجود الآن في الجهة الجنوبية من جزيرة الروضة بدلا من المقياس الذي كان بحلوان وانهدم في السنة المذكورة.
الفصل الثالث
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول في الدولة العباسية
أقامت هذه الدولة في الخلافة الإسلامية مدة 524 سنة (132-656ه) جلس في أثنائها على كرسي الخلافة سبعة وثلاثون خليفة، أولهم أبو العباس الملقب بالسفاح الذي تغلب على بني أمية وأخذ منهم الخلافة، وبظهورها ابتدأ عصر التمدن والعلوم والمعارف والآداب والفنون والصناعة والتجارة عند الأمة العربية؛ فإنه وإن كان عندما ظهرت هذه الدولة ابتدأ تجزؤ مملكة العرب، فاستقلت إسبانيا بنفسها لتباعدها عن كرسي المملكة بدون أن تجد مقاومة من العباسيين، ولم تلبث بلاد المغرب أن قام فيها مستقلا: الدولة الأغلبية بالمغرب الأوسط، ثم الدولة الإدريسية بالمغرب الأقصى؛ اللتان قامت على أثرهما الدولة الفاطمية، إلا أن أوائل عصرها كانت أعظم أزمان العرب في الشرف رونقا ورفعة، وقد ابتدأ مجدها من أيام أبي جعفر المنصور ثاني خلفائها الذي أسس مدينة بغداد على شاطئ الدجلة سنة 145 هجرية، فصارت عاصمة المملكة من عهده، ومنها انتشرت جميع العلوم والمعارف في سائر البلاد الإسلامية، ووصلت هذه الدولة إلى أعلى درجة المجد والشوكة في أيام هارون الرشيد خامس خلفائها وابنه المأمون سابعهم؛ فقد كانا من أعظم رجال العصر همة وذكاء وعدلا وحبا للترقي والتمدن والعلوم ونشر المعارف وحماية الصنائع وكل ما يئول لعمار البلاد.
ومن بعدها لم تبق شوكة المملكة إلا مدة يسيرة ثم وقعت الخلافة في الفوضوية، وابتدأ زمن انحطاطها من عهد المتوكل على الله عاشر خلفاء هذه الدولة؛ فإن المماليك الأتراك الذين كان أدخلهم في الحرس الملوكي المعتصم ثامن خلفائها كانوا قد كثروا في بغداد، وقويت سلطتهم فاستولوا على المملكة، وصار بيدهم الحل والعقد والولاية والعزل، ثم زادت شوكتهم فاستضعفوا الخلفاء وسطوا عليهم، فكان الخليفة في يدهم كالأسير؛ إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه، حتى ضعف أمر الخلفاء عند ولاة الأقاليم، فنبذوا طاعتهم واستبدوا بالأحكام فتجزأت المملكة حينئذ ، وظهرت فيها العائلات المستقلة شرقا وغربا؛ فقام في الشرق: الدولة الطاهرية بخراسان، ثم الدولة الصفارية بسجستان وخراسان وطبرستان، ثم الدولة السامانية بخوارزم وما وراء النهر، حتى خرجت جميع آسيا الشرقية من يد الخلفاء. وقام في الغرب: الدولة الطولونية بمصر والشام، حتى عم الاضطراب داخلا وخارجا؛ فكان لا ينقطع من داخل بغداد لوجود الأتراك، ولا من خارجها لكثرة ظهور تلك الإمارات الصغيرة حولها، إما على التعاقب أو في آن واحد، حتى إنه لم تكن أيام الراضي بالله الخليفة العشرين من هذه الدولة إلا وقد أحيطت بغداد من جميع الجهات بإمارات مستقلة؛ فكانت بلاد فارس في يد بني بويه، وأرض الجزيرة وديار بكر في يد بني حمدان، وخراسان وما وراء النهر في يد بني سامان، ومصر والشام في يد الإخشيد، وغير ذلك، ولم يبق في يد الراضي إلا بغداد وما والاها؛ هذا فضلا عن وجود دولتين أخريين يدعيان الحق في الخلافة؛ وهما الدولة المروانية بالأندلس والدولة الفاطمية بالمغرب؛ فكان هاتان الدولتان ينازعانها الإمامة الدينية، والإمارات المذكورة تنازعها السلطة الإدارية التي فقدها الخلفاء كلية حتى في بغداد من عهد الراضي؛ فإنه لخوفه من الأتراك ابتدع وظيفة أمير الأمراء؛ وهي وظيفة وزير أعظم يلقب أمير الأمراء، سلمه الراضي رئاسة الجيوش وإدارة الأموال، حتى صار مطلق التصرف، بيده جميع أمور المملكة، وكان يضاف اسمه إلى اسم الخليفة في الخطبة، فتنازع هذه الوظيفة الأمراء أيضا، فلم تلبث أن وقعت في يد بني بويه، فأقاموا فيها أكثر من مائة سنة، وكانوا هم الحكام في الدولة العباسية حقيقة، ولهم فضل الاستمرار على تنشيط العلوم والمعارف.
وأما الراضي ومن خلفه فتركوا أمور المملكة واقتصروا على قصورهم، فصارت الخلافة إمامة دينية ليس للخلفاء منها إلا الاسم فقط، حتى إنه عندما قامت الدولة الفاطمية بمصر فيما بعد كانت دولة العرب في الشرق تشتمل على ثلاث ممالك مستقلة: الدولة الفاطمية، وهي تدعي الإمامة أيضا، والدولتان البويهية والسامانية، وهما يعترفان بالإمامة للخلفاء العباسيين الذين حفظوا تلك الإمامة الدينية في بغداد إلى مجيء التتار ، وتركوا السلطة الإدارية إلى هاتين الدولتين، ثم إلى الأولى منهما، والدولة الغزنوية التي خلفت الدولة السامانية في آسيا الشرقية، وامتدت من منابع نهر الكنك ونهر السند إلى بحر الخرز ثم إلى الدولة السلجوقية التي خلفتهما وامتدت من حدود الهند إلى بوغاز القسطنطينية ثم تجزأت إلى سلطنات مستقلة، فكان منها سلطنة أيقونية التي صارت تركية آسيا، ونتج عن تجزئها أن حكام الولايات التي كانت تابعة لها المدعوين أتابك؛ أي أمراء استقلوا بولاياتهم، فكان منهم الأتابك عماد الدين زنكي صاحب الموصل أبو نور الدين، فلما قصد بغداد هولاكو أخو مابخوخان ملك التتار والمغول في أيام المستعصم آخر الخلفاء العباسيين ببغداد، وتملك عليها عنوة في صفر سنة 656 هجرية انقرضت الخلافة العباسية من بغداد كلية، وأما بنو العباس فقد انتقلوا إلى مصر واستقروا بها نحو الثلاثة قرون تحت رعاية المماليك، وكان لهم الإمامة وما يتعلق بالأمور الدينية حتى تملك العثمانيون على مصر، فأفضت الخلافة إليهم ولم تزل لسلاطينهم إلى الآن.
المطلب الثاني
في الكلام على تمدن العرب من عهد الدولة العباسية
قد عرفنا ما وصلت إليه دولة العرب من الامتداد والقوة والشوكة في القرن الأول من الهجرة، والآن نتكلم على ما وصلت إليه هذه الأمة من التمدن والمعارف والثروة والرفاهية في القرن الثاني منها، فإن العرب بعد أن فتحوا تلك البلاد الشاسعة، وتحصلوا منها على الأموال الوافرة فترت عندهم تلك الحماسة الأولى فأبطلوا همتهم في الحروب والفتوحات واستعاضوها بمطالعة العلوم ونشر الفنون والصنائع، وصاروا يؤثرون الشغل والتجارة والتمتع بأتعابهم، والسكنى بسلام على الحروب وفتح الممالك، فإن الثروة التي تحصلوا عليها والأموال الوافرة التي صارت بأيديهم عودتهم على الترف ونضارة العيش، فارتاحوا للحياة الرافهة ونعيم الدنيا حتى أسرفوا في التمتع بهما؛ فإن الملكة زبيدة زوجة هارون الرشيد ما كانت تلبس إلا ملابس الحرير، ولا تستعمل إلا أواني الذهب مرصعة بالجواهر النفيسة وأقمشة منسوجة بخيوط من فضة، ويقال: إنه كان يوجد في قصر المأمون من الفرش ثمانية وثلاثون ألف قطعة؛ منها اثنا عشر ألف قطعة وخمسمائة مطرزة بالذهب واثنان وعشرون ألف بساط وسبعة آلاف خصي؛ منهم ثلاثة آلاف من السودان، وغير ذلك من الخدم والمستحفظين، وقد أمر بإقامة شجرة مسمطة من الذهب مرصعة باللؤلؤ على شكل الفاكهة في صالة المقابلة عند مقابلته لسفير الروم.
وهكذا صاروا ينفقون الملايين من الدنانير في بناء المدن اللطيفة والقصور المشيدة والجوامع المزخرفة ويكثرون البذل في عطاياهم وفي حجهم؛ فقد فرق المأمون يوما على خواصه أكثر من أربعمائة ألف دينار، وصرف المهدي في حجة واحدة ستة ملايين دينار. غير أنهم أخذوا ينشطون مع ذلك العلوم والفنون والتجارة، فأول من اعتنى بذلك منهم أبو جعفر المنصور الخليفة الثاني من الدولة العباسية التي بظهورها انقضى عصر الفتوحات، وابتدأ عصر التمدن عند الأمة العربية، ثم حرص على دوام هذه الحركة العلمية خلفاؤه من بعده، حتى إنه لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون أعظم الخلفاء في المعارف وعلو الفكرة اعتبر المعارف أنها أعظم شيء في سلام الأمة وسعادتها، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وأكثر من فتوح المدارس وتأسيس الكتبخانات، وجعلها عمومية لكل أحد، وجمع العلماء من يونان وفرس وقبط وكلدان، واستحضر الكتب من سائر البلدان، حتى صارت بغداد مقر المعارف ومركز العلوم، فكان يدخل إليها كل يوم مئات من الجمال محملة بالكتب من جميع الأقطار، وكانوا يترجمون أحسنها إلى اللغة العربية، فترجموا جملة مؤلفات يونانية في الفلسفة والفلك والرياضيات، حتى تقدمت عندهم تلك العلوم واكتشفوا فيها اكتشافات مهمة، وبنوا الرصدخانات، ووضعوها فيها الآلات العظيمة المدهشة للعقول، وقد اجتهدوا كثيرا في تقدم علم الطب، فأسسوا الإسبتاليات، وصاروا يمتحنون الأطباء قبل التصريح لهم بالعلاج، وأسسوا معامل للأجزخانات، واكتشفوا كثيرا من النباتات الطبية، وابتدءوا علم الكيمياء، وقد اهتموا أيضا بالعمارة وفن الموسيقى، وكانوا يشرفون الزراعة.
وأما الصناعة فقد تقدمت عندهم تقدما عظيما؛ خصوصا صناعة الآلات الميكانيكية، كما يعلم ذلك من الساعة التي أرسلها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا، وقد استخرجوا كثيرا من المعادن والأحجار، فاستخرجوا معادن الحديد من خراسان ومعادن الرصاص من كرمان وغير ذلك، واشتهرت عندهم صناعة الأقمشة اللطيفة بالموصل وحلب ودمشق من مدن العراق والشام، وأما صناعة النقش والتصوير، فلم تتقدم عندهم كثيرا لآباء الشريعة لها. غير أنهم أكثروا من وجود الآثارات اللطيفة في المدن الشهيرة مثل بغداد والبصرة والموصل والرقة وسمرقند، حتى فاقوا جميع الأمم المعاصرة لهم في العلوم والفنون والصنائع، فأخذوا في أسباب التجارة، وسعوا في إحداث محطات تجارية في ممالكهم، فكان ذلك سببا لانتشارهم فيما بعد في آسيا وأفريقيا وتقدم قوافلهم شمالا إلى بلاد التتار والمغول على حدود سيبرية وشرقا إلى بلاد الصين وجزائر السوندبالا وقيانوسية، وجنوبا إلى بلاد السودان والزنجبار وموزنبيق ومداغشقر.
المطلب الثالث
في ذكر مصر في عهد الدولة العباسية
ولما أفضت الخلافة إلى بني العباس، صارت مصر تحت حكمهم أيضا؛ حيث كانت جزءا من الدولة الإسلامية، إلا أن حكمهم في مصر لم يمتد إلا إلى سنة 358 هجرية؛ أعني إلى أيام أبي العباس بن المقتدر الملقب بالمطيع لله، وهو الخليفة الثالث والعشرون من العباسيين، وقد استقلت مصر أثناء تلك المدة مرتين استقلالا إداريا؛ فاستقلت أولا نحو سبع وثلاثين سنة تحت حكم العائلة الطولونية حيث انفرد بإدارتها أحمد بن طولون في أيام المعتمد على الله ابن المتوكل الخليفة الخامس عشر منهم، وأسس فيها الدولة الطولونية، ثم دخلت في حوزة العباسيين ثانيا في عهد المكتفي بالله بن المعتضد الخليفة السابع عشر منهم، واستمرت نحت سلطتهم إلى أيام الراضي بالله، فولى عليها أبا بكر محمد بن طغج عاملا من قبله، فاستقل أيضا بإدارتها وتلقب بالإخشيد، وأسس فيها العائلة الإخشيدية التي أقامت أربعا وثلاثين سنة إلى تغلبت على مصر الدولة الفاطمية في عهد الخليفة العباسي المطيع لله، فخرجت مصر بالكلية من يد العباسيين.
وقد استعمل بنو العباس نفس السياسة التي استعملها بنو أمية في كيفية انتخاب العمال وفي سرعة تغييرهم؛ فاستمرت مصر في أيامهم على الحالة التي كانت عليها في أيام بني أمية، وزاد بنو العباس في سياستهم حتى نتج عنها أن العمال صاروا لا يجتهدون مدة إقامتهم بمصر إلا في الحصول على المنفعة الشخصية كالثروة وغيرها، بدون نظر إلى مصلحة البلاد.
ومن مآثر هذه الدولة بمصر بناء مدينة العسكر التي جعلت مركزا لحكومة مصر في عهدها؛ وهي مدينة صغيرة تحتوي على طرق منظمة وأسواق، وبيوت مشيدة مسكونة جميعها بالعساكر، كانت توجد في شمال الفسطاط خارج سوره، وتتصل شمالا بهضبة قليلة الارتفاع تسمى جبل يشكر، وتنتهي غربا عند النقطة المسماة قنطرة السباع، أسسها أبو عون عبد الملك بن يزيد الذي حضر إلى مصر مع صالح بن علي ليقتفي أثر مروان الجعدي؛ وذلك أن جيشه كان قد نزل بتلك الجهة فأمر أصحابه بالبناء فيها، فابتنوا فيها تلك المدينة الصغيرة التي دعيت بالعسكر، ثم بنيت فيها دار الإمارة التي صار ينزل فيها أمراء مصر من بعد أبي عون إلى أن بني أحمد بن طولون القطائع وأقام فيها قصره، فانتقل تخت مصر إلى هذه المدينة.
ومن مآثر هذه الدولة أيضا الزيادات التي أضافها المأمون عند مجيئه مصر إلى مقياس النيل الذي أسسه أسامة بالروضة؛ فقد عمل له قبة مشيدة البناء، وهو الذي أسس الحوض والعامود الموجودين إلى الآن بالمقياس المذكور، وكتب الكتابة الكوفي الموجودة بأوجه الحوض من داخله التي لم يزلها إلى الآن تمادي الزمن، ثم تجديد بناء مقياس النيل بالفسطاط في أيام المتوكل على الله؛ حيث كان انهدم بزلزلة في أيامه فأمر ببنائه جديدا وسمي بالمقياس الجديد.
المطلب الرابع
في الدولتين الطولونية والإخشيدية، وفيه فرعان
لم تكن هاتان الدولتان من الدول الملوكية، وإنما هما عائلتان أصلهما من عمال الدولة العباسية على مصر، فاستقلتا بها كما استقل غيرهما من العائلات التي ذكرناها في جميع أنحاء الدولة العباسية، فكان أمراؤهما يعترفون بالتبعية للخلفاء ظاهرا وقد نبذوا طاعتهم باطنا، واستقلوا بإدارة البلاد وانفردوا بتدبيرها؛ ولذلك يعد زمن حكم العائلتين المذكورتين في مصر في مدة حكم الدولة العباسية عليها، وقد امتدت سلطتهما على مصر والشام وأرض الجزيرة لغاية نهر الفرات وعلى جزء من بلاد العرب أيضا.
الفرع الأول في الدولة الطولونية
حكمت هذه الدولة نحو السبعة وثلاثين سنة (255-292ه) تحت حكم خمسة أمراء من ذرية طولون؛ وهو مملوك تركستاني أسر في إحدى المواقع الحربية وجيء به إلى ابن أسد الصمامي عامل المأمون على بخارى، فأرسله ابن أسد إلى المأمون ضمن المماليك الذين أرسلهم إليه سنة 200 هجرية، فأعجب المأمون تناسب أعضائه وقوة بنيته فألحقه بحاشيته، وما زال يرقيه حتى جعله رئيس حرسه ولقبه بأمير الستر، فصرف طولون نحوا من عشرين سنة في هذا المنصب في أيام المأمون والمعتصم، فلما توفي في أيام المتوكل على الله سنة 239 هجرية رأى الخليفة في ابنه أحمد المولود سنة 220 هجرية اللياقة للقيام مقام أبيه في إمارة الستر، ولو أنه لم يبلغ التاسعة عشرة من العمر.
وكان أحمد قد تعلم وتربى تربية حسنة حتى اشتهر بالعلم والشجاعة والتقوى، فأحبه كثير من العلماء ومال إليه كثير من الأتراك؛ منهم ياركوج من كبراء حرس الخليفة فزوجه بابنته، وهي التي رزق منها بابنه عباس، وقد شب أحمد بن طولون بين الدسائس والثورات التي كانت للأتراك، ولكنه لم يتداخل فيها قط، بل عكف على توسيع معارفه والاشتغال بالعلم، فسار يسافر إلى طرسوس بآسيا الصغرى لتلقي العلوم بمدارسها، وقد صادف أثناء رجوعه من طرسوس إلى سامر أن هجم بعض العربان على القافلة ليسلبوا منها أموالا كانت محمولة إلى الخليفة المستعين بالله، فحمل عليهم أحمد بعزم شديد وردهم على أعقابهم واستخلص منهم أموال الخليفة، وكان عمره إذ ذاك تسعا وعشرين سنة، فلما وصل الركب إلى سامرا وبلغ الخليفة الخبر أعطاه ألف دينار، ووهبه إحدى جواريه المسماة مية التي ولدت له ابنه الثاني خمارويه سنة 250 هجرية، وكان ذلك مبدأ شهرته وظهوره، فلما تولى بابكيال أحد رؤساء الأتراك عاملا على مصر من قبل الخليفة المعتز بالله سنة 254 هجرية لم يرغب هذا العامل في أن يترك بغداد محل نفوذه ويذهب إلى مصر، فاستخلف عليها أحمد بن المدبر وأحمد بن طولون، وقسم بينهما إدارة البلاد؛ فأعطى أحمد بن المدبر جباية الأموال، وأعطى أحمد بن طولون باقي الوظائف عسكرية وإدارية، وجعله نائبا عنه ، فحضر ابن المدبر إلى مصر قبل مجيء ابن طولون إليها، فاضطهد الأهالي كثيرا، وثقل عليهم الضرائب؛ وذلك أنه ابتدع في مصر بدعا استمرت من بعده؛ فقد أحاط بالنطرون وحجز عليه بعدما كان مباحا لجميع الناس، وقرر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالا سماه المراعي، وقرر على ما يطعمه الله من البحر مالا سماه المصائد، فانقسم مال مصر إلى خراجي وهلالي.
أما الخراجي فهو ما يؤخذ مسانهة من الأراضي التي تزرع حبوبا ونخلا وعنبا وفاكهة، وما يؤخذ من الفلاحين هدية مثل الغنم والدجاج وغيره من جهة الريف، وأما الهلالي فعلى نوعين سماهما بالمرافق والمعاون، وهو ما يؤخذ من الضرائب على مثل ما ابتدعه ابن المدبر كما تقدم؛ فكره الأهلون هذه المعاملة، وجعلوا يسعون إلى الكيدية، وكان عالما بذلك، فجعل في حاشيته الخاصة نحوا من مائة غلام هندي ممتازين بالقوة والشجاعة كانوا يرافقونه إلى حيث توجه، فلما قدم ابن طولون إلى مصر ليستلم زمامها خرج لمقابلته ابن المدبر بحرسه، وأهدى إليه هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار، فردها عليه ابن طولون وطلب منه عوضا عنها المائة غلام، فلم يجد بدا ابن المدبر من أن يبعثها إليه، فتحولت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون؛ حيث انتقلت السلطة إليه وصارت تزداد شوكته شيئا فشيئا بتطهيره مصر من عصاتها، ثم استخلف أخاه موسى بن طولون على مصر، وخرج في جيش بأمر الخليفة المعتمد على الله لمحاربة عيسى بن الشيخ أمير الشام، حيث كان استولى على أموال مرسلة إلى الخليفة من مصر، ولكنه وصله وهو في الطريق كتاب من الخليفة يأمره بالعود إلى مصر؛ حيث أرسل عوضا عنه لمحاربة عيسى بن الشيخ أماجور التركي، فلما عاد ابن طولون إلى مصر عزم على الاستقلال بها، فشرع في تحصين البلاد وجمع الأموال، وأكثر من العسكر وآلات الحرب، فضاقت عليه العسكر محل إقامته، فانتقل منها إلى هضبة جبل يشكر الممتدة في شرق الفسطاط لغاية أسفل الجبل المقطم، فأسس فيها مدينة جديدة سماها القطائع؛ لأنه كان أقطع رؤساء جيشه أرضها فقسمها بينهم، وكلفهم بأن يبنوا فيها مساكن كل في إقطاعه، فشيدوا بها مساجد وحمامات وبساتين وبيوتا وأسواقا ومعامل ودكاكين وخانات، وقد اتخذ بها أحمد بن طولون ميدانا للجيش، وأسس فيه قصره فسمي بالميدان، فلما كانت سنة 257 هجرية ولى المعتمد بن المتوكل على الله ياركوج صهر أحمد بن طولون أبا زوجته عاملا على مصر بعد موت بابكيال، فصار أحمد بن طولون نائبا عموميا عنه، ثم مات هذا العامل في السنة الثانية، فتحصل ابن طولون على أمر من الخليفة بتقليده ولاية مصر، فلما انفرد بإدارتها خفف على الأهالي الضرائب الباهظة التي كانوا يؤدونها، فألغى الخراج الهلالي الذي وضعه ابن المدبر، وأصلح مقياس النيل الذي بالروضة، وأسس إسبتالية في العسكر، وكانت أول إسبتالية أسست في مصر، وأمر بإصلاح منارة الإسكندرية وصهاريجها، وأوصل مياه النيل إليها، وشيد بالقطائع جامعه المسمى باسمه، فأتم بناءه في سنتين، ولم يدخل في بنائه شيئا يحترق أو تفسده الرطوبة؛ فهو مبني بالجبس والطوب الأحمر فقط، ثم تملك على بلاد الشام؛ مع مضادة الموفق أخي الخليفة له، ثم توفي في ذي القعدة سنة 270ه، ودفن بالجبل المقطم، وترك شيئا كثيرا من آلات الحرب ومن الخيل والعبيد، وترك من الأولاد ثلاثين ولدا منهم سبعة عشر ذكورا وثلاث عشرة إناثا؛ مع أنه لم يبلغ من العمر خمسين سنة.
ثم خلفه ابنه خمارويه، وكان يلقب أبا الجيش، فأخذ في تدبير الأحكام، ولم يغير شيئا مما كان على أيام أبيه، بل أبقى الرتب والوظائف على حالها، وأرسل مراكب حربية تجول في سواحل الشام ليتأكد من تحصينها، ثم التفت للأمور الداخلية؛ فزاد في قصر أبيه، وجعل الميدان كله بستانا زرع فيه أنواع الأزهار والأشجار، واتخذ في هذا البستان برجا من خشب وضع فيه جميع أنواع الطيور المستحسنة الحسنة الصوت وغير ذلك، وعمل ميدانا غيره أكبر منه، واقتنى كثيرا من الخيول للسباق، وكثيرا من الحيوانات المفترسة وغيرها كالسبع والنمر والفيل والزرافة وغير ذلك. ثم لما تولى الخلافة المعتضد بالله أراد خمارويه تحسين العلائق بينه وبين هذا الخليفة ليزيل ما كان حصل بينهما من الخلاف أيام الخليفة السابق، فأرسل إليه هدايا كثيرة ووعده بأن يدفع له سنويا مائتي ألف دينار خراجا خلاف المائة ألف دينار المتأخرة من السنين الماضية، وعرض عليه ابنته قطر الندى زوجة لابنه ولي العهد، فقبل منه الخليفة ذلك. غير أنه اتخذ قطر الندى زوجة لنفسه، فلما وقعت المصاهرة بينهما لم يدفع خمارويه شيئا من الخراج بعد الذي دفعه في المرة الأولى، ثم بعد موته خلفه ابنه جيش الملقب أبا العساكر، فلم يلبث أن قامت عليه العساكر فقتلوه وأقاموا مكانه أخاه هارون، فكثر في أيامه الاختلال وعدم النظام، وكادت أن تخرج عن طاعته جميع الولايات التابعة له، فخضع للخليفة المعتضد ودفع له سنويا مليون دينار خراجا، فلما مات المعتضد وخلفه ابنه المكتفي بالله أرسل محمد بن سليمان بجيش إلى بلاد الشام فاستولى عليها، ثم دخل مصر فأراد هارون مقاومته غير أن عمه أبا المغازي شيبان حرض عليه العساكر فقتلوه، ثم أراد أن يجلس مكانه ويدافع عن مصر، فلم يمكنه؛ لأن أمراء جيوشه كانوا قد تعاهدوا مع محمد قائد الخليفة وتركوه فالتزم بالهروب لكنه قتل في هروبه، فكان هو آخر من حكم مصر من الطولونيين، فانتهت حينئذ العائلة الطولونية، ودخلت مصر ثانيا تحت حكم العباسيين، فلم تزل تحت سلطتهم حتى استقل بها محمد الإخشيد وأسس فيها العائلة الإخشيدية.
الفرع الثاني في الدولة الإخشيدية
حكمت هذه الدولة أربعا وثلاثين سنة (324-358ه)، وأمراؤها خمسة؛ أولهم أبو بكر محمد بن طفج الملقب بالإخشيد، الذي أرسله الراضي بالله إلى مصر ليكون عاملا عليها من قبله فاستقل بها وانفرد بتدبير أمورها لما رأى اضمحلال الخلافة العباسية واختلال أمورها، وقد امتدت سلطته على الشام أيضا، ومات فيها بمدينة دمشق، ودفن بأورشليم؛ أي بيت المقدس، ثم خلفه ابنه أبو القاسم أنوجور، وكان حديث السن فكفله كافور وزير أبيه وأحد معاتيقه، وكان عبدا أسود لكنه زكي ذو همة ونشاط، نفع الإخشيد كثيرا، ولم يكن له غاية إلا عظم شأن أمرائه وخير مصر، فصارت الكلمة له واستتبت الراحة في البلاد بحسن تدبيره، ورد عن مصر أعداءها، وأخذ قلعة إبريم التي على بعد خمسين فرسخا من جنوب أصوان من ملك النوبة الذي كان أغار على أصوان ونهبها في تلك الأيام.
ولما مات أبو القاسم خلفه أخوه علي الملقب أبا الحسن، ولم تزل الكلمة لكافور، ثم بعد موت علي تولى كافور فاعترف بالتبعية للخليفة العباسي المطيع لله الذي هو آخر من تبعته مصر من العباسيين، فأقره الخليفة على ولاية مصر، ثم خلفه بعد موته أبو الفوارس أحمد بن علي، فنازعه في الملك أحد أقاربه المدعو حسين، فاضطربت أحوال الديار المصرية؛ حيث انقسمت مصر إلى جزأين، ووقعت فيها المنافسات الشديدة والحروب الداخلية، فكاتب أعيان مصر الخلفاء الفاطميين بالمغرب في التملك عليها، وكان إذ ذاك في حوزتهم من بلادها الإسكندرية والفيوم وجزء عظيم من الصعيد، فأرسل إليها المعز جيشا لتتميم فتوحها تحت رئاسة جوهر الصقلي، فقصد جوهر الفسطاط وأسر حسينا، وخلع أحمد أبا الفوارس، وخطب باسم الخليفة الفاطمي، فانتهت حينئذ العائلة الإخشيدية، وقام بمصر دولة الفواطم.
الباب الثاني
في الدول التي حكمت مصر مستقلة، وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
وفيه مطلبان:
المطلب الأول في الدولة الفاطمية
قد نشأت هذه الدولة ببلاد المغرب حين اضطربت أحوال الدولة الأغلبية بها؛ فإن قوما من الشيعة منهم أبو عبد الله الشيعي تمكنوا من إشهار الدعوة لآل البيت بتلك البلاد بمساعدة الأدارسة لهم، وبايعوا رجلا يدعى عبيد الله من قبيلة كتامة القاطنة بجوار مدينة سلجماسة في الغرب الأقصى، يدعي أنه المهدي وأنه ينتسب إلى علي وفاطمة، فنبغت هذه الدولة الفاطمية أو العلوية المسماة أيضا بالعبيدية بالقيروان سنة 296ه بعد قلب دولة الأغالبة في أيام الخليفة العباسي المقتدر بالله، وقد عزا عبيد الله لنفسه الأحقية في الخلافة فتلقب بأمير المؤمنين، وعمل على محو إمامة العباسيين؛ فبعد أن وطد سلطته على صقلية وسردينيا المفتتحتان في أيام الدولة الأغلبية، وضرب الجزية على أمير الأدارسة بالغرب الأقصى وعلى العائلات المستقلة بمكناسة وسلجماسة وغيرهما، وجه أنظاره إلى مصر. غير أنه لم يمكنه أن يتملك على أكثر من صحراء ليبيا وبرقة، وترك إتمام مشروعه إلى خلفائه؛ فاهتم القائم بأمر الله ثم المنصور في أخذها من الإخشيديين فلم يمكنهما؛ غير أنهما تملكا على بعض بلادها ، فلما خلفهما المعز لدين الله تمكن من فتوح مصر على يد قائده جوهر سنة 358ه، فكان هو أول الخلفاء الفاطميين بمصر ورابعهم بالمغرب، وهم أربعة عشر، استقر منهم بمصر أحد عشر؛ من أول المعز حيث انتقل إليها بعائلته، وأما الثلاثة الأول فكان مركز حكومتهم بالمهدية التي أسسها عبيد الله المهدي بعد أن تملك على القيروان على بعد خمسة وخمسين فرسخا من تونس، وانتقل إليها، وقد امتدت سلطة هذه الدولة بعد تملكها على مصر والشام على جزء من أرض الجزيرة ومن بلاد العرب. وقد أحسن المعز لدين الله ثم ابنه العزيز بالله التصرف.
وأما الحاكم بأمر الله الذي خلفهما فكان من أسوأ الملوك؛ قضى على رعيته في مدة الأربع والعشرين سنة التي حكمها بأدنى الطاعة وأذل الخضوع؛ فقد كان الكل يرتجف أمامه لوجود العبيد مسلحة حوله مستعدة لقتل كل من يقع منه ما لا يستحسنه، وكان رديء السيرة؛ كل أفعاله محض اختلال؛ فقد أمر مرة بإحراق القاهرة ليتمتع بمشاهدة مدينة تحترق، وأخرى سمح لعساكره بنهب المدينة، وكثيرا ما كان يضطهد اليهود والنصارى حتى يخرجوا عن أديانهم ثم يسمح لهم بالعود إليها، وقد أمر الناس بسب الصحابة ثم منع سبهم وعاقب من يسبهم أشد العقاب، وهكذا كانت أفعاله تشهد عليه بالجنون والزندقة، وله في الأضاليل مذهب معروف؛ وهو الذي بنى الجامع المسمى باسمه بالقرب من باب الفتوح، وقد قتل بالجبل المقطم سنة 411ه، فخلفه ابنه الظاهر لإعزاز دين الله، ثم المستنصر بالله بن الطاهر وله من العمر سبع سنوات، فطالت مدته ومكنت نحو الستين سنة، وهي مدة لم يحكمها خليفة غيره؛ إلا أن أيامه كانت أسوأ الأيام وأشدها على الأهالي ضنكا وبؤسا؛ فإنها كانت كلها فتن وحروب داخلية وخارجية وقحط وغلاء، وفيها انفصل عن مصر الشام وغيرها من الولايات التابعة لها، وكانت أمه جارية سوداء باعها إلى الخليفة الظاهر رجل يهودي يدعى أبا سعيد سهل، فلما تولى الخلافة ابنها أدخلت بائعها في الملك، واتخذته مستشارا لها، وصارت تعمل معه الدسائس على خلع الوزراء وتوليتهم ، فكثر تغييرهم، فأهملت الأشغال وصار ينقص إيراد الحكومة يوما فيوما وتزداد مصاريفها، وصارت جميع ولايات المملكة في حالة يرثى لها من الفقر ونقص السكان، ومما أوقع مصر في الاضمحلال الكلي والفاقة الكبرى المشاجرات التي وقعت بين العساكر وخفراء القاهرة، وكان ذلك الخفر مكونا من عساكر عبيد تحت حمى الملكة أم الخليفة ومن عساكر أتراك مكونين لمعظم الجيش، وكان المستنصر في كل سنة في زمن الحج يظهر أنه يريد الحج فيخرج من القاهرة مصحوبا بكثير من الرجال والنساء ومعه الأبواق والنوبات، ويذهب إلى بركة الحج مجمع الحجاج فيفرق على عساكره نبيذا ويبيتون سكارى ثم يعود إلى قصره؛ ففي بعض السنين بينما هم في هذا الانهماك إذ ضرب أحد العسكر الأتراك السكارى واحدا من العبيد، فقبض أصحاب العبد على التركي وقتلوه، فانتشبت الحرب بين الأتراك والعبيد، ووقعت بينهم حروب عديدة كانت نتيجتها أن أفنى الأتراك العبيد واستولوا على السلطة، وصار الخليفة حقيقة هو رئيسهم ناصر الدولة، وضيقوا على الخليفة؛ فلا زالوا يطلبون منه زيادة ماهياتهم حتى نفدت جميع أمواله، فنهبوا قصره حينئذ، وأخذوا ما فيه من أمتعة وحلي، وكان الخليفة ووزيره يحضران هذا السلب باكيي العين، ولم يجسر أحدهما أن يتكلم، وقد خربوا الكتبخانة العظيمة؛ فأعدموا منها مائة وعشرين ألف كتاب من الكتب النفيسة التي بخط اليد، وأخذ العربان كثيرا من المجلدات الحسنة التجليد، وصاروا يعملون من جلدها نعالا.
وانتزعت الشوكة من المستنصر كلية، فلم يبق تحت طاعته عسكر واحد ولا في تصرفه دينار واحد، ولم يكتف ناصر الدولة بذلك، بل أراد أن يجعله من الخلافة أيضا، غير انه اختلف عليه بعض الأتراك وتحزبوا مع المستنصر، فحاربه المستنصر بهم وهزمه، فالتجأ إلى الإسكندرية واستقل بالوجه البحري وخطب فيه للعباسيين، ثم وقع بمصر غلاء كثير ومجاعة عظيمة كانت شدتها سنة 462ه، فبيع الأردب القمح بمائة دينار والبيضة بدينار والقط بثلاثة دنانير والكلب بخمسة، حتى تعذر على الأغنياء فضلا عن الفقراء الحصول على أقل المأكولات، وصار أهالي القاهرة يأكل بعضهم بعضا، وقد لحق القحط الخليفة كغيره؛ فباع ما بقي عند من الجواهر والحلي حتى ملابس حريمه بأبخس الأثمان من شدة الجوع، وقد صحب هذا القحط الطاعون كما هي العادة؛ فكانت الأموات تعد بالألوف حتى خلت القاهرة من سكانها؛ فإن من بقي له مقدرة على المشي ترك المدينة، وذهب إلى الخلاء قاصدا جهة الشام.
أما ناصر الدولة فقد حجز غلال الوجه البحري عن القاهرة، ثم أتى لمحاصرتها بعد أن حرق كل ما في طريقه، فلم يقدر الخليفة على مقاومته فخضع له، فلما دخل ناصر الدولة القاهرة عزم على أن يلزم الخليفة بغرامة الحرب، فاستقبله المستنصر في قصر متخرب جالسا على حصير خشن وليس عليه إلا قفطان قديم، وما عنده من الخدم سوى ثلاثة عبيد عرايا قد بلغوا من العمر أرذله، وقال له: ما تريد مني؟! أنت تعلم أنك لم تبق لي شيئا، فإن أردت ثيابي الرثة وحصيري وعبيدي الثلاثة فخذهم أيضا، فخجل ناصر الدولة، ورتب له مائة دينار شهريا لمؤنته. واستمر ناصر الدولة في السلطة حتى قتله صهره الدقوز واستولى هو عليها، فلما تعب المستنصر من الأتراك دعا بدر الجمالي أمير دمشق بالحضور إلى مصر ليسلمه أمورها فحضر من الشام بمن انتخبهم من جنوده من طريق البحر الأبيض المتوسط، ولما وصل إلى القاهرة صنع وليمة، وعزم فيها رؤساء الأتراك، وأجرى فيهم مذبحة عظيمة، ثم أمر بقتل كل من كان تحزب معهم أو ساعدهم، فخلع عليه المستنصر خلع الوزارة، ولقبه أمير الجيوش، وقلده وزارة مصر الإدارية والعسكرية، فعدل في الرعية وأصلح البلاد ورد إليها رونقها القديم؛ فقد وجه أنظاره إلى التجارة والزراعة؛ فأعاد الفلاحين إلى زراعتهم، ورفع عنهم الضرائب مدة ثلاث سنين حتى ترجع للأرض خصوبتها، وشجع الصناع والتجار، فعادوا إلى المدينة بعد أن كانوا خرجوا منها، وهو الذي شيد بالقاهرة باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح والسور المتصل بها، ثم مات هو والمستنصر في ذي الحجة سنة 487ه، فمن بعدهما ابتدأت الحروب الصليبية؛ فكانت هي الشاغل الوحيد للخلفاء الفاطميين المستعلي بالله والآمر بالله والحافظ لدين الله والظافر بأمر الله والفائز بنصر الله والعاضد لدين الله، ولوزرائهم الذين لا تزال السلطة في مصر بأيديهم إلى أن انقرضت الدولة سنة 567ه في أيام العاضد لدين الله آخر خلفائها؛ فقامت بمصر حينئذ الدولة الأيوبية بظهور صلاح الدين يوسف بن أيوب.
المطلب الثاني
في استيلاء الفاطميين على مصر وتأسيس القاهرة والجامع الأزهر
قد كان استيلاء الفاطميين على مصر في عهد المعز لدين الله معد أبي تميم رابع خلفائهم بالمغرب، الذي تولى الخلافة بعد موت أبيه المنصور سنة 341؛ وذلك أنه لما كتب له أعيان مصر في التملك عليها سير إليها جوهر الصقلي قائد الجيوش الفاطمية، فانتهز جوهر فرصة الشقاق الذي كان بين الأمراء الإخشيديين، واستعد لفتوح باقي البلاد المصرية بالقوة والغلبة، فقدم مصر في شعبان سنة 358، ولما وصل الجيزة عبر الجسر ونزل في شمال الفسطاط بموضع القاهرة، وأناخ هناك بمن معه من الجند، ففتح له أهالي الفسطاط أبوابها، فتملك على المدينة في شهر رمضان من تلك السنة وأقام الخطبة للمعز لدين الله في الجامع العتيق جامع عمرو في شهر شوال من السنة المذكورة، فكان ذلك دلالة على تمام فتوح مصر، فلما تم له فتوح مصر بلا ضرب ولا طعن واستقر بها وثبت قدمه فيها أغار على بلاد الشام، وضمها إلى ممالك المعز التي كانت تمتد بأفريقيا من مصر إلى الأقيانوس الأطلانطيقي وبجزائر البحر الأبيض المتوسط، فاتسعت حينئذ دائرة ملك الدولة الفاطمية وعظمت شوكتها.
ولما استتبت الراحة والأمن بأرض مصر شرع أبو الحسن جوهر في تشييد عاصمة جديدة لها ليفاخر بني العباس ببنائهم بغداد، فأخذ في تخطيط القاهرة سنة 359 هجرية، فأدار على مناخه الذي نزل فيه بالعسكر سورا يبتدئ من حدود الفسطاط ويتجه إلى الشمال متباعدا عن الشاطئ الشرقي للنيل، ثم يتجه إلى الجنوب لغاية أسفل الجبل المقطم حتى يعود إلى حدود الفسطاط ثانيا، فكان بداخله الجهات المسكونة قبلا؛ القطائع والعسكر وطولون، وبنى بالمدينة قصرين سكنهما الخلفاء الفاطميون، وكان تمام بنائهما سنة 361ه، فعزم المعز لدين الله على ترك ممالكه المغربية والانتقال إلى بلاد مصر ليتمتع بفتوحاته، فركب البحر في أواخر شوال من هذه السنة، ونزل على سردينيا أولا ثم على صقلية وكانتا من ضمن ممالكه، وبعد أن مكث بضعة أشهر في هاتين الجزيرتين ونظم أحكامهما ارتحل إلى طرابلس الغرب، ثم سافر إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة، فدخلها في رمضان سنة 362ه، وسكنها بجميع أولاده وأهله، وجعلها مركز حكومته، واتخذ جوهرا وزيرا له، فأسس الجامع الأزهر وأسس فيه كتبخانة عظيمة، وجعله مدرسة للعلم الشريف تدرس فيه جميع العلوم النقلية والعقلية، حتى صار أشهر مدرسة في الشرق، وأبهج مكان يؤمه الناس من سائر الأقطار الإسلامية لطلب العلم، وصارت القاهرة مقر المعارف. أما المعز لدين الله فلم يمكث زمنا طويلا في عاصمة بلاده الجديدة؛ فقد توفي بها في ربيع الآخر سنة 365 وعمره خمس وأربعون سنة ونصف، بعد أن حكم ثلاثا وعشرين سنة ونصفا؛ منها ثلاث تقريبا بمصر والباقي بالمغرب، وقد كان المعز عالما فاضلا جوادا شجاعا حسن السيرة منصفا للرعية.
الفصل الثاني
وفيه مطلبان:
المطلب الأول في الدولة الأيوبية
حكمت هذه الدولة إحدى وثمانين سنة (567-648ه)، وهي تسمى أيضا بالدولة الكردية؛ فإن أمراءها أكراد، وقد كانوا قبل مجيئهم إلى مصر من قواد الملك نور الدين ابن الأتابك عماد الدين زنكي بالشام، فلما أخذت الدولة العلوية بمصر في التلاشي في أواخر أيامها، وصار استبداد وزرائها على خلفائها هرب شاور وزير العاضد العلوي بها من ضرغام الذي نازعه في الوزارة إلى الشام ملتجئا إلى نور الدين ومستجيرا به، وطلب منه إرسال العساكر معه؛ ليعود إلى منصبه، ويكون له ثلث دخل البلاد، فجهز له نور الدين الجيوش وقدم عليها أسد الدين شيركوه وسيرها معه إلى مصر، فأعيد إلى الوزارة، فعاد عما كان وعد به نور الدين، وغدر بأسد الدين واستنصر عليه بالفرنج، فالتزم أسد الدين بالعود إلى الشام، ثم أعاده نور الدين إلى مصر مع جماعة من الأمراء منهم صلاح الدين يوسف بن أيوب لما اشتد الحال بالمصريين من مضايقة الفرنج لهم؛ حيث أرسل إليه العاضد لدين الله يستغيث به من محاصرة الفرنج للقاهرة، فلما قرب أسد الدين مصر رحل الفرنج إلى بلادهم بالشام، فوصل أسد الدين إلى القاهرة، واجتمع بالعاضد لدين الله فخلع عليه، وفرح به أهل مصر، وأخذ شاور يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين، فخاف العسكر شره، فاتفق صلاح الدين مع بعض الجند على قتله، فقبضوا عليه وقتلوه بموافقة العاضد لهم، فدخل أسد الدين القاهرة وقلده العاضد وزارة مصر، ولقب الملك المنصور أمير الجيوش، فأقام بالوزارة شهرين تقريبا، ثم توفي في جمادى الآخرة سنة 564، فقام مكانه ابن أخيه صلاح الدين ولقب الملك الناصر، فتمكن من الوزارة، وضعف أمر العاضد فكتب إليه نور الدين يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية، فامتنع في أول الأمر، فألح عليه وألزمه بذلك فلم يمكنه مخالفته، فأمر بالخطبة للمستضيء بأمر الله الخليفة الثالث والثلاثين من الخلفاء العباسيين ببغداد.
وكان قد اتفق أن العاضد مرض في هذا الوقت مرضا شديدا، فانحاز إلى قصره ولم يخرج منه، ولم يعلم بما يصير في الخارج، فتوفي في يوم عاشوراء سنة 567، ولم يعلم بقطع الخطبة، فاستولى صلاح الدين على بلاد مصر، ثم ضم إليها بلاد الشام وأرض الجزيرة، فلما مات اقتسم أولاده الستة عشر ممالكه، فأخذ أكبر أولاده نور الدين علي الملقب الملك الأفضل الشام السفلى مع مدينة أورشليم والشواطئ البحرية، وجعل تخت ملكه مدينة دمشق، واستولى غياث الدين الغازي الملقب الملك الظاهر على الشام العليا، واتخذ تخت ملكه بمدينة حلب، وصارت مصر من نصيب عماد الدين عثمان الملقب الملك العزيز، وأما باقي أولاده فقد اكتفوا بما لديهم من الولايات الصغيرة، واعترفوا بالتبعية للثلاثة المذكورين، وقد استقل بجهة الكرك الملك العادل سيف الدين أبو بكر أخو صلاح الدين. غير أنهم لم يلبثوا أن وقعت بينهم المنافسة، فاتحد الملك العادل سيف الدين مع الملك العزيز سلطان مصر على خلع الملك الأفضل من مملكة دمشق، فحكم حينئذ الملك العزيز على مصر والشام، وبعد موته خلفه عليهما ابنه الملك المنصور وعمره ثمان سنوات، فكفله أولا عمه الملك الأفضل . غير أنه لم يلبث أن حضر الملك العادل وأخذ منه كفالة الملك المنصور، ثم خلع هذا من الملك وتقلده هو، فصار بيده تقريبا جميع الدولة الأيوبية؛ ففي أثناء ذلك كان الفرنج قد قويت همتهم بعد أن هزمهم شر هزيمة صلاح الدين، فهموا بالإغارة على بلاد الشام، فالتزم الملك العادل بالخروج إلى الشام لملاقاتهم، فحصلت بينهم وبينهم عدة وقائع، ثم عزم على العود إلى مصر للمدافعة عن دمياط حيث كان الفرنج أتوا لمحاصرتها، فتولى هناك قبل وصوله إلى مصر، فخلفه ابنه شرف الدين الملقب الملك الكامل، فاسترجع من الفرنج مدينة دمياط. غير أنه ترك لهم بعض مدن الشام، ثم استولى أيضا على حلب، فصار بيده جميع الممالك الأيوبية، وبعد موته خلفه ابنه سيف الدين أبو بكر الملقب بالملك العادل الثاني، فلم يلبث أن خلعه الأمراء، وولوا مكانه أخاه الملك الصالح حاكم دمشق، فلما صعد على كرسي المملكة اتخذ له حرسا من المماليك الأتراك لخوفه من هؤلاء الأمراء الذين جردهم فيما بعد من وظائفهم فبغضوه بغضا عظيما، حتى إن بعض أمراء الشام تآمروا مع الفرنج على محاربة مصر، فسافر الملك الصالح إلى الشام وتحالف مع بعض قبائل كانوا هاجروا من جهة خوارزم بسبب إغارة جنكزخان وسكنوا في شمال بلاد الشام، وهجهم بهم على الفرنج وأمراء الشام المتحالفين معهم، وأخذ منهم أورشليم ودمشق وجميع الحصون التي على الشاطئ، ثم التزم بالعود إلى مصر؛ فإن الفرنج كانوا قد نزلوا على دمياط تحت قيادة ملك فرنسا لويز التاسع.
فلما حضر الملك الصالح إلى المنصورة كان الفرنج قد تملكوا على دمياط وأغاروا على المملكة، فاغتاظ الملك الصالح ومات كمدا بعد مرض شديد، فاتفقت سريته شجرة الدر مع الأمير فخر الدين رئيس الجند ومع جمال الدين الخصي الأول بالقصر على إخفاء موته وحفظ المملكة لولده منها؛ الملك المعظم توران شاه، وأرسلت إليه بأن يحضر سريعا من بلاد الشام؛ ففي أثناء تلك المدة كان قد وقع بين المسلمين والفرنج واقعة عظيمة بجهة المنصورة انتصر فيها المسلمون بهمة المماليك بعد مقاومة شديدة، ومات فيها الأمير فخر الدين، فلما حضر ابن الملك الصالح توران شاه هزم الفرنج بعد عدة وقائع شر هزيمة بجهة فارسكور، فأسر منهم عشرين ألفا مع ملك فرنسا وأمرائه وخواصه، فبعد هذا النصر العظيم أشهر موت الملك الصالح وتولية ابنه الملك المعظم غياث الدين توران شاه، فلم يحكم سوى شهر تقريبا ثم قامت عليه المماليك في آخر محرم سنة 648 وقتلوه، فمات في عنفوان شبابه، وبموته انتهت الدولة الأيوبية الفاخرة، وابتدأت دولة المماليك.
المطلب الثاني
في ذكر الملك صلاح الدين وبناء قلعة الجبل
هذا الملك هو رأس الدولة الأيوبية، استولى على بلاد مصر سنة 567 وهو عامل لنور الدين، فلما مات نور الدين سنة 569، وخلفه ابنه الملك الصالح وعمره إحدى عشرة سنة خرج صلاح الدين إلى الشام مظهرا طاعة الملك الصالح، وأنه خرج لحفظ بلاده عليه من الفرنج واستعادة ما أخذه منه ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل من البلاد الجزرية، فاستولى على دمشق وحمص وحماة وبعلبك، ثم تخلف عما كان يظهر ورحل إلى حلب وحاصرها وبها الملك الصالح ابن نور الدين، فلم يتمكن من فتحها، بل تركها بعد أن حصل الصلح بينهما، وسار إلى مصر فدخلها سنة 572 وأمر ببناء السور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة التي على جبل المقطم.
وكان صلاح الدين كلما تغيب في فتوحاته يستعمل مكانه نائبه الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وهو خصي أبيض، كان يصدر إليه صلاح الدين الأوامر فيجريها بكل همة ونشاط، وهو الذي كلفه صلاح الدين ببناء المدارس وتصليح الجسور وحفر الترع وبناء القناطر وتشييد العمائر في القاهرة وكافة الإصلاحات التي حدثت في مصر، ومن أعظم مآثر صلاح الدين القلعة التي توجد لغاية أيامنا هذه في القاهرة؛ فإنه هو الذي أمر ببنائها، وشيد فيها دارا عظيمة جعلها محل إقامته، وحفر البئر العميقة التي بها إلى الآن المعروفة ببئر يوسف، وهي يبلغ عمقها 88 مترا ونصفا، وكان حفرها لاحتياج الخفر إليها، وقد استعمل لتلك العمائر أحجار الآثارات القديمة؛ فإنه هدم الأهرام الصغيرة التي كانت بأرض مصر، وبنى بأحجارها القلعة وسور القاهرة وبقية المباني المذكورة، ثم سار صلاح الدين من مصر سنة 578 هجرية بعد موت سيف الدين غازي والملك الصالح ابن نور الدين لما علم باتحاد أمراء الشام وأهل الموصل مع الفرنج ضده، فأغار على بلاد الشام وأرض الجزيرة، وتملك على عدة حصون بها، ثم احتل مدينة حلب وأقطعها أخاه الملك العادل، ونهب مدنا كثيرة من بلاد الشام، ثم رجع إلى أرض الجزيرة، وحاصر الموصل فلم يتمكن منها بسبب مرضه، واستقر الصلح بينه وبين صاحب الموصل بأن يسلم له صاحب الموصل شهرزور وأعمالها، وأن يخطب له ويضرب اسمه على الدراهم، فالتفت صلاح الدين حينئذ إلى محاربة الفرنج، فانقلب إلى بلاد الشام وهزم الفرنج وأخذ منهم صفورية وطبرية وعكا وقيسارية وحيفا ويافا وصيدا وبيروت وعسقلان.
ثم عزم على فتح مدينة بيت المقدس، فنزل عليها في رجب سنة 583، وضيق عليها الحصار، فاستأمنه الفرنج الذين بها فأمنهم بشرط أن يدفعوا في مدة أربعين يوما عشرة دنانير عن كل رجل، وخمسة عن كل امرأة، ودينارين عن كل طفل، ومن لم يؤد ذلك في المدة المذكورة صار مملوكا، وسلمت المدينة في يوم الجمعة 27 من الشهر المذكور، فلما فتح القدس بعث الفرنج إلى بلادهم بخبر بيت المقدس، فقام ملك الفرنسيس وملك الإنكليز وملك الألمان، وساروا إلى بلاد الشام، ونزلوا على عكا وحاصروها ثم تملكوها بعد قتال شديد مع صلاح الدين، ثم بعد عدة وقائع أخر أرسل الفرنج إلى صلاح الدين في أن يعقد معهم هدنة، فعقد معهم الهدنة على أن يستقر بيد الفرنج يافا وقيسارية وأرسوف وحيفا وعكا مع أعمالها، وأن تكون عسقلان خرابا وأذن للفرنج في زيارة القدس، ثم رجع صلاح الدين إلى دمشق فمرض بها مرضا شديدا بقي به ثمانية أيام، ثم مات بعد أن حكم أربعا وعشرين سنة وله من العمر سبع وخمسون سنة، وترك من الأولاد ستة عشر ابنا وبنتا واحدة، فتزوجت ابن عمها نصر الدين ابن سيف الدين الذي تلقب من وقتئذ بالملك الكامل، وكانت وفاته يوم الجمعة 27 صفر سنة 589، فحزن عليه جميع الشرق، واجتمع بدمشق جميع الأمراء المجاورين له لتشييع جنازته، وقد كان حليما كريما حسن الأخلاق متواضعا صبورا ذا سياسة حسنة وهيبة عظيمة وعدل وافر وغزوات كثيرة، اتفق على مدحه جميع المؤرخين من عرب وإفرنج.
الفصل الثالث
في دولة المماليك، وفيه مطلبان:
أصل هؤلاء المماليك من سكان أقاليم بحر الخزر وجبال القوقاز، فلما أغار المغول على تلك البقاع، وأوقعوا القتل والأسر في أهلها حتى شتتوا قبائلهم، هرع إليهم تجار الرقيق من كافة أنحاء الشرق، وصاروا يجلبون هذه التجارة إلى جميع أسواق آسيا الغربية، وحيث كان هؤلاء المماليك من الشبان الشديدي البنية السليمي الصحة الجميلي الصورة انتهز فرصة ذلك جميع أمراء آسيا، وصاروا ينظمونهم ضمن جنديتهم، وبالجملة كون منهم سلاطين مصر طائفة من الجندية خاصة بهم، وكانوا كثيري العدد والعدد فاستولوا على جميع وظائف الحكومة، ولم يتيسر ردعهم وإدخالهم تحت نظام، حتى آل الأمر إلى أن وقعت حكومة مصر بأجمعها في قبضتهم، وقد انقسمت دولتهم فيها إلى دولتين متميزتين بالنسبة لجنسية أمرائهما؛ فإن الأولى منهما كان أمراؤها من التركمان؛ ولذا تسمى بدولة التركمان، والثانية كان أمراؤها من الجراكسة، وأما مجرى الحوادث وسير الأمور السياسية فيهما فكان واحدا؛ وهو المداومة على الهيجان والثورات؛ فقد كانت أمراؤهما دائما في أشد المعارضة لمن يتولى الملك منهم، ولا يعرفون غير القوة التي كانوا يستعملونها في خلعه عن الملك لإقامة غيره عليه، وهكذا.
المطلب الأول
في دولة المماليك التركمان
تسمى هذه الدولة أيضا بدولة المماليك البحرية؛ لأن أمراءها كانوا يسكنون حصونا بالجزء الجنوبي من جزيرة الروضة بقرب المقياس وعلى طول الفرع الشرقي من النيل، وقد حكمت 136 سنة (648-784ه) تسلطن في أثنائها على مصر أحد وثلاثون أميرا من هؤلاء المماليك؛ أولهم شجرة الدر زوجة الملك الصالح التي استولت على الملك بعد قتل ابنها الملك المعظم توران شاه آخر ملوك الدولة الأيوبية؛ نظرا لكثرة الاضطراب الذي حصل في مصر بسبب اختلاف الأحزاب على من يبايعون بعده، وقد أشركت هذه الملكة عز الدين أيبك في الحكم معها، ولقبته بالأتابك؛ أي نائب الملك، وأحسنت السياسة في مصر وأوجدت الراحة والأمن فيها. غير أنها لم تلبث أن خرجت عن طاعتها مدن الشام التي خضعت لملك حلب، فالتزمت بالتنازل عن الملك لعز الدين أيبك وتزوجت به، ولكنه لم يلبث هو أيضا أن قام عليه بعض المماليك وجبروه على أن يقتسم الملك مع أمير من الأيوبيين عمره ثمان سنوات يدعى الملك الأشرف بن يوسف، كانوا قد أحضروه من اليمن، فاستمر في إدارة البلاد باسم أتابك. غير أنه كان بيده السلطة حقيقة، ولم يكن الأشرف المذكور إلا اسما بلا رسم، وقد نهض في خلال ذلك سلطان دمشق ناصر الدين يوسف أحد أعضاء العائلة الأيوبية للأخذ بثأر الملك المعظم توران شاه، فوقعت الحرب بين ناصر الدين والملك المعز أيبك، إلا أنها انتهت بانتصار المصريين، فوقع الصلح بينهما على أن يكون للماليك مصر وغزة وأورشليم.
ثم عزم أيبك على الاستقلال بالملك فأوقع بالحزب المعارض له؛ حزب الملك الأشرف بعد أن قتل رئيسه الفارس أقطاي وقبض على الملك الأشرف، وألقاه في السجن حتى مات، فلما استتب له المقام شرع في التخلص من شجرة الدر أيضا، فاقتنى عليها سراري أخريات، فولدت له إحداهن ولدا سماه نور الدين، ثم سعى أيضا في التزوج بابنة بدر الدين لؤلؤ ملك الموصل فاغتاظت منه شجرة الدر، وأمرت خمسة خصيان بيض أن يكمنوا له في الدهليز السري الموصل إلى دار الحريم، فخنقوه هناك بعمامته، وأشاعت أنه مات مصروعا، وقد خلفه ابنه نور الدين علي الملقب الملك المنصور، فقبض على قاتلة أبيه وعهد بها إلى نساء بيته فأماتوها ضربا بالقباقيب على رأسها، وطرحوا جثتها في خندق القلعة، فأكلت الكلاب نصفها ودفن النصف الباقي قرب مدفن السيدة نفيسة، ولم يحكم نور الدين إلا مدة قصيرة ثم خلفه سيف الدين قطوز الملقب الملك المظفر، وأصله من ذوي العائلات الملوكية؛ فقد كان ابن مودود شاه ابن أخي ملك خراسان، ووقع في رق العبودية لما تشتتت عائلته بإغارة التتار، وفي أيامه قصد التتار مصر بعد تخريبهم بغداد وقتل المستعصم آخر الخلفاء العباسيين، فخرج إليهم بجيوش المصريين، وتلاقى بهم عند فلسطين فهزمهم وكسب منهم غنيمة عظيمة، ثم قتل أثناء رجوعه إلى مصر، وتولى بعده قاتله ركن الدين بيبرس البندقداري، وتلقب أولا بالملك القاهر ثم بالملك الظاهر أبي الفتوح، وكان أشهر ملوك هذه الدولة ومن أعظم ملوك مصر قوة وشوكة، محبوبا عند الرعية فارسا مقداما، نظم أمور مصر ووسع حدودها؛ فقد انتصر على التتار مرارا وأجلاهم عن بلاد الشام وضمها إلى مصر، وكذا أرمينية، فاتصلت فتوحاته شمالا إلى بلاد الأناضول، وافتتح جنوبا بلاد النوبة وجميع وادي النيل الأعلى، وفي أيامه التجأ إلى مصر من نجا من العباسيين من رق العبودية بعد سقوط دولتهم ببغداد، وكان في جملتهم ابن الظاهر بأمر الله الخليفة الثاني قبل المستعصم، فأكرمه بيبرس وترحب به وقلده الخلافة بمصر باسم المستنصر بالله، فاستمر اسم الخلافة لبني العباس وصار مقرهم بمصر، وكانوا يلقبون بالأئمة حتى تملك العثمانيون على مصر، فأخذ ملكهم السلطان سليم هذا الاسم من الخليفة المتوكل على الله آخر العباسيين بمصر، وانقرضت حينئذ الخلافة العباسية كلية.
ومن آثار بيبرس بمصر الجامع الكبير المسمى باسمه الذي بناه خارج باب الحسينية، وقد توفي سنة 676ه بعد أن حكم سبع عشرة سنة، وترك مصر في أعلى درجة من المجد والرفعة والثروة والشوكة، وقد ترك من الأولاد ثلاثة خلفه على الملك اثنان منهم على التعاقب، ثم تولى بعدهما سيف الدين قلاوون الألفي، وتلقب بالملك المنصور، وهو الذي بنى للفقراء الدار المعروفة بالبيمارستان التي أتمها وأصلحها ابنه الملك الناصر، وفي أيامه أغار التتار على بلاد الشام، فخرج إليهم بعسكر المصريين وهزمهم ثم تغلب على مدينة طرابلس الشام وأخذها من الفرنج بعد مقاومة شديدة فهدمها وذبح أهلها، وقد خلفه بعد موته ابنه صلاح الدين خليل، ولقب بالملك الأشرف، فخرج في السنة الثانية من حكمه سنة 690ه إلى بلاد الشام، وحاصر الفرنج بعكا، وكانت آخر مدينة يمتلكونها في الشرق فتملك عليها وهدم أسوارها، ولما رجع إلى مصر لم يلبث أن خرج منها ثانيا، وأغار على بلاد أرمينية فخرب بلادها، وتملك على مدينة أرضروم، وكانت حصينة منيعة، فلما عاد بعد ذلك إلى مصر تواطأت إحدى جواريه مع مملوك له يدعى بيدارا وقتلاه بعد أن حكم ثلاث سنين، وإليه ينسب الخان المشهور بالخان الخليلي في السكة الجديدة في القاهرة، وكان بهذا المكان قبل ذلك مدافن الخلفاء الفاطميين، فبنى الخان على أنقاضها، ولما مات الملك الخليل خلفه قاتله بيدارا، لكنه لم يحكم سوى يوم واحد، ثم قتل فتولى محمد بن قلاوون، ولقب بالملك الناصر، وكان عمره تسع سنوات فجعل زين الدين كتبغا وصيا على الملك، فلم يلبث أن خلع الملك الناصر ونفاه إلى الكرك، وتولى هو الملك وتلقب بالملك العادل، ثم خلع فخلفه حسام الدين لاجين، ثم سيف الدين طفجي، ولم يحكم هذا سوى يوم واحد، ثم قتل فأعيد إلى الملك الناصر بن قلاوون، وكان عمره إذ ذاك خمس عشرة سنة تقريبا، فخرج بعد عوده إلى الملك بمدة يسيرة إلى بلاد الشام لمحاربة التتار، فانهزم جيشه أولا لكنه جمعه ثانيا وأمده بالعدد والرجال، ورجع إلى التتار فهزمهم شر هزيمة وعاد منصورا إلى القاهرة، ثم خاف على نفسه لما علم بمؤامرة أمراء المماليك ضده، فخرج من مصر مع كثير ممن يعتمد عليهم مظهرا أنه يريد الحج، وتوجه إلى الكرك وتحصن فيه، وأرسل لأمراء المماليك بأنه تنازل عن ملك مصر، فولوا ركن الدين بيبرس الجاشنكير الملقب بالملك المظفر، فلم يلبث أن حضر الملك الناصر إلى مصر ثانيا وتملك عليها إلى أن مات سنة 741، وقد أصلح مصر وبنى بها كثيرا من المدارس، وتمم البيمارستان الذي كان ابتدأ أبوه بناءه ووسعه وأوقف عليه أوقافا كثيرة، وقد ترك ثمانية أولاد ذكور تناوبوا الملك بعده الواحد بعد الآخر، إلا أن مددهم جميعا كانت قصيرة جدا خالية من الرونق والبهاء؛ فكان الواحد منهم يجلس على كرسي المملكة ثم يخلع في وقت قريب، وكان منهم الملك الناصر ناصر الدين حسن صاحب الجامع المعروف بجامع السلطان حسن الذي بالرميلة بقرب القلعة .
ولم يزل ملك مصر في عائلة السلطان قلاوون إلى آخر أيام هذه الدولة؛ فإن الأربعة ملوك الذين خلفوا أولاده الثمانية على سرير الملك كانوا أيضا من ذريته، فلما تولى الملك الصالح حاجي وهو آخر الأربعة، وكان عمره ست سنوات لم يلبث وصيه على الملك الأمير برقوق أن خلعه ونفاه، وتولى هو على السلطة الملوكية، فكان أول سلاطين دولة المماليك الثانية، وهي دولة الجراكسة.
المطلب الثاني
في دولة المماليك الجراكسة
تسمى هذه الدولة أيضا بدولة المماليك البرجية؛ لأن أمراءها كانوا على الأخص مكلفين بحفظ الأبراج؛ أي القلاع في عهد المماليك البحرية، وقد حكمت 139 سنة (784-923ه)، تسلطن في أثنائها على مصر خمسة وعشرون أميرا من هؤلاء المماليك؛ أولهم السلطان برقوق، وأصله مملوك الأمير يلبغا أحد المماليك البحرية، كان قد اشتراه سنة 762، فاعتنى بتربيته حتى رفعه إلى رتبة أمير، ولم يزل حتى صار وصيا على الملك في عهد الملكين الأخيرين من المماليك البحرية؛ حيث كان والدهما الملك الأشرف كلفه بتربيتهما، فلما كانت أيام الملك الثاني منهما، وهو الملك الصالح حاجي آخر سلاطين المماليك البحرية عزم برقوق على الاستقلال بالملك، فخلع هذا الملك ونفاه، واستقل بالملك فصار سلطانا وتلقب بالملك الظاهر، وفي أيامه كان ظهور تيمورلنك فخاف برقوق على ممالكه منه، وخرج بجيوشه إلى بلاد الشام للمحاماة عنها، فلم يقدر تيمورلنك على الإغارة عليها، فبينما كان برقوق متغيبا في بلاد الشام قام عليه الخليفة المتوكل على الله واتفق مع بعض الأمراء على خلعه من الملك ونفيه إلى الكرك، فرجع حينئذ إلى سلطنة مصر حاجي بن شعبان آخر سلاطين دولة المماليك البحرية. غير أن الأمراء لم يلبثوا أن أسفوا على خلع برقوق، فأعادوه إلى السلطنة بعد ثمانية أشهر وخلعوا حاجي بن شعبان ثانيا، فلما عاد برقوق إلى السلطنة حافظ على السلام بقية مدته، واشتغل بالتجهيزات الحربية خوفا على بلاده من التتار والعثمانيين، وكان حكمه مع العدل والحكمة؛ حتى إنه عند موته أسف عليه جميع الأهالي، وقد خلفه ابنه فرج زين الدين ولقب بالملك الناصر، فأذعن بالطاعة لتيمورلنك خوفا منه؛ حيث كان هذا الفاتح التتاري أغار في أيامه على بلاد الشام، فقام عليه المصريون وخلعوه وولوا مكانه أخاه عبد العزيز، غير أنهم لم يلبثوا أن أعادوه إلى السلطنة، فتملك على دمشق وغيرها من بلاد الشام، ثم قام عليه أحد أمراء المماليك المدعو أبا النصر، وقد كان يلقب شيخ المحمودي، فتحزب مع الخليفة المستعين بالله وحارباه فهزماه، فقبض عليه وحكم عليه بالقتل.
وبعد موته صار الخليفة المستعين بالله إماما دينيا وسلطانا سياسيا؛ أي بيده أزمة السلطة الدينية والسياسية، فتلقب بالملك العادل، وقلد شيخ المحمودي الوزارة، وأخذ في إصلاح حال البلاد وترتيب إدارتها بغيرة ونشاط، وخفف الأموال على الأهالي. غير أن شيخ المحمودي أخذ في دس الدسائس حتى جرد المستعين بالله من السلطة تقريبا وجبره على أن يشركه معه في السلطنة باسم الملك المؤيد، فاجتهد المستعين بالله في خلعه بعد ذلك فلم يتمكن، بل جاء الأمر بالعكس؛ فإن شيخ المحمودي تمكن من خلع الخليفة وانفرد بإدارة البلاد فأصلح حال الرعية، وكان خيرا عاقلا، من أحسن الملوك، محبا للعلماء، وهو الذي بنى جامع المؤيد بقرب باب زويلة، وبعد موته خلفه ثلاثة ملوك على التعاقب في مدة سنة، ثم تولى الملك الأشرف سيف الدين برسباي، وهو أعظم ملوك هذه الدولة وأجدرهم بالملك؛ فإنه كان أرفعهم همة وأشدهم عزيمة وأكثرهم تدربا في الأحكام، وأصله معتوق الملك الظاهر تتر الملك الثاني قبله، فلم يزل هذا الملك يرقيه حتى رفعه إلى رتبة أمير، ثم صار وصيا على الملك في عهد ابنه، فلما خلع هذا من الملك خلفه برسباي فأحسن السياسة واستعمل الحزم، فاستتبت الراحة وظهر الأمن في البلاد، وقد انتصر برسباي على الفرنج مرارا، وتملك على جزيرة قبرص وضرب الجزية على ملك بيت المقدس، ومن مآثره بناء جامع الأشرفية بالقاهرة، وبعد موته خلفه ثمانية ملوك لا يرى فيهم من يستحق الذكر إلا الملك الظاهر خوش قدم؛ فإنه كان من أعقل ملوك هذه الدولة وأعظمهم حكما؛ استتبت الراحة وظهر الأمن في مصر في أيامه، ثم تولى الملك الأشرف قايتباي وكان من أشهر ملوك هذه الدولة، فاستتبت الراحة في مصر، وتوطد فيها إلا من مدة الست سنين الأول من حكمه، ثم وقعت الحروب بينه وبين بايزيد الثاني ملك العثمانيين، فكان النصر في الغالب لجيوشه، فاغتاظ بايزيد وألف جيشا جرارا تحت قيادة علي باشا، ففزع قايتباي وطلب الصلح من بايزيد فلم يقبله.
وعادت الحروب بالقرب من مدينة طرسوس، وكانت الجيوش المصرية تحت قيادة الأمير الأزبكي، فانهزم علي باشا شر هزيمة، فانتهز قايتباي حينئذ فرصة نصره وتخابر مع بايزيد في أمر الصلح، فرفض ذلك بايزيد أولا ثم قبله بشرط أن ينجلي المصريون عن طرسوس وأدنة اللتين تملكوا عليهما من المدن العثمانية، وإلا دعا جميع أهالي الدولة العثمانية إلى حمل السلاح في الواقعة الآتية، فقبل قايتباي هذا الصلح مراعاة للسلام سنة 896 ثم خلفه بعد موته خمسة ملوك على التعاقب، وكانوا جميعا في غاية العجز عن القيام بالملك؛ فكان الواحد منهم يحكم بعض أشهر ثم يخلع أو يقتل، وبعد ذلك اجتمع أعيان مصر مع أمراء المماليك لينتخبوا سلطانا لهم، فانتخبوا الأمير قنسو الغوري ولقب بالملك الأشرف، وهو من مماليك السلطان قايتباي، وكان أقلهم مالا وأضعفهم حالا؛ لم يتداخل قط في أمور المملكة، فامتنع عن السلطنة أولا ثم قبلها بشرط أنهم إذا أرادوا خلعه يوما فلا يقتل، وقد اجتهد في إيجاد الراحة، والأمن في جميع أنحاء مصر، وفي تحسين إدارة البلاد، وشيد بالقاهرة جامعه المشهور باسمه الآن، فلما كانت سنة 918ه، التجأ إلى مصر كركود أخو السلطان سليم بن بايزيد بعد أن نازع أخاه في السلطنة العثمانية، فأجاره قنسو الغوري، فغضب السلطان سليم واستعد لمحاربة مصر، وكان وقتئذ في حرب أيضا مع العجم، فأراد قنسو مقاومته وتحالف مع إسماعيل شاه ملك العجم. غير أن ذلك لم يجد نفعا، بل شتت السلطان سليم جيش المصريين والعجم، ثم أوغل بجيوشه في بلاد الشام فتقابل بجيوش قنسو عند مرج دابق بقرب حلب فهزموهم، ومات قنسو في هزيمته في رجب سنة 922 بعد أن حكم خمس عشرة سنة وعشرة أشهر، فخلفه على ملك مصر ابن أخيه الملك الأشرف طومان باي، فلم يلبث أن حضر السلطان سليم إلى مصر وقبض عليه وأمر بشنقه على باب زويلة في 19 ربيع الأول سنة 923ه، فانتهت حينئذ دولة الجراكسة، وصارت مصر من وقتئذ جزءا من الدولة العثمانية.
الباب الثالث
في الكلام على الدولة العثمانية ومصر مدة حكمها، وفيه فصلان
الفصل الأول
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
في ذكر الدولة العثمانية
أصل هذه الدولة قبيلة من التركستان هاجرت من جهة خراسان تحت رئاسة سليمان شاه ابن قايا ألب أيام إغارة جنكزخان، وكان عددها 50000 نفس، فأتت هذه القبيلة إلى بلاد أرمينية واستوطنت هناك على شواطئ الفرات سنة 621ه، ثم بعد مضي بضع سنين اشتاق هؤلاء القوم إلى رؤية أوطانهم، فأزمعوا على الرجوع إليها. غير أنهم بينما كانوا يعبرون نهر الفرات غرق فيه أميرهم سليمان شاه سنة 629ه، ولا يزال قبره إلى الآن هناك، فافترق القوم حينئذ إلى فريقين؛ رجع أحدهما إلى خراسان تحت رئاسة ولدي سليمان شاه الكبيرين، وأقام الفريق الآخر بوادي أراكس الأعلى وبسهل أرضروم تحت رئاسة ولديه الآخرين دوندار وأرطغرل، وكان عدد هذا الفريق أربعمائة عائلة، فبعد أن أقام أرطغرل زمنا قليلا بتلك الجهة عزم على المسير بقومه إلى جهة الغرب ليبحث على أرض أخصب من الأرض المقيم فيها، فبينما هو سائر وإذا به قد صادف جيشين في حومة الميدان، وكان هذا الجيشان هما جيش التتار والمغول وجيش علاء الدين السلجوقي ملك قونية، فانضم أرطغرل بقومه إلى أقل الجيشين عددا ونصره على عدوه، فإذا بالجيش المنتصر هو جيش علاء الدين السلجوقي، فأقطع علاء الدين أرطغرل الأراضي الواقعة على نهر صنجاريوس وأراضي قرجه ضاغ بشرق جبل أولمبة بالقرب من مدينة أنقورة في الشمال الشرقي من قسم فريجية، وذلك في سنة 663ه، ثم زاد علاء الدين في إقطاعات أرطغرل نظرا لكونه خدمه ونصره مرارا على اليونانيين، فكانت تلك الأراضي منبع الدولة العثمانية، وبعد أن طرد أرطغرل التتار من ممالك علاء الدين وتوج نصره بفتوح كوتاهية وأخذها من اليونانيين تنازل سنة 687ه لكبر سنه عن رئاسة العساكر لولده عثمان المولود سنة 657ه، فاستمر عثمان على محاربة اليونان؛ حيث كانوا لم يزالوا يمتلكون بآسيا بعض الحصون، فأخذ منهم قره حصار وكانت حصنا منيعا، فأعطاه علاء الدين مكافأة له على أعماله جميع الأراضي التي افتتحها مع لقب بيك، وخلع عليه، وسمح له بأن يضرب الدراهم باسمه، وأن يخطب له على المنابر.
ثم لما حصلت إغارة المغول وهرب علاء الدين الثالث آخر ملوك دولة آل سلجوق ملتجئا إلى قيصر الروم تجزأت مملكته من بعده، فاستقل حكام الأقاليم فيها كل بقسمه، وكان في قبضة عثمان إذ ذاك معظم إقليم بطينية وجزء من إقليمي غلاثية وفريجية وجزء من وادي صنجاريوس الأعلى، فتلقب ببادشاه عالي عثماني، أي سلطان العثمانيين، سنة 699ه، واتخذ مركز حكومته بمدينة بني شهر، ثم أخضع باقي إقليم بطينية، وتقدم لغاية شواطئ بحر مرمرة.
وبعد أن انقطع عن الفتوحات بضع سنين لينظم أمور مملكته عاد إليها ثانيا؛ فجعل ابنه أورخان على رئاسة العساكر ووجهه لحصار مدينة بروسة، فتملك عليها بدون أدنى مقاومة سنة 726ه، ونقل إليها تخت المملكة من وقتئذ، أما السلطان عثمان فقد حضرته الوفاة وقت فتوحها فخلفه أورخان ابنه الثاني؛ لاشتغال ولده الأكبر علاء الدين بالعلوم وعدم اهتمامه بأمر الملك، فاتخذ أورخان علاء الدين المذكور وزيرا له، فكان أول من تلقب بلقب باشا، وأول مشرع في الدولة العثمانية؛ إذ بمساعدته نظم أورخان أمور المملكة الإدارية والعسكرية حتى صار يعد المؤسس للدولة العثمانية حقيقة؛ فهو أول من ضرب النقود باسمه في هذه الدولة، وأول من أسس الجيوش فيها من ينكشارية وغيرهم، وبينما كان علاء الدين يرتب أمور المملكة كان السلطان أورخان يوسع حدودها بالفتوحات، فتمم طرد اليونانيين من شواطئ نهر صنجاريوس وبحر مرمرة، وتملك على مدينتي نيكوميدية ونيسية وغيرهما من الحصون، وبنى بنيسية المدارس وتكية للفقراء، ثم تملك على إقليم برغامة وغيره حتى وصل إلى بحر الأرخبيل، وبعد ذلك مكث نحو العشرين سنة مشتغلا بتنظيم المملكة وبناء المدارس وتنشيط العلوم والعلماء، حتى صارت مدينة بروسة تخت المملكة مقرا للعلوم والمعارف، وفي ذلك الوقت كانت مملكة الروم المسماة بالدولة السفلى في غاية الانحطاط؛ قد عظم فيها الشقاق وكثرت الفتن والثورات، فأرسل ملكها قيصر القسطنطينية إلى السلطان أورخان ليستعين به على الصربيين، ويعرض عليه ابنته للزواج، فكان ذلك سببا في ازدياد طمع العثمانيين في فتوح ممالك هذه الدولة؛ حيث إن دخولهم أوروبا سمح لهم بمشاهدة اضمحلالها والوقوف على خفاياها، فلما كانت سنة 758ه عبروا بوغاز الدردنيل ليلا، وتملكوا على مدينتي تزيمبة وجاليبولي وغيرهما، ثم لما خلف السلطان مراد الأول أباه السلطان أورخان على سرير الملك زاد في الفتوحات بأوروبا وآسيا، فتملك على أدرنة سنة 762ه، ونقل تخت المملكة إليها، ووقعت جميع بلاد طراسة التي سميت بالروم إيلي في قبضته، ودخل الترك في أيامه بلاد الصرب، وتملكوا على كثير من مدنها، وبلاد البلغار، وأخذوا فيها صوفية، وأما في آسيا، فقد امتدت حدود الدولة العثمانية في أيامه إلى بلاد أرمينية، ولما خلفه ابنه السلطان بايزيد الأول تمم فتوح بلاد الصرب والبلغار، ثم وجه أنظاره للتملك على الدولة السفلى؛ فدمر تساليا وعبر الترموبيل وخرب فوسيدة وبيلوبونيزة، وهي جزيرة مورة. غير أن ذلك كان وقت ظهور تيمورلنك الفاتح التتاري الذي أرعب جميع بلاد آسيا، فدهم هذا الفاتح السلطان بايزيد بجيوشه، وهزمه في واقعة أنقورة بآسيا الصغرى وأخذه أسيرا، وتملك على جميع آسيا الصغرى لغاية إزمير، فكانت هذه الوقعة مصيبة على الدولة العثمانية، أوشكت أن تقضي عليها بالانحلال؛ فقد قامت فيها بعد موت السلطان بايزيد الحروب الداخلية نحو العشر سنين بسبب تنازع أولاده الثلاثة سليمان وموسى ومحمد الملك، حتى كادت أن تسقط المملكة، لولا أن محمدا أمكنه أن يتغلب على أخويه ويوطد سلطته على جميع ولايات المملكة، فلما خلف هذا ابنه السلطان مراد الثاني استرجع سالونيك من البنادقة أهل مدينة البندقية، وحاصر مدينة بلغراد ولكنه لم يتمكن من فتحها، وعقد هدنة لمدة عشر سنين مع الهنكاريين. غير أنهم لم يحافظوا عليها، بل عادوا إلى الحرب عندما وجدوه تنازل عن الملك لابنه محمد البالغ من العمر أربع عشرة سنة واعتكف في مينيزيه، فرجع إلى الملك وهزمهم شر هزيمة عند مدينة ورنة، ثم تنازل عن الملك ثانيا لولده المذكور، ولكنه التزم بالعود إليه ثالثا لتوطيد النظام لما ثار على ولده الينكشارية، فابتدأ حينئذ عصر جديد في الفتوحات؛ فقد استولى على قورنتة وبتراسة، وخرب بيلوبونيزة ولكنه لم يتمكن منها.
فلما خلفه بعد موته ابنه السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح فتح مدينة القسطنطينية سنة 857ه، ونقل إليها كرسي المملكة وبنى حصون الدردنيل، وهدم أسوار غلاتة من جهة البر، وأقام أسوار القسطنطينية، ونقل إليها من آسيا خمسين عائلة من المسلمين، ثم صار ينقل إليها الصناع من المدن التي يتملك عليها من أطراف المملكة، وتملك على أثينة وقورنتة وجزيرة مورة في أوروبا، وعلى مملكة طرابزون وإمارة كرمانيا في آسيا، ثم حاصر بلغراد فامتنعت عنه. ولما منعه أيضا عن التقدم شمالا الهنكاريون لمدافعتهم عن حدودهم وأهل رومانية لكثرة حصونهم بالكريات، انقلب إلى الجنوب، وأغار على ألبانيا فتملك عليها، ثم استولى على جزيرة نجربون من البنادقة، وعلى جزيرة القرم، وتوغلت جيوشه في إيطاليا، ودفعت له مدينة البندقية جزية سنوية في مقابلة حرية تجارتها في البحر الأسود، وتملك على مدينة أوترنقة على حدود مملكة نابلي، إلا أنها أخذت منه ثانيا، وأغار على جزيرة رودس ولم يتمكن من فتحها، ثم خلفه ابنه السلطان بايزيد الثاني، ولم يفتتح إلا بعض مدن في بلاد اليونان استخلصها من البنادقة، ووجه أنظاره لحرب المماليك بمصر، فخزل في حربه معهم أيضا، فلما خلفه ابنه السلطان سليم شمر عن ساعد الجد في أمر الفتوحات، فلم ينقطع عن الحرب مدة السنين الثمانية التي حكمها؛ فأغار أولا على بلاد العجم، وتملك على ديار بكر وأرض الموصل، ثم قصد دولة المماليك فدمرها وتملك على بلاد الشام ومصر، ودخل في حوزته حينئذ مكة والمدينة، وتنازل له الخليفة المتوكل على الله آخر الخلفاء العباسيين عن الإمامة، فصار أمير المؤمنين والخليفة على الدولة الإسلامية، ثم تملك على إيالة الجزائر أيضا، فعظمت شوكة هذه الدولة حيث صارت قابضة على معظم شطوط البحر الأبيض المتوسط مالئة له بسفنها الحربية، ولم يوجد في أوروبا جيش مثل جيشها المكون من الينكشارية.
ثم لما خلف السلطان سليم ابنه السلطان سليمان بلغت الدولة العثمانية في أيامه أقصى درجات المجد والرفعة ووصلت إلى غاية عظمها ومنتهى شوكتها؛ فقد كان السلطان سليمان ذا عقل وسياسة وبأس وسطوة؛ حضر ثلاث عشرة واقعة بنفسه، فأخذ بلغراد من الهنكاريين، وتملك على جزيرة رودس، ثم أخضع هنكاريا أيضا، وأخذ ملدافية من أوستريا، وأغار على بلاد العجم، فدخل بغداد وتملك على أرض الجزيرة، وضم إلى ممالكه تونس وطرابلس بأفريقيا وعدن ببلاد العرب، وبالجملة فقد كان هذا السلطان رجلا، فاضلا يحب العلم ويعظم العلماء، وكان رجلا شاعرا منشطا للعلوم والآداب، حتى صارت زاهرة زاهية في أيامه، وقد سمي بالقانوني؛ لكونه نظم أمور المملكة وأسس قوانينها، وكان أعظم الملوك العثمانيين، وبه انتهى عصر الشجاعة في الدولة العثمانية؛ فإن من بعده اعتكف الملوك العثمانيون في سراياتهم وتركوا مشاهدة الوقائع الحربية لأمراء جيوشهم، فكان هذا مبدأ انحطاطهم، وإن كانت الدولة حافظت مدة قليلة بعد ذلك على ما حصلت عليه من الفتوحات والرونق والبهاء، بل وزادت أيضا في فتوحاتها، إلا أن هذا لم يكن إلا بهمة بعض وزراء كانوا من عظماء الرجال، رزق الله بهم بعض الملوك الذين خلفوا السلطان سليمان على هذه الدولة، فحافظوا على عدم انحطاطها في أيامهم؛ ففي أيام السلطان سليم الثاني الذي خلف السلطان سليمان على سرير الملك حافظت الدولة على فتوحاتها، ودفعت لها أوستريا جزية سنوية، واعترفت لها بالسيادة على ملدافية وولاكية وترنسيلفانية، وتملك العثمانيون على بلاد اليمن، وافتتحوا قبرص من البنادقة، وفي عهد خلفه السلطان مراد الثالث أخذ العثمانيون من العجم طوريس وأذربيجان وشروان وجيورجيا، إلا أنه من هذا الحين ابتدأ قيام الينكشارية، فأخذت الدولة في الاضمحلال بسرعة، وظهر فيها زمن الفوضوية لتواصل هيجان الينكشارية وخلعهم للسلاطين وقتلهم لهم ولكبراء رجال الدولة، فأخذ انحطاط المملكة في الازدياد، وإن كان توقف برهة في عهد السلطان إبراهيم بهمة وزيره الهمام قاره مصطفى الذي ابتدأ فتوح كريد، وكذا في عهد السلطان محمد الرابع بهمة وزيريه الهمامين قبرولي محمد وابنه قبرولي أحمد؛ حيث تم فتوح كريد وفتحت أوكريفي وبودولية ودفعت بولونية الجزية للترك، وتوطدت سيادة الدولة على ملدافية وولاكية وترنسيلفانية، ولكن من هذا الوقت وقفت الدولة العثمانية عن الفتوحات بالكلية، ولم تكن حروبها إلا للمحافظة على حدودها فقط؛ فقد صارت حدودها الشمالية بأوروبا باعثا للنزاع بينها وبين جيرانها من الممالك الأوروباوية، فكانت تتركها تارة لهم وتارة تستردها منهم، حتى أضعفت قواها تلك الحروب وذهبت بثروتها فخرج من يدها معظم تلك البلاد ووصلت إلى ما هي عليه الآن.
وقد كان مبدأ هذا التجزؤ في عهد السلطان مصطفى الثاني لما انهزمت الترك على شاطئ نهر تسزا في واقعة زنطا؛ حيث التزم السلطان مصطفى بعقد معاهدة كارلووتز سنة 1110ه بينه وبين أوستريا وبولونية والروسية وجمهورية البنادقة، واشترط فيها أن تتنازل الترك عن هنكاريا وترنسيلفانية لأوستريا وعن بودولية وأوكرين لبولونية، وأن تحفظ الروسية البلاد التي تملكت عليها بشواطئ بحر أزوف، وأن تأخذ جمهورية البندقية جزيرة مورة ومعظم دلمائية، وأن تحذف جميع الجزيات التي كانت تدفعها الإمارات النصرانية، فكان هذا مبدأ عظم انحطاط الدولة، وإن كانت شمرت عن ساعد الجد في بعض حروبها بعد ذلك، واستردت بعض تلك الجهات، إلا أنه لم تأخذ ممالكها من وقتئذ إلا في التناقص؛ ففي سنة 1189ه وقع السلطان عبد الحميد علي معاهدة كاينارجي التي اعترفت فيها الترك باستقلال القرم التي استولت عليها الروسية فيما بعد، وتركت الدولة بناء على هذه المعاهدة للروسية حصون بحر أزوف والتتارية الصغرى، وسمحت لها بحرية الملاحة في البحر الأسود وبحر مرمرة، وقبلت بتجزئة بولونيا، ثم في أيام السلطان محمود الثاني الذي محا جيش الينكشارية سنة 1241ه استولت الروسية على بسارابية وشواطئ نهير بروطة بناء على معاهدة بخارست سنة 1226ه، واستقلت اليونان بعد حرب شديدة انتهت بمعاهدة أدرنة سنة 1244ه التي بناء عليها أيضا تملكت الروسية على دلتا الدانوب وصار ملدافية وولاكية يكونان لإمارة خراجية تحت حماية الروسية، ثم تملك الفرنساويون في عهده أيضا على بلاد الجزائر سنة 1245ه، وصارت مصر إمارة وراثية في عائلة محمد علي باشا سنة 1257ه، فلما كانت أيام السلطان عبد المجيد عقدت معاهدة باريس سنة 1272ه بعد حرب القرم بين فرنسا وإنكلترا والروسية وأوستريا وبروسيا وسردينيا والدولة، وبناء عليها صار محو الحماية التي كانت للروسية على إمارة ملدافية وولاكية، وصارت هذه الإمارة تحت رعاية الدول العظمى، ثم لما حصلت الحرب بين الدولة الروسية سنة 1295ه في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وانتهت تلك الحرب بمعاهدة صان ستفانو التي صار تعديلها في مؤتمر برلين في السنة المذكورة استقل بناء على هذه المعاهدة مملكة رومانية ومملكة الصرب وإمارة الجبل الأسود، وصارت بلغاريا إمارة خراجية.
المطلب الثاني
في ذكر السلطان سليم وفتوح العثمانيين لمصر
هذا الملك هو التاسع من سلاطين الدولة العثمانية، صعد على كرسي المملكة سنة 918ه، وحكم ثماني سنوات (918-926ه)، وقد تنازل له أبوه السلطان بايزيد الثاني عن الملك رغما عنه بإجبار من الينكشارية؛ وذلك أن السلطان سليم كان أصغر إخوته، إلا أنه كان محبوبا عند الينكشارية لميله إلى الحروب والغزوات بخلاف أخيه الأكبر كركود الوارث للسلطنة؛ فإنه كان مبغوضا عندهم لما يجدونه فيه من الميل إلى الفنون والعلوم، فلما رأى السلطان سليم ميل الينكشارية إليه وتعضيدهم له أقام على أبيه راية العصيان، ولم يزل يتظاهر عليه مرارا حتى التزم أبوه بأن يتنازل له عن الملك بناء على طلب الينكشارية، وقد كان هذا الملك ذا همة عالية وقريحة وقادة، شاعرا بليغا له القصائد الباهرة في الفارسية والتركية والعربية، محبا للعلم والعلماء، متيقظا لأمور المملكة، إلا أنه كان شديد البأس عظيم القسوة سفاكا للدماء، فإنه لما صعد على كرسي المملكة أراد أن يثبت قدمه فيها، فأمر بقتل أولاد إخوته، ثم قبض على أخويه كركود وأحمد اللذين نازعاه في الملك وقتلهما أيضا، وقتل سبعة من الوزراء أثناء سلطنته، وفي مبدأ حكمه أمر بقتل أربعين ألفا من الأهالي بدعوى أنهم من الشيعة، حتى كان ذلك سببا في وقوع الحرب بينه وبين إسماعيل شاه ملك العجم، فأغار السلطان سليم على بلاده بجيش مؤلف من 180000 مقاتل، وأوغل بهذا الجيش في تلك البلاد حتى وصل إلى سهل تشالديران، فتقابل بجيوش العجم هناك، وهزمهم وكسب منهم أموالا عظيمة. غير أنه التزم بالعود إلى بلاده بسبب القحط الذي لحق بجيشه وهيجان الينكشارية، ولكنه لم تخل هذه الحرب من فائدة له؛ فقد دخل تحت حكمه من ممالك العجم الكردستان وديار بكر وأرض الموصل، ثم وجه أنظاره لحرب مصر فأغار عليها سنة 922ه في عهد قنسو الغوري، فدخل بلاد الشام وتلاقى بجيوش قنسو عند مرج دابق بقرب حلب، فوقع بينهما قتال شديد، ففشل الجيش المصري لكثرة نيران الترك؛ حيث لم يكن معه من المعدات الحربية سوى الرمح والسهم، وأحدقت به الجيوش العثمانية، فانضم إلى الجيش العثماني خير بك قائد الجناح الأيمن بمن معه، والغزالي قائد الجناح الأيسر بمن معه، وبقي قنسو في القلب بمن معه، وأحاطت به الأعداء فأراد أن يهرب فسقط عن جواده وهلك تحت أرجل الخيل بعد أن قاتل قتالا تعجز عنه الأبطال، فدخلت حينئذ جميع بلاد الشام تحت حكم السلطان سليم، ولقب في الخطبة بخادم الحرمين الشريفين سنة 922ه.
وأما الجيش المنهزم ففر إلى مصر، وتجمع ثانيا تحت قيادة الملك الأشرف طومان باي الذي خلف قنسو الغوري على ملك مصر؛ فبعد أن وطد السلطان سليم سلطته على بلاد الشام سار قاصدا مصر حتى أتى الخانكاه على بضع ساعات من القاهرة، وكان طومان باي لما جمع جيوشه سار لملاقاة العثمانيين حتى أتى الصالحية وعسكر هناك، فلما بلغه أن السلطان سليم عرج بجيشه إلى القاهرة حتى قرب منها تاركا الصالحية عن يمينه عاد طومان باي بجيشه لمهاجمته من الوراء، فالتقى الجيشان قرب بركة الحج في يوم الجمعة 29 ذي الحجة سنة 922ه، واقتتلا قتالا شديدا، فأظهر المماليك بسالة عظيمة لكنهم انهزموا أخيرا لوجود المدافع عند العثمانيين، ففروا إلى القاهرة، وأما العثمانيون فعسكروا في جزيرة الروضة، فجمع طومان باي من نجوا من جيشه، وضم إليهم عددا كبيرا من العربان بعد أن أرضاهم بالمال، وهجم على معسكر السلطان سليم هجمة اليأس ، فصده الحرس السلطاني، فعاد إلى القاهرة وأغلق أبوابها وحصن شوارعها، بحيث إن السلطان سليم لم يتمكن من فتحها إلا بعد المقاومة الشديدة من طومان باي والمماليك الذين معه، فقد ثبتوا ثباتا عظيما، وأظهروا من البسالة والإقدام ما لا مزيد عليه، فلم يسلم شارع إلا بعد واقعة خصوصية له، ولم يؤخذ بيت إلا بعد حصاره، وتغطت الأرض بجثث العثمانيين، فاقتص منهم العثمانيون قصاصا فظيعا؛ فإنهم لما دخلوا المدينة أمعنوا فيها قتلا ونهبا وحرقا، وفتحوا القلعة عنوة، وقتلوا من فيها، أما طومان باي فتمكن من الفرار على معدية قطع بها النيل إلى الجيزة، ومنها سار قاصدا الإسكندرية، فأقام بالوجه البحري يناوش الجيوش العثمانية على الدوام لا يترك لهم هدنة ولا راحة، فعزم السلطان سليم على أن ينهي الأمر معه، وسار قاصدا له بأربعين ألف مقاتل، فتخلت العربان عن طومان باي، فلم يقدر على الاستمرار على المقاومة لقلة جيوشه، فالتجأ إلى أحد مشايخ العربان، فسلمه هذا بعد بضع أيام إلى السلطان سليم، فأبقاه السلطان سليم مدة عشرة أيام، وصار يجتمع به، ويسأله في أمر محصولات البلاد وخراجها وإدارتها، ثم أمر بشنقه على باب زويلة في 19 ربيع الأول سنة 923ه، وبقيت جثته معلقة مدة ثمانية أيام، ثم أمر السلطان سليم بدفنها قرب قبر قنسو الغوري، وبعد دفنه بثلاثة أيام دخل السلطان سليم عاصمة الديار المصرية ظافرا في غاية ربيع الأول سنة 923ه، وبعد يسير نزل إلى الإسكندرية في فرقة من جيوشه لوضع الحماية عليها، ثم عاد إلى القاهرة ومكث فيها إلى 20 شعبان من تلك السنة، ثم بارحها قاصدا الروملي ومعه أموال عظيمة.
ولما فتحت الديار المصرية دخل تحت حكمه أيضا الأقطار الحجازية لارتباطها بها، وقد كان بمصر من الخلفاء العباسيين وقت فتوح العثمانيين لها محمد المتوكل على الله؛ الخليفة الثامن عشر من الدولة العباسية الثانية، فرأى السلطان سليم أن يقبض على الأزمة الدينية أيضا لتوطيد سلطنته، فخلعه من الخلافة وأرسله إلى الآستانة وخصص له راتبا معينا لنفقاته، فصارت الخلافة الإسلامية للعثمانيين من وقتئذ، وأول خلفائهم هو السلطان سليم، أما المتوكل على الله فقد عاد إلى مصر قبل وفاة السلطان سليم بيسير، وعاش فيها منفردا إلى أن توفاه الله سنة 945ه، فكان هو آخر الخلفاء العباسيين.
الفصل الثاني
وفيه مطلبان:
المطلب الأول
في ذكر مصر مدة حكم الدولة العثمانية
قد دخلت مصر تحت حكم هذه الدولة سنة 923ه؛ أي بعد انتصار السلطان سليم على طومان باي وأخذه منه مدينة القاهرة، واستمر حكمها بها نحو المائتين وتسعين سنة، فصار السلاطين العثمانيون يرسلون إليها ولاة من طرفهم حائزين لرتبة الباشاوية، بل وكان أغلبهم من الوزراء.
أما أول هؤلاء الولاة فكان خير بك أحد كبار رجال قنسو الذين انضموا إلى الجيش العثماني في واقعة مرج دابق، وقد ولاه السلطان سليم على مصر بلقب باشا، ولكنه لم يصرفه في البلاد كيف شاء، بل جعل واجباته إبلاغ الأوامر السلطانية لرجال الحكومة وللشعب ومراقبة تنفيذها، وحدد سلطته بكونه ألف له مجلس شورى من ضباط الجيش الذي أبقاه في مصر، وذلك أنه أقام في القاهرة وفي المراكز المهمة من القطر المصري اثني عشر ألف عسكري؛ منها ستة آلاف من الفرسان وستة آلاف من المشاة، وجعلها ستة وجاقات تحت قيادة خير الدين باشا أحد رؤساء الجيش العثماني، وأمره أن يقيم في القلعة، ولا يخرج منها لأي سبب كان، وكان على كل وجاق ضابط يلقب بالأغا يصحبه الكخيا والباش اختيار والدفتردار والخزندار والروزنامجي، فمن اجتماع هؤلاء الضباط من سائر الوجاقات كان يتألف مجلس شورى الباشا، فلا يقضي أمرا إلا بمصادقتهم، أما هم فكان لهم أن يوقفوه عن الإجراء وأن يستأنفوا إلى ديوان الآستانة عند الاقتضا، ولهم أيضا أن يطلبوا عزله حالما يشتبهون في مقاصده، ثم لأجل حفظ الموازنة بين الباشا والوجاقات جعل على إدارة الأقاليم اثني عشر أميرا من أمراء المماليك الذين هم في الأصل أعداء لكلا الفريقين، فكانت منفعتهم السياسية تحملهم على الانتصار للفريق الأضعف ليمنعوا الأقوى من الاستبداد، وكان هؤلاء الأمراء يعرفون بالسناجق؛ فإن مصر كانت منقسمة إلى اثنتي عشرة مقاطعة حربية كل منها تسمى سنجقلية يحكمها حاكم يقال له: سنجق أو بيك يعينه الديوان (وهو مجلس شورى الباشا) من أمراء المماليك الذين دخلوا تحت الطاعة العثمانية، فكان الباب العالي يرى في اختلاط إدارة البلاد بهذه الصفة مصلحة له، وهي حفظ سيادته عليها، وإن كان ذلك يؤدي إلى ما يؤدي من القلاقل والمتاعب في البلاد، ولم يزل خير بك باشا واليا على مصر حتى أدركته الوفاة سنة 928ه؛ أي بعد موت السلطان سليم بسنتين، وكانت أيامه كلها ظلما وجورا وعانت منه الأهالي المشاق والمتاعب العظيمة.
ولما خلف السلطان سليمان أباه السلطان سليم على كرسي الخلافة العثمانية أكثر من اهتمامه بمصر وتنظيمها إداريا وماليا؛ فأنشأ بالقاهرة ديوانين تحت رئاسة الباشا الوالي يكونان مجلس شوراه؛ أحدهما يعرف بالديوان الكبير والآخر بالديوان الصغير أو الديوان فقط؛ فالديوان الصغير كان أعضاؤه من تقدم ذكرهم، وأما الديوان الكبير فكان من أعضائه أيضا القاضي الأكبر وأمير الحج ومشايخ المذاهب الأربعة والمفتون الأربعة وغيرهم من المشايخ ورؤساء الأشراف، وجعل نفسه المالك لجميع أرض مصر، فصار يفرقها إقطاعات على مزارعين يدعون بالملتزمين، لهم الحق في إقطاعهم إياها أيضا، وكان الفلاحون الذين يحرثون تلك الأراضي لهم نصيب فيها يورثونه أعقابهم، ولكنهم كانوا مجبورين على العمل فيها بدون حق التصرف بها، وعليهم خراج يدفعونه للملتزمين، فإذا توفي فلاح عن غير وارث تعطى أرضه للملتزم وهو يعهد بحراثتها إلى من شاء، وإذا مات الملتزم عن غير وارث تعود الأرض للسلطان، وكان على كل من الملتزمين والفلاحين خراج يدفعونه إما نقدا وإما عينا، فإذا تأخر الفلاح عن الدفع يمنع من نوال نصيبه، وإذ تأخر الملتزم تؤخذ منه الأرض.
وقد جعل أيضا السلطان سليمان باشاوية مصر سنوية فقط؛ أي إن الوالي لا يعين إلا لمدة سنة، ثم يعزل أو تجدد مدة توليته بفرمان جديد، فكثر تغير العمال عليها ومنع استتاب الراحة من البلاد سيما أن كثيرا من هؤلاء العمال لم يحرصوا إلا على اقتناء الثروة وجمع الأموال، فتركوا الأحكام لبيكوات المماليك حتى انتزعت السلطة في البلاد من أيديهم شيئا فشيئا وصارت لأمراء المماليك، فصار رئيسهم المدعو شيخ البلد هو أمير البلاد الحقيقي، فلم يلبثوا أن ظهرت بينهم المخاصمات، فأشعلوا نار الحرب فيما بينهم حتى صارت القاهرة مع ضواحيها مخضبة بالدماء، ولم يتداخل الولاة فيما بينهم إلا بصفة ثانوية، بل انحازوا إلى القلعة وصاروا كأنهم لم يأتوا إلى مصر إلا لينظروا نظر الناقد المتفرج تلك المخاصمات والمحاربات الشديدة التي تقع بالقاهرة، ولم يهتم أيضا سلاطين الدولة بما يقع في مصر من الحوادث حتى وهنت سلطتهم عليها شيئا فشيئا كذلك.
ومنشأ تلك الحروب الداخلية أن المماليك بمصر كانوا منقسمين إلى طائفتين؛ عرفت إحداهما بالقاسمية والأخرى بالفقارية، فظهرت العداوة بينهما في سنة 1119ه (أيام السلطان أحمد خان)، وحصلت بينهما وقائع أدت إلى وفاة قاسم عيواظ بيك رئيس الطائفة القاسمية، فخلفه في مشيخة البلد مكانه ابنه إسماعيل بيك، وأقام فيها مدة ست عشرة سنة مع السلطة التامة، ثم قتل فأعقب موته زمن فوضوية تنازع فيه السلطة جملة بيكوات الواحد بعد الآخر، وكان نزعهم إياها من بعضهم بالخيانة وفقد الحياة، وقد نبغ من بين هؤلاء الأخلاط رجل كان على جانب عظيم من الحذق والفطانة والحلم والاستقامة والعدل والشجاعة يدعى علي بيك الكبير؛ فوصل في زمن قليل بما فيه من هذه الصفات إلى أعلى مراتب الشرف والرفعة حتى تقلد مشيخة البلد سنة 1177ه، فطهر مصر من عصاتها وقطع دابر المفسدين فيها. غير أن أعداءه كانوا لا ينفكون عن الإيقاع به عند جلالة السلطان، فبينما كان يجهز جيشا مؤلفا من اثني عشر ألف مقاتل حسب أمر الباب العالي لمساعدة الدولة ضد الروسية وشى به أعداؤه إلى السلطان مصطفى الثالث بأنه يرغب الانضمام إلى الروسية لتساعده على الاستقلال بمصر، فأرسل السلطان إلى الوالي بأن يقتله ويرسل رأسه إلى القسطنطينية، فلما علم بذلك علي بيك جمع في الحال بيكوات المماليك، وأعلنوا جميعا استقلال مصر، وأمروا الوالي بأن يخرج منها في الحال، وأخذ علي بيك في الاستعداد لمقاومة الدولة، واستقل بإدارة مصر وتنظيم حالها، وخفف الأموال على الأهالي، وخطب له، وضرب الدراهم باسمه، ثم عزم على افتتاح بلاد الشام، فأرسل إليها أحد مماليكه المدعو محمد بيك أبو الذهب بجيش مؤلف من ثلاثين ألف مقاتل، فاستولى محمد بيك على جميع بلاد الشام تقريبا في مدة قليلة، ولكنه اتحد سرا مع الباب العالي ضد علي بيك فجمع من هناك جيوشا عديدة ضمها إلى جيوشه، وعاد بها إلى القاهرة لمحاربة علي بيك من قبل السلطان، فانهزم علي بيك والتجأ إلى عكا، ولكنه عاد إلى مصر في السنة الثانية بجيش مؤلف من ثمانية آلاف مقاتل معتمدا على مكاتبات وصلت إليه من بعض الجند وبعض الأمراء بالقاهرة، فعسكر بالصالحية، وهناك انتشبت الحرب بينه وبين محمد بيك، فانهزمت جيوشه حيث انضم إلى عدوه اثنان من قواد جيشه؛ وهما إبراهيم بيك ومراد بيك، وأما هو فأبت نفسه الفرار فبقي في خيمته يقاوم أعداءه المقاومة الشديدة مع ما أصابه من الجروح الجسيمة، ولم يؤخذ إلا بعد أن بقي غريقا في دمه لا يستطيع حراكا، فحمل إلى القاهرة ومات فيها بعد بضعة أيام سنة 1187ه، ثم لحقه أيضا في السنة الثانية محمد بيك أبو الذهب، فتنازع السلطة بعد هذا إسماعيل بيك من جهة وإبراهيم بيك ومراد بيك من الجهة الأخرى، ولكنه فاز بها أخيرا هذان الأخيران، فحكما مصر أكثر من عشرين سنة، فأفرطا في الظلم والعدوان، وبعد أن أفنيا أموال الأهالي التفتا إلى نهب التجار الأوروباويين القاطنين في القاهرة والإسكندرية ورشيد، ولم يجد نفعا معهما تداخل الباشا الوالي، ولم يصغ السلطان سليم الثالث إلى تشكيات الأهالي، ولم تفد تشكيات القناصل إلا زيادة الظلم والعدوان، فكتب حينئذ شارل مجالون قنصل فرنسا إلى مجلس النظار بباريس، فأرسلت حكومة فرنسا إلى مصر جيشا فرنساويا تحت رئاسة الجنرال نابليون بونابارت.
وقد كان جل قصد فرنسا من هذه التجريدة أنها تحتل بتملكها على مصر موضعا حسنا يسمح لها بتهديد الإنجليز في الهند، فوصلت العمارة الفرنساوية إلى ثغر إسكندرية في 18 محرم سنة 1213ه، وتملك الفرنساويون على هذه المدينة بعد مقاومة قليلة، ثم قصدوا مدينة القاهرة بجيش مؤلف من أربعة وثلاثين ألف مقاتل، فساروا على الشاطئ الأيسر للنيل حتى وصلوا أمام هذه المدينة بعد خمسة عشر يوما، فقابلهم مراد بيك بجيوشه وحصلت بينه وبينهم واقعة عظيمة عند إنبابة بقرب الجيزة، فانهزم مراد بيك وفر إلى الصعيد، فاقتفى أثره الجنرال ديزه أحد قواد بونابارت إلى الشلال الأول، ودخل الفرنساويون مدينة القاهرة بعد أن خرج منها الوالي مسافرا إلى الشام بعساكر الوجاقات، فجعل بونابارت على إدارة المدينة ديوانا مؤلفا من عشرة أشخاص من أعيان البلد، ثم خرج من القاهرة لتبديد جيوش إبراهيم بيك، فوصل إلى الصالحية وتملك عليها، وفر إبراهيم بيك إلى بلاد الشام، فعاد بونابارت حينئذ إلى القاهرة، ووصله في الطريق أثناء عوده خبر موقعة أبي قير التي حطمت فيها العمارة الإنجليزية العمارة الفرنساوية برمتها، وكان سبب ذلك أن إنكلترا كانت قد أرسلت منذ خروج العمارة الفرنساوية من ميناها أحد أميرالاتها نلسون في أسطول؛ ليقتفي أثر الأسطول الفرنساوي في البحر الأبيض المتوسط، ويقاومه إذا رأى منه مسا لحقوق إنكلترا، فلما علم هذا الأميرال بدخول الفرنساويين في القطر المصري حضر إلى الإسكندرية في 19 صفر سنة 1213ه، فوجد العمارة الفرنساوية راسية في خليج أبي قبر، فهجم عليها في هذا الموضع ودمرها، فصارت الحملة الفرنساوية من وقتئذ في مقام حرج.
ثم علم بونابرت أيضا أن الدولة العلية سعت إلى استرجاع مصر من الفرنساويين، وبعثت إلى أحمد باشا الجزار والي عكا أن يرسل جيشا لاحتلال العريش، فجهز حينئذ بونابارت جيشا ليس للمدافعة عن مصر فقط، بل لافتتاح الشام أيضا، فافتتح فيها بعض المدن، ولكنه لم يقدر على فتوح عكا لمدافعة الأسطول الإنكليزي عنها من البحر، فعاد إلى مصر بعد أن لحق بجيشه العذاب الأليم لما قاساه من شدة الحر والعطش، ونظرا لتعقب العمارة الإنكليزية له في البحر وتعرض العربان له في البر، فلم يلبث بونابارت بعد رجوعه إلى مصر أن بلغه خبر قدوم العساكر العثمانية إلى أبي قير ونزولها إلى البر فأسرع لملاقاتها بجيش مؤلف من ستة آلف مقاتل هزم به جيش الترك وأعدمه كلية، غير أنه بعد هذا النصر بشهر تقريبا طلب في فرنسا ليصادم أخطارا أحدقت بها، فسافر من مصر تاركا قيادة العساكر فيها إلى الجنرال كلابر أفضل قواده حزما وعقلا وهيبة وأنفة وبسالة، فاستمال هذا الجنرال الأهالي بحسن عدله وحلمه، ولكنه عرف عدم إمكان استمرار الفرنساويين على احتلال مصر، فأخذ في المخابرة مع الصدر الأعظم يوسف باشا الذي أرسلته الدولة لإخراج الفرنساويين من مصر، فعينا نوابا من طرفيهما اتفقوا على معاهدة عرفت بمعاهدة العريش؛ من مقتضاها أن الجيش الفرنساوي ينجلي عن مصر في مدة ثلاثة أشهر، ويحمل إلى فرنسا على مراكب تركية، غير أنه لم يتم أمر هذه المعاهدة؛ لعدم قبول نواب الحكومة الإنجليزية بالتصديق عليها، فعادت البغضاء بين الطرفين، وسار كلابر لملاقاة جيش الترك، فقابله بين المطرية وسرياقوس، فانهزم جيش الترك وتقهقر إلى الوراء. غير أن شرذمة منه تقدمت إلى أبواب القاهرة متبعة شاطئ النيل، فظن الأهالي أن جيش الفرنساويين قد عدم، فقاموا على من بها من الخفر، فانحاز هؤلاء إلى القلعة، فأوقع أهالي القاهرة بالنصارى القاطنين بها قتلا ونهبا، فعاد كلابر من اقتفاء أثر يوسف باشا، وحاصر المدينة وجبر الأهالي على التسليم، ولكنه عوضا عن أن يقتص منهم قصاصا فظيعا اكتفى بأن يضرب عليهم غرامات ثقيلة.
ثم بعد ذلك بمدة قليلة وثب رجل اسمه سليمان الحلبي على الجنرال كلابر وطعنه بخنجر في صدره فمات، فصارت رئاسة الجيش للجنرال مينو، فلما وجد هذا الجنرال نفسه مجبورا على أن يقاوم في آن واحد جيش الصدر الأعظم الآتي من الشام وجيش الإنجليز الذي نزل بشاطئ أبي قير وجيشا آخر أتى من الهند، وسار من القصير إلى قنا، التزم بأن يعقد معاهدة الانجلاء عن مصر، فانجلى عنها سنة 1216ه وحمل الجيش الفرنساوي بكافة مهماته الحربية من أسلحة وذخائر إلى فرنسا على مراكب إنجليزية، وبعد انسحاب الجيش الفرنساوي انسحب الجيش الإنجليزي، وبقي في مصر يوسف باشا بالجيش العثماني، فطلب قبل سفره أيضا من الباب العالي تولية خسرو باشا على مصر، فتولى هذا عليها ولكنه لم يقو على مقاومة المماليك أيضا، وكانوا تحت رئاسة عثمان بيك البرديسي ومحمد بيك الألفي، فالتزم بالخروج من القاهرة وتولى عوضا عنه بصفة قائمقام مؤقتا بإقرار من القضاة وأرباب الديوان بمصر طاهر باشا، فلاقى من المماليك أيضا ما لاقاه سلفه، واشتد الخصام في أيام حتى انتهى بقطع رأسه، فأصبحت مصر بغير وال يدير أعمالها فسنحت الفرص حينئذ للرجل العظيم المغفور له محمد علي باشا رأس العائلة الخديوية بإظهار فضائله وما اختص به من البسالة والإقدام.
المطلب الثاني
في ذكر العائلة الخديوية
رأس هذه العائلة هو الرجل الهمام محمد علي باشا، وقد ولد هذا الشهم بمدينة قولة من أعمال الروملي سنة 1182ه، من أب يدعى إبراهيم أغا، كان من ضباط تلك المدينة، فتوفي أبوه وهو في الرابعة من عمره، ثم عمه بعد أبيه بمدة يسيرة، فكفله حاكم مدينة براوسطا أحد أصدقاء والده، ورباه على استعمال السلاح، وزوجه وهو في سن الثامنة عشرة بإحدى قريباته، وكانت ذات يسار، فكان ذلك مبدأ ثروته، فاشتغل بالتجارة بالاشتراك مع تاجر فرنساوي من قولة، ونجح في أعماله؛ خصوصا في تجارة الدخان الذي كان أعظم محصولات بلدته، ثم لما جردت الدولة العثمانية إلى مصر التجريدة التي أرسلتها لمحاربة الفرنساويين بها كان من ضمن تلك التجريدة ثلاثمائة رجل صار جمعهم من مدينة قولة، فأرسلوا إلى مصر تحت قيادة علي أغا ابن والي قولة برفقة العمارة العثمانية، وكان من جملتهم محمد علي بوظيفة وكيل على هذه الطائفة العسكرية، فقدم مصر سنة 1214ه، وحضر موقعة أبي قير التي هزم فيها جيش الترك تحت رئاسة مصطفى باشا، فبعد هذه الكسرة عاد علي أغا إلى بلاده بعد أن عهد قيادة فرقته إلى محمد علي، فارتقى هذا إلى رتبة البكباشي، ثم دخل في خدمة خسرو باشا حين تقلد ولاية مصر من لدن الدولة العثمانية، ولم يزل يتقدم بسبب كفاءته إلى أن ارتقى إلى رتبة أمير اللواء، فظهر حينئذ في ميدان الظهور.
وكانت الدولة العلية قد أصدرت أوامرها إلى خسرو باشا بإبادة من بقي من المماليك بمصر وقطع دابرهم على قدر الإمكان، فجرد تجريدة وجهها على كل من رئيسيها الأصليين عثمان بيك البرديسي ومحمد بيك الألفي، فانهزمت هذه التجريدة عند دمنهور شر هزيمة، وكان انهزامها قبل وصول محمد علي ورجاله إلى الموقعة، فاتهمه قائد الحملة ونسب كسرها إلى تأخيره، وشكاه إلى خسرو باشا، فانتهز الباشا فرصة هذه التهمة، وأراد أن يفتك به لما شاهده من ازدياد نفوذه، ولكنه اتفق في ذلك الوقت قيام العسكر لتأخر صرف جماكيهم، فعمدوا إلى الثورة والهيجان، وتمكنوا من أخذ القلعة بالقوة وجبروا الوالي على الفرار منها، فتقلد ولاية مصر مكانه طاهر باشا رئيس العسكر المتمردة، ولكنه لم يمكنه أن يفي للعسكر بمطلوباتهم أكثر من خسرو باشا، فقتلوه في داخل قصره، فطلب الينكشارية تولية أحمد باشا، فلم يرغب محمد علي بذلك، وكان قد ملك القلعة ومعه رجاله الأرناءوط، فكاتب عثمان بيك البرديسي وإبراهيم بيك من رؤساء المماليك، واتحد معهما على إخراج أحمد باشا من المدينة، فأرسلوا له بالخروج منها، فلم يسعه إلا امتثال الأمر، ثم اتفق محمد علي مع عثمان بيك البرديسي على محاربة خسرو باشا، فحصره البرديسي بدمياط وأسره هناك وأتى به إلى القاهرة وسلمه لإبراهيم بيك سنة 1218ه، ولما بلغ هذا الخبر مسامع الدولة أرسلت إلى مصر علي باشا الجزايرلي ليجلس مكان خسرو باشا ويقتص من الجانين، ولكن سوء تدبيره أوقعه في أيدي المماليك فقتلوه، وفي خلال تلك المدة كان عود محمد بيك الألفي من إنكلترا، حيث كان استصحبه معه جيش الإنكليز عند خروجه من مصر أملا في تنقيص قوة البرديسي، فاجتهد محمد علي في إيجاد الشقاق بين الألفي والبرديسي ووقوع الحرب بينهما، ففر الألفي إلى الصعيد، ثم التزم البرديسي أيضا بالخروج من القاهرة لقيام العسكر والأهالي عليه، فصارت جميع السلطة لمحمد علي، واتحدت معه جميع القوة العسكرية والملكية، فأراد أن يعيد خسرو باشا لولاية مصر، فأبى الأرناءوط وذهبوا به إلى رشيد، ومنها سافر إلى القسطنطينية، فجمع محمد علي المشايخ والعلماء وتشاور معهم في تولية خورشيد باشا والي الإسكندرية ولاية مصر، فوافقوه على ذلك ، وطلبوا أن يكون هو كتخدا له؛ أي بصفة قائمقام، وكتبوا إلى الباب العالي بذلك فأقر عليه، وذلك سنة 1218ه، فاستقدم خورشيد باشا فرقة من العساكر الدالتلية أو الدلاة (نوع من الجنود الأجرية) خوفا من الأرناءوط، فأكثر هؤلاء من النهب والسلب في المدينة ولم يرجعهم خورشيد باشا، فسئمت نفوس الأهالي، فقاموا على خورشيد باشا وعزلوه، وطلبوا تولية محمد علي مكانه فامتنع أولا ثم رضي، فكتب المشايخ والعلماء بذلك إلى الباب العالي، فصدرت الإرادة السنية بفرمان يأذن له بتولية الديار المصرية سنة 1220ه.
وأما خورشيد باشا فبقي منحازا في القلعة إلى أن جاءه مندوب مخصوص من الآستانة يأمره بأن ينزل عن منصب الولاية لمحمد علي ويتوجه إلى الإسكندرية، فلما علم محمد بيك الألفي بتولية محمد علي باشا على الديار المصرية اغتم كثيرا، وتعاهد مع دولة الإنكليز على أن تساعده على خلع محمد علي، وأن يتولى مكانه على الديار المصرية وهو يسلم إليها السواحل المصرية، فاجتهد سفير إنكلترا بالآستانة في هذا الأمر، وضمن للدولة العلية مبلغ العوائد المرتبة لها على الديار المصرية بشرط إعادة طائفة المماليك بها كما كانوا تحت رئاسة محمد بيك الألفي، فأجابت الدولة العلية هذا الطلب، وأرسلت إلى مصر سنة 1221ه أسطولا وفيه موسى باشا والي سلانيك؛ ليتولى على مصر بدل محمد علي باشا، ويسافر محمد علي إلى سلانيك ليكون واليا عليها بدلا عنه، فأظهر محمد علي الامتثال لهذا الأمر، ولكن المشايخ والعلماء كتبوا محضرا إلى السلطان يعددون فيه أوجه تضرراتهم من دولة المماليك ويتلمسون به إبقاء محمد علي باشا واليا عليهم، وكانت في أثناء ذلك الوقائع جارية بين محمد علي باشا والمماليك بجهتي البحيرة والصعيد؛ فإن محمد بيك الألفي كان معسكرا بالبحيرة؛ ليتمكن من المخابرة مع سفير إنكلترا بسكندرية، وأما عثمان بيك البرديسي وإبراهيم بيك فكانا مقيمين بالصعيد، وقد أرسل قبودان باشا الأسطول العثماني يطلب من الألفي مبلغ الألف وخمسمائة كيس التي وعد بأدائها للخزينة السلطانية، فأجابه الألفي بأن طائفة المماليك ما دامت متركبة من ثلاث فرق فهو مستعد لأداء ما يخص فرقته من ذلك إذا كانت الفرقتان الأخريان تؤديان ما يخصهما، ولما بلغ عثمان البرديسي ما قاله الألفي أجاب بأن الألفي؛ لداعي كونه الرئيس الأكبر لجميع طائفة المماليك، يقتضي أن يكون هو الملزم دون غيره بدفع المبلغ المطلوب، فلما بلغ قبودان باشا خبر جوابهما تحقق الخلاف الواقع بينهما، فاستشاط غضبا وانعطف نحو محمد علي باشا وألقى سمعه لنصيحة قنصل فرنسا الذي كان يعضد محمد علي باشا، واجتهد أيضا سفير فرنسا بالقسطنطينية في تفهيم الباب العالي بحقيقة الحال، فصدرت الأوامر إلى القبودان باشا بتفويض إليه إجراء ما يقتضي مع مراعاة المصلحة السلطانية، فدخل القبودان باشا حينئذ في باب المكالمة مع محمد علي باشا، واستقر الحال بينهما على أن يصدر إلى محمد علي باشا فرمان جديد بتقريره في ولاية مصر، بشرط أن يدفع لخزينة الدولة مقدمة مبلغ أربعة آلاف كيس، وعلى ذلك سافر القبودان باشا من الإسكندرية، وبعد شهر من تاريخ سفره ورد لمحمد علي باشا فرمان التقليد الجديد سنة 1221ه، فتمكنت شوكته وصفا له الوقت؛ سيما بموت عثمان بيك البرديسي ومحمد بيك الألفي في وقت متقارب في السنة المذكورة.
إلا أن دولة إنكلترا لما رأت هبوط مسعاها لدى الدولة العلية ونفوذ دولة فرنسا لا زالت مصممة على تعضيد المماليك، فأرسلت إلى مصر سنة 1222ه أسطولا إنجليزيا فاستولى على الإسكندرية، وخرجت فرقة من الإنكليز للتملك على رشيد فانهزموا شر هزيمة، ثم مزقت جيوشهم أيضا عساكر الأرناءوط كل ممزق، فالتزموا بعقد الصلح مع محمد علي باشا، وسافروا إلى بلادهم.
ولما أجبر محمد علي باشا الإنجليز على الإقلاع من الديار المصرية التفت إلى إصلاح الأحوال الداخلية، وكان إذ ذاك قد استفحل أمر العرب الوهابية بالأقطار الحجازية، فاستولوا على الحرمين الشريفين، وقطعوا الطريق على الحجاج والمسافرين، فصدرت إليه الأوامر السلطانية بتوجيه تجريدة لمحاربتهم وتخليص مكة والمدينة من أيديهم، فاهتم محمد علي باشا بالأمر، واجتهد في إنشاء عمارة مصرية بالسويس لتحمل عساكره إلى الأقطار الحجازية، ولكنه خشي بأس المماليك وخاف شرهم بعد سفر العسكر الأرناءوط من القاهرة، فاجتهد في قطع دابرهم أولا وإهلاكهم عن آخرهم؛ ولأجل إتمام هذا الغرض دعاهم سنة 1226ه إلى قلعة الجبل لحضور تقليد ولده طوسون باشا بقيادة جيش الحجاز وعقد موكبا لهذا القصد، فلما اجتمعت جميع المماليك بالقلعة بدت إشارة فأغلقت عليهم أبوابها وضربت عليهم عساكر الأرناءوط بالبنادق من أبراج القلعة وكانوا كامنين لهم فيها، فقتلوهم عن آخرهم، ثم سافر طوسون باشا بتلك الحملة إلى ينبع، واستخلص المدينة ومكة من الوهابيين، ولكن رئيسهم سعود حضر بنفسه وحاصر المدينة، فأرسل طوسون باشا إلى أبيه فحضر محمد علي باشا بنفسه إلى الأقطار الحجازية، وعزل الشريف غالب عن ولاية الحرمين الشريفين وولى غيره، وصادف أن مات الأمير سعود، وتولى على الوهابيين ابنه عبد الله، وما كان في الكفاءة والفضل مثل أبيه، فانهزم الوهابيون في عدة وقائع، وكاد أن يفتح محمد علي باشا جميع الأقطار الحجازية، لولا أنه التزم بالعود إلى مصر سريعا لأمور مهمة؛ وذلك أنه لما فتح المدينة بجنوده كان قد أرسل الخبر بذلك إلى إسلامبول على يد رجل يدعى لطيف باشا كان متقلدا بوظيفة خزندار، فسعى هذا الرجل عند أرباب الدولة بالإيقاع بمحمد علي باشا وتعهد بقلعه عن منصبه إذا كانت الدولة تساعده، فصغت الدولة إلى طعنه وأرسلته إلى مصر وبيده خط شريف بتقليده ولايتها، فلما حضر إلى مصر أظهر هذا الفرمان وقت تغيب محمد علي باشا في الأقطار الحجازية، ولكنه قبض عليه في الحال وقتله محمد لاظوغلي كتخدا محمد علي باشا، وكان نائبا عنه في ولاية الأمر بمصر في مدة تغيبه، وكانت الدولة العثمانية أرسلت إلى الإسكندرية في ذاك الوقت أيضا أسطولا عثمانيا لتأييد سلطتها على مصر؛ فهذا الذي أوجب عود محمد علي باشا سريعا من جزيرة العرب، فلما حضر إلى مصر أخذ في تشييد الثغور المصرية وتجهيز المعدات الحربية، وأراد أن يؤسس عساكره على النظام الجديد نظام جند أوروبا، فعارضه في ذلك العساكر بالقاهرة، ولا سيما الأرناءوط، حتى آلت المعارضة إلى ثورة في القاهرة شاع خبرها في الحجاز مع المبالغة.
وكان طوسون باشا لم يزل بتلك الأقطار، وقد وقع على شروط بينه وبين أمير الوهابية عبد الله بن سعود من جملتها أنه يرد إلى الضريح النبوي الشريف ما سلبه الوهابية من الأسلاب، فترك طوسون باشا في المدن الكبيرة ما يلزم من العساكر المصريين المحافظين وعاد إلى مصر، فلم يلبث أمير الوهابية أن فسخ ذلك العقد، ولم يعمل بمقتضى الشروط التي عقدها على نفسه، فعزم محمد علي باشا على معاودة جهاده بالثاني، فأرسل إليه تجريدة تحت رئاسة أكبر أولاده إبراهيم باشا، فمزق هذا طائفة الوهابيين كل ممزق، ودخل تحت طاعته عدة من قبائل العرب، واستولى على عدة حصون، وأسر أمير الوهابية عبد الله بن سعود، وأرسله إلى مصر، ومنها أرسل إلى القسطنطينية، فقتل هناك، ثم عاد إبراهيم باشا إلى مصر بجميع عساكره، وقد لقبه السلطان بوالي مكة فعظم قدره وارتفعت مكانته.
ولما أنهى محمد علي باشا الحرب في بلاد العرب عزم على افتتاح السودان وإخضاع قبائل النيل الأعلى حتى تكون عساكر الأرناءوط بعيدة عنه دائما؛ ليتمكن من تدريب العساكر على النظام الجديد وإصلاح حال البلاد، فأعد لذلك حملة عسكرية قلد رئاستها لولده الثالث إسماعيل باشا، فسافر هذا القائد بتلك التجريدة إلى بلاد السودان سنة 1235ه، واستولى على جميع بلاد سنار وكردفان وفازوغلي، ولكنه فشا الوباء في عسكره فعاد إلى شندي، فمات فيها محروقا.
أما محمد علي باشا فعاد إلى تدريب الجند على النظام الجديد ؛ فأسس مدرسة عسكرية في الخانكاه، وجعل سراية مراد بيك في الجيزة مدرسة للفرسان، وأنشأ مدرسة للطوبجية، وبنى في سكندرية ترسخانة لعمارة السفن، وأسس فيها مدرسة للبحرية، ثم التفت إلى نشر الزراعة، فأدخل بمصر زراعات مختلفة أهمها زراعة القطن، وأكثر من غرس الأشجار لترطيب الجو، وأخذ في تمهيد سبل التجارة فحفر ترعة المحمودية التي توصل مياه النيل إلى الإسكندرية، لتحمل عليها التجارة من هذه المدينة وإليها، وأنشأ جملة معامل لانتشار الصناعة، وأسس مدرستي الطب والأجزاجية ومستشفيات كثيرة، ومدارس لتعليم الشبان المصريين، وقسم القطر المصري إلى مديريات على كل منها حاكم يعرف بالمدير، والمديريات إلى مراكز وأقسام على كل منها مأمور. ومن أعماله المهمة أيضا تشييد القناطر الخيرية على رأس الدلتا سنة 1251ه؛ وبالجملة فقد أخذت مصر في أيامه في نشأة أخرى، ودخلت في عصر جديد من التمدن.
وبينما كان محمد علي باشا مشتغلا بتلك الإصلاحات الداخلية، إذ أرسلت إليه الدولة العلية أن يبعث مقدارا من العساكر المصرية لإخضاع بلاد اليونان؛ حيث كان أهلها أقاموا على الدولة راية العصيان، فأعد محمد علي باشا تلك الحملة تحت رئاسة إبراهيم باشا، وسافرت من مصر سنة 1239ه، فاستتبت الراحة في كريد واضمحلت المورة وإن لم تخضع كلية.
وكانت الدولة العلية قد وعدت محمد علي باشا بأن تقلده بولاية البلاد اليونانية التي يعيدها لطاعة الدولة العثمانية. غير أنها لم تعطه إلا ولاية كندية أي كريد فقط، فتطلع لأخذ ولاية الشام بدل المورة التي التزم ولده إبراهيم باشا بتسليمها، ولم يلبث أيضا أن حصل الخلاف بينه وبين عبد الله باشا والي عكا؛ وذلك أنه لما عصى عبد الله باشا على الدولة العلية، وتوسط محمد علي باشا في العفو عنه وعوده إلى منصب الولاية، كان قد التزم بدفع مبلغ ستين ألف كيسة تقدمة لخزينة الدولة العثمانية، ولما لم يكن هذا المبلغ في حوزته استلف من محمد علي باشا نحو الخمس منه، فمضى عليه أكثر من عشر سنوات ولم يرده، فلما كانت حرب المورة اضطر محمد علي باشا إلى أن يطلبه لاحتياجه إلى نقود يعد بها الحملة المتوجهة إلى بلاد اليونان، فلم يكد يجيبه عبد الله باشا إلا بجواب واه جدا، وزاد على ذلك أن ساعد على تهريب البضائع من الجمارك بجهة حدود الشام من الديار المصرية، وأعان الفارين من الفلاحين المصريين على أن يتركوا أوطانهم الأصلية ويستوطنوا بالجهات الشامية، ولما عرض محمد علي باشا هذه القضية على الباب العالي أجابه بأن كلا من الشام ومصر من الولايات السلطانية بحيث يستوي لدى السلطان أن رعاياه يقيمون في أيهما شاءوا، فرأى محمد علي باشا أن يخاطب والي عكا آخر مرة بخصوص طلب رعاياه، فأجابه بجواب ممتلئ من الكبر والعظمة، فشرع حينئذ محمد علي باشا في تجهيز تجريدة إلى بلاد الشام سنة 1247ه.
وسافرت التجريدة في البر والبحر من جهة العريش والإسكندرية، وكان على الأسطول المصري إبراهيم باشا رئيس التجريدة، فنزل بيافا واجتمع بجيش البر، واستولى في أقرب وقت على غزة ويافا وحيفا، ثم سار إلى عكا وتملك عليها أيضا بعد أن حاصرها ستة أشهر برا وبحرا، وأسر فيها عبد الله باشا، وأرسله إلى الإسكندرية، ثم سار قاصدا دمشق فاستولى عليها، وبارحها إلى حمص، والتقى هناك بالجنود العثمانية التي كانت تحت قيادة محمد باشا والي طرابلس فهزمها شر هزيمة واستولى على حمص، فخافت سوريا سطوة هذا القائد العظيم، فسلمت له حلب وغيرها من مدن الشام، فبعث الباب العالي حسن باشا السرعسكر بجيش عثماني لإيقاف إبراهيم باشا، فلاقاه إبراهيم باشا عند إسكندرونة وانتصر عليه، فلما رأى السلطان محمود انهزام العساكر العثمانية أرسل السرعسكر محمد رشيد باشا بجيش عرمرم، فلما علم إبراهيم باشا بهذا الخبر قام بجيوشه من أدنة وقصد مضايق الطوروس، فدخل في سهول الأناضول وعسكر بجيشه في قونية منتظرا قدوم السرعسكر، فلما قدم هذا بجيشه الجرار اقتتل الجيشان فانهزم العثمانيون، ووقع السرعسكر أسيرا في قبضة إبراهيم باشا، ثم سار إبراهيم باشا حتى وصل إلى كوتاهية على مقربة من القسطنطينية، ففزع حينئذ السلطان محمود وطلب المساعدة من الروسية، فأرسلت له عشرين ألفا من الروسيين، فتداخلت الدول إذ ذاك في الأمر، وعقدت مع إبراهيم باشا معاهدة كوتاهية سنة 1248 التي من مقتضاها تقليد محمد علي باشا بولاية الشام مع مصر وتقليد ولده إبراهيم باشا بولاية إيالة أدنة والحرمين الشريفين.
أما الدولة العلية فقد أسرت أنها تنتقم لنفسها من محمد علي باشا متى وجدت فرصة ذلك، فصارت تجتهد غاية الاجتهاد في إعادة النظام لقوتها العسكرية وسفنها البحرية، وأخذت تحث الشاميين على العصيان، فلما أمر محمد علي باشا بجمع العساكر من جميع شبان سكان الشام ظهرت الفتن بجميع نواحي جبل لبنان، فاجتهد إبراهيم باشا في إخمادها. غير أن الدولة العلية كانت قد وجدت المهلة الكافية لتنظيم جيوشها، فجهزت جيشا عظيما تحت قيادة السرعسكر حافظ باشا زحف به إلى الجهات الشامية، فالتقى العسكران بجهة نصيبين (وهي نزيب عند الإفرنج)، فانهزمت الجيوش العثمانية وتقهقرت إلى مرعش سنة 1255ه، واتفق أن مات السلطان محمود في ذلك الوقت وتولى مكانه على كرسي السلطنة العثمانية السلطان عبد المجيد، فتوسطت الدول الأوروباوية دفعة ثانية بين الدولة العلية والحكومة المصرية، فأنفذت إلى محمد علي باشا معاهدة لوندرة الموقع عليها من دولة الإنجليز والدولة الفرنساوية ودولة الروسية ودولتي النمسا والبروسية التي من مقتضاها أن يكون له ولاية مصر مع مزية التوارث في عائلته وولاية عكا لمدة حياته فقط، فلم يقبل بها محمد علي باشا، فحضر الأسطول الإنجليزي إلى بلاد الشام، وتملك على بعض مدنها، ثم حضر إلى مصر وتهدد الإسكندرية، فرأى محمد علي باشا أن الأولى الإذعان إلى رأي الدولة. غير أن الدولة العلية امتنعت من أن تعطيه غير ولاية مصر الوراثية؛ لما رأت من تعضيد دولة الإنجليز لها، فأصدر له السلطان المعظم سنة 1257ه فرمانا بولايته على الديار المصرية والأقطار السودانية مع حق الوراثة عليها لعائلته الخديوية، وتقرر الخراج السنوي ستين ألف كيسة، وأن لا يزيد الجيش المصري عن ثمانية عشر ألف عسكري يلبسون نفس ملابس العساكر العثمانية، وأن كل وال يتوارث الحكومة المصرية يلزمه أن يحضر إلى الآستانة العلية ليتقلد بالوظيفة من يد الذات السلطانية.
ثم استعمل محمد علي باشا مدة السنوات الأخيرة من ولايته في حسن إدارة البلاد وترتيب مصالحها الداخلية، والتفت بالخصوص لإصلاح أحوال الزراعة والتجارة والصناعة، ولكن كان ثقل الكبر قد ظهر عليه وضعفت قواه العقلية، فوكل مباشرة إدارة الأمور إلى ولده إبراهيم باشا واعتزل في سرايته حتى توفاه الله سنة 1266ه في عهد ولاية حفيده عباس باشا، فتوفي في سكندرية بسراي رأس التين، وحملت جثته إلى القاهرة فدفنت بالقلعة بمسجده الذي بناه في جزء من موضع السراي التي كانت لصلاح الدين.
ولما ضعفت قوى محمد علي باشا العقلية واعتزل بسرايته تقلد بولاية مصر مكانه من لدن الحضرة السلطانية ولده إبراهيم باشا الذي ولد له بمدينة قولة بعد زواجه بقريبة حاكم مدينة براوسطا بسنتين، فتولى إبراهيم باشا سنة 1264ه في حياة أبيه، ولكنه كانت منيته قريبة فتوفي بالقاهرة سنة ولايته بعد أن حكم بضعة أشهر، ودفن في مدفن العائلة الخديوية بجوار الإمام الشافعي.
وقد تقلد بولاية مصر مكانه ابن أخيه عباس باشا ابن طوسون باشا ابن محمد علي باشا، وكان مولده سنة 1228، وكان جده يعزه كثيرا، فاعتنى بتربيته، ولما قبض على زمام الأحكام بمصر سار على مقتضى العدل والتبصر، فحافظ على النظام واستتباب الأمن والراحة في جميع أنحاء البلاد، وسهل طرق التجارة بأن مد بين القاهرة والإسكندرية أول خط من خطوط السكك الحديدية بمصر، وأصلح الطريق بين القاهرة والسويس، وأنشأ الخطوط التلغرافية، وأسس المدارس الحربية بالعباسية، ثم توفي في سرايته ببنها العسل سنة 1270ه، ودفن بالقاهرة في مدفن العائلة الخديوية.
فخلفه عمه محمد سعيد باشا رابع أولاد محمد علي باشا، وكان مولده سنة 1237ه، فأجرى كثيرا من الإصلاحات والتعديلات المفيدة لإدارة البلاد، فعدل الضرائب، واسترجع الأطيان من الملتزمين إلى أربابها، وطهر ترعة المحمودية، وأتم السكك الحديدية والخطوط التلغرافية التي ابتدأها سلفه، وساعد كل المساعدة على مشروع حفر قنال السويس، ثم توفي بسكندرية سنة 1279ه، ودفن بها.
فخلفه إسماعيل باشا ابن إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا، وكان مولده سنة 1246ه، فبذل ما في وسعه لامتداد التجارة وازدياد الصناعة وتمدن البلاد؛ فملأ أرض مصر بالسكك الحديدية والخطوط التلغرافية، وحفر الترع ومد مجاري المياه بشوارع القاهرة والإسكندرية، وأضاء شوارعهما بالأنوار الغازية، ووسع فابريقات السكر التي أسسها سعيد باشا بالوجه القبلي، وأسس معمل الورق ببولاق ومعامل البارود والأسلحة الصغيرة بقرب طرة ولكنه لم يستعملها، وأنشأ الكتبخانة الخديوية التي بدرب الجماميز والمتحف المصري الذي كان ببولاق، ونقل الآن بسراي الجيزة الخديوية، وابتنى المباني الفاخرة كالأوبرا الخديوية بالقاهرة وتياترو زيزينيا بالإسكندرية وغير ذلك، وساعد على انتشار الزراعة، ونظم المدارس على أساسات وطيدة وأصول متينة، وأسس المحاكم المختلطة للنظر في الدعاوى بين الأجانب والوطنيين، وافتتح قنال السويس بالطريقة الرسمية بحضور جم غفير من أمراء وملوك أوروبا، وفي سنة 1282ه نال من الباب العالي خطا شريفا يأذن له بأن تكون حكومة مصر وراثية في عائلته مباشرة، وفي السنة التالية نال من إنعام جلالة السلطان عبد العزيز لقب خديوي، وهو أول من نال هذا اللقب الذي هو أرفع رتب وزراء الدولة، ثم جاءه في سنة 1290ه الفرمان الشاهاني يخول له كل الحقوق المعطاة لرتبة الخديوية؛ وهي حقوق الوراثة لأول أبنائه، والاستقلال بالأحكام الإدارية، وعقد المعاهدات مع الدول الأجنبية، واستقراض القروض، وزيادة الجيش أو تقليله بحسب اللزوم، وتقدير الجزية التي تدفع للدولة بمبلغ 150000 كيس.
ثم إن الأعمال التي أجراها إسماعيل باشا بمصر، وإن كانت أفادت البلاد بهجة ورونقا، وعادت عليها بالمنافع التجارية والصحية، إلا أنها كلفت الحكومة مصاريف لا قدرة لها عليها، فاضطرت إلى أخذ السلف من الدول الأجنبية، حتى أوجب ذلك تداخل تلك الدول في أمور المالية، فالتزم إسماعيل باشا بتسليم إدارة البلاد إلى مجلس نظار دخل فيه عضوان أجنبيان أحدهما فرنساوي والآخر إنجليزي، ثم رغب التخلص منهما، فأسقط تلك الوزارة وأبدلها بوزارة كلها وطنيون، فكان ذلك باعثا على إقالته من الحكومة المصرية، فتنازل عنها سنة 1296ه لأكبر أولاده أفندينا المعظم محمد توفيق باشا المولود في سنة 1269ه.
فلما قام بأعباء الملك هذا الخديوي المعظم ذلل جميع المصاعب الخارجية والمعضلات الداخلية بحزمه وعزمه، وابتدأت مصر في أيامه في أن تدخل في دور جديد من السعادة وحسن الرفاهية بعد تخليصها من ديونها بواسطة قانون التصفية، ومع حصول الحوادث المهمة والخطوب المدلهمة أثناء ولاية جنابه العالي؛ كالثورة العرابية والحروب السودانية والأمراض الوبائية، المعلوم تفاصيل ذلك كله بما يغنينا عن بيانه هنا، فإنه لم ينفك عن إصلاح البلاد ورفاهية العباد، وتشييد دعائم الأمان في أنحاء البلدان، وتنظيم المالية والإدارة والعسكرية؛ فأسس مجلس الشورى، وأمر بإنشاء المحاكم الأهلية ليخرج أهلها من الاستبداد ورق العبودية، وقد خفف الضرائب على الأهالي، وأمر بتقسيط الأموال الأميرية على أقساط عديدة بحسب مواسم المحصولات؛ رغبة منه في تسهيل دفعها على المزارعين، وقد أنشأ كثيرا من الترع والطرق الزراعية لتسهيل المواصلات التجارية وازدياد ثروة البلاد، وشيد كثيرا من المدارس، وسن لها اللوائح والقوانين التي من شأنها تحسين حالة التعليم وترقي المعارف، وخصص المبالغ الوافرة لتحسين حالة الكتبخانة الخديوية، وقد ألغى العونة أي السخرة التي كانت حملا ثقيلا على عاتق المصريين من عهد الفراعنة إلى الآن، وله كثير من المآثر البهية والأخلاق المرضية، والفضائل العديدة والمناقب الحميدة، التي لا يسع هذا المختصر تفصيلها، ثم أدركته الوفاة، رحمة الله عليه، فمات وهو في سن التاسعة والثلاثين من عمره في يوم الخميس 7 جمادى الآخرة سنة 1309ه/7 يناير سنة 1892م عقب مرض مكث به سبعة أيام، فخلفه على كرسي الحكومة المصرية أكبر أنجاله أفندينا المعظم عباس باشا حلمي الثاني خديونا الحالي المولود في غرة جمادى الآخرة سنة 1292ه/14 يوليو سنة 1874م أيد الله تعالى ملكه بالعز والإقبال، وأدام أيامه مكللة بالخير والفلاح، مؤيدة بالفوز والنجاح، آمين.
अज्ञात पृष्ठ