नफहात रेहाना
نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة
مَن لي بهيفاءَ أذكتْ من تباعدها ... في القلبِ نارًا ولم تسمحْ لمُضناهَا
واهًا لها من فتاةٍ إن رنتْ فعلتْ ... ما ليس يفعله الهِنديُّ عيناها
ومن جيِّده قوله في الخال:
قال لي من غدا إمامَ أولِي الفضْ ... لِ ورَبَّ المباحثِ الفلسفيهْ
إنَّ عندي بُرهانَ حقٍّ على نفْ ... يِ الهيولى والصُّرةِ الجِسميهْ
قلت ما هو فقالَ شامةُ حبِّي ... قد غدتْ وهي نقطةٌ جوهريهْ
قلت: هذا جارٍ على رأي المتكلمين في الرد على الحكماء، من أن إثبات النقطة يستلزم نفي الهيولى والصورة، وقد حاول محاولةً عجيبة.
ومثل هذا الاستعمال - أعني استعمال ألفاظ أهل الكلام والهندسة والنحو - مما قال فيه ابن سنان الخفاجي: ينبغي أن لا يستعمل في الكلام المنظوم والمنثور.
قال: لأن الإنسان إذا خاض في علمٍ، وتكلم في صناعةٍ، وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة. ثم مثَّل ذلك بقول أبي تمَّام:
مَودَّةٌ ذهبٌ أثمارُها شَبَهٌ ... وهِمَّةٌ جوهرٌ معروفها عرَضُ
قال ابن الأثير، في المثل السائر: وهذا الذي أنكره هو عين المعروف في هذه الصناعة:
إنَّ الذي تكرهون منه ... هو الذي يشتهيه قلبي
فقوله: إن الإنسان إلى آخره، مسلَّمٌ إليه، ولكنه شذَّ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدةً من كل علمٍ وطلِّ صناعةٍ؛ لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى، وهذا لا ضابط له يضبطه، ولا حاصر يحصره.
وقال ابن المعتز، في كتاب البديع: مما يعاب على الشعراء استعمال ألفاظ الحكماء، كالكيمياء، والسَّيمياء، والهَيولَى.
ولعله كان معيبًا في الصدر الأول، لأنه لو يُؤلف استعماله، وعلى أمثالنا لا يعاب؛ لشيوعه، بعد نقل كتب اليونان إلينا؛ فإن اللفظ قد يعدُّ فصيحًا عند قومٍ دون آخرين.
ألا ترى أن أبا هلال قال في كتابه الصناعتين: الوحشيُّ يعاب على القروِي دون البدوي، الذي هو لغته؛ لأنه معروفٌ عندهم. وهذا مما أطلقه أرباب المعاني فاحفظه.
يوسف البديعي
أديب للبديع من القول منسوب، وواحدٌ بألفٍ من البديع محسوب. أطلع الكتاب باسقًا، ووافى به درًّا متناسقًا. وكان خرج من دمشق وعوده طري، وشرابه سائغ مري. لم تتقشَّع غمامته، ولم تذبل كمامته. وعلى قدر جماله، رزق حظًّا من كماله.
فدخل الشهباء وناسها أولئك الناس، يومئذٍ توددٌ وإيناس. فتبسمت له خلائقهم عن شفاه الصباح، وكأنما هي الرياض باح بسرها نفس الصباح.
وحسن في أعينهم حسن الحور، ووقع من قلوبهم وقع الوطر. وما برح أمره يروق ويحسن، حتى خطبته القلوب وهتفت به الألسن.
فصدح بشعره مترنِّمًا في ناديهم، ونال بهم مغانم من أياديهم. وجلب لهم درَّ الكلام، فحلب منهم دَرَّ الكرام.
ولما وافاهم ابن الحسام متوشِّحًا بالقضاء، وخليفةً للسيف في المَضاء. وله البسالة التي تقتنص شوارد المعالي وتفترس، في الأريحية التي يحتمي بها الأمل من الخطوب ويحترس.
ووزنه بميزان الاختبار، فألفاه حريٍّا بالاعتبار. فنوَّه به، واعتنى بأدبه.
وولِيَ الشام فصحبه ملتحفًا بالخطوة، وواقفًا من تقربه بتلك الربوة. ودخل بعدها الروم لخدمته، وتقلب دهرًا في خصائص نعمته.
وباسمه ألَّف من كتبه ما ألَّف، وجارى في حومة السبق من تقدَّمه فما تخلَّف. وهو في الأدب ممن ملك البيان عنانًا. وهصر من فنونه المتنوعة أفنانًا. إن نثر فالدُّرُّ المنثور انفصم نظامه، أو نظم فما اللؤلؤ المشهور نسَّقه نظَّامُه. وله في الفوائد الفرائد، ما تنتقيه لأوساط القلائد الخرائد.
وقد رأيت جملة من بدائعه فتنزَّهت في حدائق ذات بهجةٍ، ورويت ظمآن سمعي من فوائده، وموارده العذبة اللَّهجة.
وها أنا أورد له ما يغازل الجفون الوسن، وتأبى محاسنه إلا أن تذكِّر بيوسف الحسن. فمن ذلك قوله:
رويدًا هو الوجدُ الذي جلَّ فادحُه ... وقد بعدتْ ممَّن أُحبُّ مطاوحُهْ
هوًى تاهتِ الأفكارُ في كنهِ ذاتِه ... ومتنُ غرامٍ عنه يعجزُ شارحُهْ
أقيكَ الرَّدى هل أنت بالقربِ منجِدٌ ... أخا دَنَفٍ لاحت عليه لوائحُهْ
1 / 54