112
مناجاته كلُّها سكَّرٌ وأرْي، وفكاهاته ملؤها شبع ورِيّ. وقد عبثت به يد اللأْواء، فصيَّرته طوع مقتضيات الأهواء. فحاله أضيق من فم الحبيب، وأشدُّ غصَّةً من يأس الطبيب. إلا أنه وإن أرهقه الدهر بصرفه، ونبَا به كأنه سهادٌ في طَرفه. فصفحته يُغشي العيون ائتلاقُها، وشيمته ما غير المكارم اعتلاقها. وله شعر جاش به خاطره، فجاء كزهر الرياض فاح عاطره. فمنه قوله: ثنيْتُ عِنانيَ من فتيةٍ ... يرونَ من العارِ علْمي وكُتْبي وكانُوا صِحابِي على زَعْمهمْ ... وكلُّهم قد تهيَّا لحرْبِي فأعرضتُ عنهم لهم قالِيا ... ولم آلُ جُهدًا بشتمٍ وسَبِّ وإذْ ذاكَ لو هتفوا بي هَلُمَّ ... لما كنتُ يا صاحِ ممَّن يُلَبِّي وقوله: لأقول لأهيفٍ أضْحى بقلبي ... مُقيمًا باختيارٍ وانْقيادِ أيَا حُلوَ اللَّمى واصِل مُحِبًّا ... ولا تقصِد مُحِبَّك بالبعادِ وبرِّدْ غُلَّتي بالوصلِ إني ... أخاف عليك من حَرِّ الفؤادِ وقوله: سقيًا لموقفِنا العشيَّةَ بالحِمَى ... نشكو الغرام ولفظُنا الألحاظُ وعواذلي لما تشابَه أمرُنا ... هجَعوا أسًى لكنهم أيْقاظُ فكأنَّنا المعنى المُرادُ لطافةً ... وكأنَّهم في ضِمْنِها ألفاظُ وله من قصيدة، مطلعها: لك لا لغيرِك في البريَّة أعشقُ ... يا مَن به ثوبُ الحشَا يتمزَّقُ يا مخجلَ القمرِ المنيرِ وفاضح الظَّ ... بي الغريرِ لك الجمالُ المشرقُ إني أضعتُ جميعَ عمري رغبةً ... في أن يرى لي من ودادك مَوثقُ يا من به أضحى فؤادي راتعًا ... في روضةٍ بجمالهِ تتنمَّقُ وغدا لساني ناطقًا في حبِّه ... بمدائحٍ تعلو ومدحٌ يشرقُ يا عاذلي في غير حبِّك مطمعٌ ... كلاَّ ولا قلب يميلُ فيعشقُ أُمسي وأصبحُ في هواك بمقلةٍ ... تندى وقلبٍ من جلالك يخفقُ بالله يا فردَ الورى في حسنه ... ارحم فريدَ هواك فهو الأليقُ وتلافَ قبل تلافهِ فلقد غدا ... في نزعِ ثوبِ الإصطبارِ يفتِّقُ واسألْ مضاجعةَ الضَّنى ورفيقه ... أعنى النحول ترى الهوى وتصدِّقُ ومن مقاطيعه قوله: وقالوا الذي تهواه أصبح هاجرًا ... وقد كان قدمًا واهبًا لنوالهِ فقلتُ لهم ماذا يضرُّ لأنني ... شغلتُ به عن هجرِه ووصالهِ قوله: شغلت مضمَّن من قول بعضهم: وقائلةٍ أنفقتَ عمرَك مسرفًا ... على مسرفٍ في تيهه ودلالهِ فقلتُ لها كفِّي عن اللوم إنني ... شُغلتُ به عن هجره ووصالهِ فصل ذكرت فيه طائفةً تتلو تلك، من الشعراء الذين كل منهم لزينة الحياة درَّة سلك. قد جمعني وإياهم الزمان والمكان، وأراهم خلفوا من دخل في خبر كان، على أبدع ما في الإمكان. وهب الله لهم أعمارًا بقدر ما يرضيهم، ولا أعدمني التمتُّع بآدابهم على تنائي أراضيهم. وكفانا ما نرجع إليه من تجازي النِّيَّات، إنه العالم بالخفيات، والمطَّلع على ما تتكافى به الطويَّات. عبد الرحمن بن إبراهيم الموصلِي هو في الميدان سابقٌ طلقٌ عنانه، وكأنما حُشِر الصَّواب بين بيانه وبنانه. من ملأٍ رتعوا بأنضر خميلة، وبذلوا ما شاء السَّماح من عارفةٍ جميلة. مكانه في السُّراة ذروة التَّمام، وليديه في الجود آثار الغمام. لا يتبوأ إلا ظلَّ الكرامة الأندَى، ولا يبيتُ إلا حيث المحلَّق والنَّدى. وقد متَّعني الدَّهر برهةً بحضرته، فتقلَّبت معه في بهجة العيش ونضرته. وسمعتُ لفظًا غذاء الرُّوح، وشاهدتُ خلقا فيض الملائكة والروح. إلى تثبُّتٍ يستخِفُّ الجبال الرَّواسي، وانعطافٍ يلين القلوب القواسي. وأنا من ذلك العهد لا أفتر عن تذكُّره بخاطري، وأتمثَّل شخصه في ضميري حتى كأنَّه حاضري. وله أشعارٌ كلَّها نكت للمتملِّي، وملح للذيق المسْتحلي. وفيه نخبٌ للفتَّاك، وسُبحٌ للنُّساك.

1 / 112