كانت أوامر كهذه تهبط عليهم دائما، وكأنها أوامر السماء! تفكيرهم الوحيد هو كيف ينفذونها وبأكمل وجه، كأنه كان يخاطب خشبا مسندة هذه المرة! صحيح أنهم تفرقوا يجهزون ما أمر به، ولكنهم كانوا كأنهم فقدوا الإيمان بما يقول.
ولقد تم كل شيء كما أراد، وربط الأورطي بعيدا عن أجزائه المتهرئة، واستؤصل الباقي مع الورم، وامتد الجرح إلى الفخذ، واقتطعت من شريانه أوسع قطعة وصل بها الأورطي، ودار كل هذا ولا أحد يكاد يصدق أنه يدور، فكأنه يحدث في منطقة وراء العقل، أو انقلبت الحجرة بهم إلى فندق تحول فيه الواقع إلى كابوس، والأشخاص والأشياء إلى رموز، والجو ملبد مشحون.
وكان الجميع - وربما بما فيهم الأستاذ نفسه - يتوقعون أن تنتهي السيدة قبل أن تنتهي العملية، ولكن أغرب شيء أنها رغم كل ما نزفت وضاع من الدماء، رغم ضغط دمها الذي كان كالبندول يتأرجح، ويقترب عشرات المرات من منطقة العدم، والقلب الذي كان ينبض، ثم يكاد يكف ليعود ينبض، رغم كل هذا لم تمت مع إدراكهم جميعا والعلم معهم أنها لا بد أن تموت، إلا أنها - وكأنما سخرية بهم - لم تمت. ولعل هذا هو الذي شجع الأستاذ في الثالثة، وبعد العملية التي استغرقت خمس ساعات طوال أن يقول: اللي علي عملته، وما كانش يخرج من إيد أي جراح في العالم أنه يعمل أكثر م اللي عملته. إنما حنعمل إيه بقى لوزارة الصحة؟
فالمستشفى في رأيه خال من الخيوط الحريرية ذات السمك المضبوط، والإبر أصغر مما يجب، وغرفة العمليات ليس بها أجهزة تكييف هواء تساعد على هدوء الأعصاب. - واهو كده أو كده كان الورم حايموتها، يبقى العلم اللي كسب؛ فمصر كسبت عملية عمرها ما اتعملت، وعملية ناجحة قدامكم أهه، والست لسه عايشة أهه، ولو كانت الإبر مضبوطة والخيط مضبوط كانت تعيش عشرين سنة كمان، إنما حظها كده. •••
والحقيقة أن لا الإبر ولا الخيوط ولا أجهزة التكييف هي السبب، والسيدة ما زالت لم تمت - هذا صحيح - ولكن الدم يتسرب من مكان الوصلة وبكميات ضخمة؛ فليس هكذا توصل الشرايين بالشرايين، فالطريقة خاطئة والفكرة من أولها خاطئة، والخطأ ممتد وبادئ من اللحظة التي قرر فيها أن يحيل عملية الاستكشاف إلى عملية استئصال كبرى، بل الخطأ - هكذا يدرك عبد الرءوف الآن - يمتد إلى أبعد، إلى ذلك اليوم الذي أصبحت الجراحة عند أستاذه تزاول من أجل الجراحة، وأصبحت العمليات وأصحابها وهم غالبا من الفقراء الذين بلا حول، ميدانا لإثبات القدرة والأستاذية.
7
الشيء الذي لم يعمل له حسابا قط هو الذي يحتل عقله الآن تماما، ليست هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها ميتا يحتضر أو يسمع ذلك الشخير المتصل، ولكنها الأولى التي يعايش الموت فيها ليست معايشة متفرج، ولكنها معايشة متأمل مترقب ليرى متى وكيف تكون النهاية، أو بالأصح نهاية النهاية. وكلما تأمل وترقب وانتظر أحس أنه يغوص أكثر وأكثر في التجربة، حتى بدا وكأنه هو نفسه يعاني نزعات الموت، ولكن حب الاستطلاع يعود يجذبه ويعود يعيش المشهد بكل خلجاته ليرى كيف بالضبط يموت الناس. وإذا كان المشاهد في المسرح أو السينما، وهو يعرف أن ما يراه خيال في خيال ينتفض انفعالا في انتظار النهاية، فما بالك والمشهد هنا حقيقي، والموت فيه حقيقي؟ واسم النهاية معروف، ولكن طريقة حدوثها شيء لا يمكن أن يعرف أحد كيف تحدث. أنت هنا لا تضطرب بين اليأس والأمل! إنك تحفر بتفكيرك وترقبك في أعمال اليأس لتصل إلى منتهاه، وكأنك تتوقع أن تموت هذه السيدة الطيبة التي أسلمتهم نفسها بثقة فيهم وفي عملهم ما بعدها ثقة بطريقة لم يسبقها إليها أحد، ما دامت قد اجتازت هذه العملية الكبرى وعاشت بعدها وبطريقة لم يسبقها إليها أحد.
ولم يدرك أنه الآخر قد بدأت تنهد فيه أشياء وتموت مثل الجسد الواهي المسجى أمامه إلا متأخرا. هذا الشهيق المتباعد يبدأ ببطء، ويصل إلى منتهاه ببطء ليندفع بعده الزفير فجأة مرة واحدة. هذا التنفس الغريب الذي يسبق الوفاة، والذي طال أمده وامتد وانتظم حتى أصبح كالنبض، وانقلب من دليل مؤكد على الموت القادم إلى نبض منتظم، ليس نبض الحياة، وإنما نبض الموت ودقاته تهوي كل نبضة منه كالمطرقة الخرافية البشعة تهد وتسحق الجسد غير الواعي، ولكن الأهم أنها أصبحت تهوي عليه نفسه، وعلى مراكز الحياة فيه فتتهدم وتهوي وتتساقط، حتى أصبح وكأنما كلما أمعن في انتظار لحظة النهاية اقشعر بدنه، مخافة أن تأتي معها بنهايته هو الآخر.
وكالفأر الذي أطبقت عليه المصيدة مضى بكل ما يملك من قدرة على الهرب يستنجد بالخيال، وبأحداث اليوم، وب «انشراح» وجسدها الفائر، ولكن الذكريات والخيالات وحتى الحقائق نفسها كانت تهرب منه، وتفر من حضرة أخلد حقيقة عرفها الإنسان - الموت - أقوى الحقائق كلها، الأقوى حتى من حقيقة أنك حي.
وكالاستغاثة الأخيرة ترك مقعده، واتجه إلى حيث تجلس «انشراح»، ووضع يده على كتفها، ليجد أن جسدها هو الآخر يرتعش وكأنها هي الأخرى قد بدأت تحتضر.
अज्ञात पृष्ठ