حينذاك وبعد أن شاهدت سقوط المرتبة اللحد، حتى مستقرها الأخير، نظرت الزوجة من النافذة، وأدارت بصرها في الفضاء وقالت: يا إلهي! لقد تغيرت الدنيا.
معجزة العصر
قال لي صديقي الذي لم أره من عشر سنوات، والذي كان مقدرا أن أنقذه:
هذه المرة، هل رأيت معجزة العصر؟
بلا دهشة سألته: أية معجزة؟
لم يجب، ولم نضيع الوقت في التخمين، وكأن اتفاقا بيننا. لف ذراعه حول ذراعي وجذبني وتبعته صامتا، حاولت أن أعرف إن كانت المعجزة هي الوصول إلى القمر، أو ظهور المهدي المنتظر، فكاد يغلق فمه تساؤلا، قائلا: لا تخمن فلن تستطيع أبدا إدراكها، ولو عرفتها من تلقاء نفسك لكانت معجزة العصر أنك عرفتها.
وبحماس جذبني بقوة أكبر، وبعد خطوات كنا على البلاج. كانت الدنيا شتاء، والشمس صفراء تسقط شعاعاتها المريضة على الرمل، فيبدو مجرد لون أنيمي شاحب، جو تتوقع أن يكون البلاج معه فارغا غير أنك تفاجأ به عامرا مزدحما، وكأننا في أغسطس، الناس مكدسون على الرمال بالأكوام، والباعة ينادون على جيلاتي طوبة، وسحلب بئونة بدندرمة أغسطس. ولو أغلقت العين لحسبته مجرد خطأ في ورقة النتيجة؛ فأصوات الصيف هي هي، وصخب الأطفال هو هو، حتى ذلك الإحساس الخاص بالصيف، ذلك الذي تحس وكأن الحياة به أكثر حلاوة كان موجودا. إذا غضب الله على قوم أمطرهم صيفا، فماذا يكون موقفه تجاههم إذا جعلهم يصيفون في الشتاء؟ من الممتع أن تشحذ عواطفنا مشاكل الظواهر الكونية، فحين أسخط على الدنيا تهطل الأمطار، وحين أحظى برضاء حبيبي تشقشق في الكون ملايين من عصافير الكناريا، وإذا كرهت جاري أطبق على المدينة ضباب، حتى لا تكاد ترى - وأنت واقف على بابك - باب جارك. والجار أولى بالشفعة، إلا جاري الذي لم أره من يوم أن قطنت عمارتنا؛ فكلانا وحيد، وكلانا في المدينة المزدحمة قد فقد الونس، حتى أصبح الازدحام مجرد حبل معقود يهدد احتواء رقبتك، فأنت مرعوب منه، وخائف حتى النخاع. نفس الإحساس الذي شعرت به، وازدحام البلاج يحويني، كتل من اللحم البشري مقسمة إلى أذرع مختلطة وسيقان. ويا لمشهد الجسد البشري بعد العشرين حين يكتنز بالشحم، وتبرز له الكروش ويبدأ التفكير في صبغ الشعر أو توزيعه ليغطي الصلعة! حتى الجسد يهجرك ويهرب منك. وفي هذه الوحدة المزدوجة لا بد أن يهزم الإنسان سريعا؛ فنحن كائنات أرضية لا تنمو بصحة إلا معا، إلا كمحصول واحد، فإذا ما زرع كل نبات منا بمفرده أكله «الفلت» وخنقته الطفيليات.
أتكون المعجزة هي الحصول على دواء يشفي الغربة ويعيد جمع الناس؟ باء تخميني أيضا بالفشل، وفقدت عين الحكمة مع أن الحكمة ثرثرة، لا بد حسب قوانين التباديل والتوافيق أن ينتظم بعضها على هيئة أقوال رائعة النضج، ولكني سعيد وكأن مجرد رؤيتي الموشكة للمعجزة سيسلحني بطاقية إخفاء أو بخاتم سليمان قادر على تحقيق المطالب. الغريب أن الزحام لم يكن ازدحاما للتجمع، كان تجمعات للتفرق؛ فكل مجموعة مكدسة بكليتها إلى شيء مشترك يخصها وحدها، أو ربما تبحث لنفسها هي الأخرى مثلما نبحث عن معجزة عصر، فأنت تقبل على تجمع يشبه من بعيد شكل الكازينو الذي أقيم على عجل، ولكنك حين تقترب لا تجد كازينو أو حتى مكانا للجلوس؛ فالناس إما وقف منحنون أو في حالة رقاد، والكل في شغل عنك بما يبدو وكأنه مأساة داخلية طاحنة. لا أحد يلتفت إليك، الأيدي تلوح في عصبية، والنقاش حاد كطلقات الرصاص، وبعضهم بمجهود عظيم يضع يديه الاثنتين معا على فمه محاولا أن يكتم الضحك فلا يستطيع، وتكون النتيجة أن تفلت الضحكة رغما عنه. حسبت الصديق يضحك، ولكنه كان يتوقف ويتطلع حوله، ثم يحاول أن يخفي نفاد صبره، والعرق رغم الهواء الساقع قد نبت على جبينه، والحيرة الكبرى تتملكه، ويأسه شامل، يكاد لولا الحياء أن يستنجد بالناس، ويسألهم أين الطريق لمعجزة العصر!
حسبته يضحك، ولكنه كان، فجأة يلكزني ويشير إلى كازينو قريب قائلا وقد تهللت ملامحه، وكاد يقفز منها الأمل: وصلنا.
ولم تكن فرحتي هذه المرة لأننا نوشك أن نصل، فرحتي كانت لأننا نوشك أن نصل إلى كازينو، حيث نستطيع الجلوس وشرب الماء المثلج والشاي بعد هذا الكدح الطويل من الشاطبي إلى سيدي بشر والمنتزه.
अज्ञात पृष्ठ