وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل (البقرة: 127)، لكن ربما كان أخطر ما قرره القرآن الكريم بشأن النبي الخليل، هو أنه المؤسس الأول لملة الإسلام، وإعلانه السافر والمتحدي:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (آل عمران: 67).
وبذلك قطع القرآن الكريم بشأن النبي إبراهيم، وقصته في القرآن الكريم معروفة، لا تحتاج إلى مزيد شرح أو تفصيل، إلا أن الأمر فيه إشكالية دعت إلى بحثنا هذا «وربما إشكاليات»؛ فالتوراة تصر من جهتها على الصمت المطبق إزاء ما أعلنه القرآن الكريم حول علاقة النبي إبراهيم ببلاد العرب الحجازية، فلم يرد لهذا الأمر أي ذكر في التوراة المتاحة بين الأيدي اليوم، وهو بحد ذاته مدعاة للتقصي إزاء ما ورد في الإسلام عن علاقات حميمة وأساسية وجذرية للنبي إبراهيم بجزيرة العرب وديانة الإسلام، خاصة مع علمنا أن التوراة قد انتهت كتابتها قبل تسعة قرون من الميلاد في بعض أسفارها، في أبعد تقدير وقبل قرن واحد من الميلاد، في أقرب تقدير لأسفار أخرى؛ بمعنى أنها قد حازت في معارف الإنسان قصب السبق، مما يدعو للوقوف مع مسألة هبوط النبي إبراهيم عليه السلام بلاد الحجاز، وجهل التوراة بهذا الأمر، بغرض الوصول إلى المصداقية، حسب مقررات المنهج العلمي، وما تتطلبه شروط هذا المنهج الصارمة من قرائن وأدلة، لدعم الرؤية الصادقة. ومن هنا سنضطر إلى التأني مع قصة التوراة عن الخليل، وبحثها بحياد العلم، علها تكشف لنا في الأمر أمرا، وهذا بحد ذاته سبيل وعر، وعروج محفوف بالمحاذير والصعوبات، وربما كان قطع القرآن الكريم في الأمر مدعاة للتساؤل حول جدوى مثل هذا البحث أصلا!
لكن وجه الإشكال لا يقتصر على عدم إشارة التوراة لزيارة النبي الخليل إلى البلاد الحجازية، فهناك تفاصيل أخرى عديدة، وردت في القرآن الكريم ولم ترد في التوراة. وأمثلة لها قصة تكسير النبي إبراهيم لأصنام قومه، أو مثل قصة إلقائه في النار، أو مثل خلافه مع أبيه حول صادق العقيدة، أو مثل حواره مع الملك المذكور في التراث الإسلامي باسم «نمروذ». وفي المقابل نجد تفاصيل هائلة بالتوراة لم ترد بالقرآن الكريم، ولا يفوتنا هنا أن نذكر: أن القس المبشر «د. ف. ب. ماير» لم يجد حرجا في الاستفادة من الروايات الإسلامية، رغم عدم ورودها في التوراة، فيقول عن النبي إبراهيم: «وإذا صحت الروايات التي تقال عنه، وهي بلا شك تستند إلى شيء من الصحة، إن لم تكن كلها صحيحة، تبين لنا أنه منذ البداية كان يتصف بأخلاق غير عادية، وتتضمن هذه الروايات أن إبراهيم لما كان شابا، قاوم - بعنف - تيار الشر الذي جرف إلى لججه كل البلاد، بل غمر بيت أبيه أيضا (لاحظ أن ذلك الكلام لم يرد به أي نص توراتي، والإشارة من عندنا)، ثم إنه أشهر في وجه تلك الممارسات الشريرة سلاح الهزء والسخرية، ثم إنه كان كلما رأى تمثالا حطمه، وكان يأبى أن يجثو للنار، وهذه الروايات لا تستند إلى أية إشارة في الكتاب المقدس، على أنه من الناحية الأخرى لا توجد فيه أية إشارة تنفيها.»
5
تأسيس (2)
لكن يظل التساؤل: وما الداعي لبحثنا هذا؟ ومن ثم نرصد مزيدا من الدواعي والدوافع، فرغم الاختلافات بين التوراة «المسلم بها من جانب المسيحيين كمقدس» وبين الإسلام؛ فإننا نجد الأديان الثلاثة «اليهودية والمسيحية والإسلام» في جانب، وعلم التاريخ في جانب آخر؛ حيث نجد هذا العلم لا يعلم من وثائقه الأركيولوجية والآثارية شيئا البتة عن النبي إبراهيم، ورغم اتفاق القصة التوراتية مع قصص الإخباريين المسلمين حول موطن النبي إبراهيم الأصلي، والتي تقول: إنه هاجر من موطنه الأصلي في بلاد الرافدين إلى فلسطين، وأنه زار مصر زيارة مهمة وخطيرة، و«كانت هذه الزيارة لمصر أساسا للثروة الطائلة التي تمتعت بها ذريته فيما بعد» فيما يقول المستر «ماير»، فإنه لم يعثر حتى الآن على أي دليل آثاري، سواء كان كتابة أو نقشا، أو حتى نقش يقبل التفسير، أو في نصوص تقبل - حتى - التأويل يمكن أن يشير إلى النبي وقصته سواء في آثار وادي النيل، أو آثار وادي الرافدين، على كثرة ما اكتشف فيهما من تفاصيل ووثائق.
وهذا بدوره سبب كاف لدعم دوافع باحث مهتم، كي يضع المسألة كلها قيد البحث، خاصة أن عدم معرفة علم التاريخ بهذا النبي رغم حضوره الكثيف في الديانات الثلاث، قد أدى ببعض الباحثين إلى حسبانه شخصية أسطورية، لا تمت لعلم التاريخ بصلة، حتى إن هذا البعض قد احتسب جميع قصص البطاركة القدامى مجرد قصص خرافية لا ظل لها من حقيقة، وقام منهم من يدلل على أن أسماء هؤلاء إنما كانت أسماء لشخصيات إلهية في عبادات قديمة، وأن أساطيرها كانت متداولة قبل التوراة في القصص الأسطوري لبلاد كنعان، وأن العبريين عندما جاءوا أرضهم وورثوها، ورثوا معها تراثها، فوجد هذا التراث طريقه إلى التدوين في التوراة، كقصص لأنبياء بني إسرائيل. بينما يشير آخرون بخصوص النبي إبراهيم إلى أسطورة باسم «براما» كانت واسعة الانتشار قبل ظهور العبريين، وعرفت في بلاد إيران والهند وما حولها، وأنها أصل عقيدة «براهما» الهندية، وأن العبريين بدورهم قد تبنوا هذه الأسطورة وحولوها إلى شخصية إنسانية، واحتسبوا «براما» جدهم البعيد، تأسيسا على منهج التدين القديم، القائم على تقديس الأسلاف.
1
وكان عدم وجود الدلائل التاريخية مدعاة لأن يقول باحث مثل «فلهلم رودلف»: إن حفاوة القرآن الكريم بالنبي الخليل ترجع إلى محاولة النبي محمد
अज्ञात पृष्ठ