لم يبطر الربح المادي سليم ولا أنساه هيفاء، بل كتب إليها مرارا قبلما نشبت الحرب، ثم انقطعت أخبار هيفاء، ولم يعد يعلم من أمرها إلا قليلا، وآخر ما علمه عنها أنها تستعد للامتحان النهائي لنيل الشهادة المدرسية، ثم دخلت أميركا الحرب، فلم يعد يعلم من أمرها شيئا، إنما علم أن أخاها محمدا انضم إلى الجيش التركي، وأرسل إلى ميدان القوقاس، ثم انقطعت أخباره عن الأهل، فخامرت والديه الهموم والأحزان، وضعفت همة والده، وعجلت الكآبة عليه الشيخوخة، فانقطع عن العمل، ولزم بيته يفكر في مصير وحيده، ويلعن الساعة التي نشبت فيها الحرب، ودعي فيها محمد إلى الجهاد.
وذهب في أحد الأيام، وقد أخذ منه الحزن كل مأخذ إلى دمشق، يستفهم عن نجله من رجال الجندية هنالك، وكان كلما حادث فريقا يشكو إليهم همه ويلوم الدولة لدخولها هذه الحرب التي أقفرت الدور، وخربت البلاد، وجرت على الناس الرزايا والويلات، وحدث أنه كان سائرا ذات يوم في أحد الأسواق، فرأى جماعة من اللبنانيين وقد عضهم الجوع، وجار عليهم الدهر فلجئوا إلى دمشق علهم يجدون فيها ما يسد الجوع ويدفع المكروه، وكان بين هؤلاء رجل عرفه يوسف الهلالي وهو ابن نعمة لم تقو رجلاه على حمله، فوقع على الأرض مغميا عليه، فتقدم يوسف الهلالي ليرفعه عن الأرض، وإذا بجندي دنا منه قائلا: «دع أيها الشيخ، هؤلاء الكلاب يموتون جوعا، فإنهم خونة ملاعين.» فنظر إليه الشيخ شذرا، وقال: «دع عنك هذه الأقوال يا بني، فإن مرض الدولة القتال هذا التعصب الذميم، ولولاه لما كنا في أسوأ حال، ولما تفرقنا طرائق وتمزقنا شيعا وأحزابا، فما ذنب هذا المسكين فتميتونه جوعا، أما إنه لو عرف السلطان بما تفعلون لأمر بعقابكم أشد عقاب.» ثم هم برفع الرجل الجائع فلطمه الجندي، وقال: خذ هذا جزاؤك على عملك هذا، ورفس الآخر رفسة أفقدته الرشد، وتركته لا يعي شيئا، وسار كأنه لم يفعل شيئا.
أطار هذا العمل صواب يوسف الهلالي، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: «اللهم ارحم هذا المسكين واجز بعدلك الظالمين.» وكان على مقربة منه رجل عرف بالمداهنة والرياء، فاغتنم هذه الفرصة، وسار توا إلى أقرب نقطة للبوليس، وشكا أمر يوسف الهلالي، وقال: إنه سب الدولة ورجالها الكرام، ولعن الساعة التي نشبت فيها الحرب، وجرت الناس إلى البلاء، واستشهد ببعض المارة الذين رأوا يوسف الهلالي يساعد ذلك الجائع البائس المسكين، الذي رق له قلبه فأحسن إليه، فلم يكن إلا بضع دقائق حتى رأى يوسف الهلالي بعض رجال البوليس يحيطون به، فظنهم أولا قادمين لمساعدته وإنهاض ذلك البائس الذي رثى لحاله ورق له قلبه؛ إذ تصور مصير وحيده، وما قد يكون حل به في أرض الغربة وما فيها من مصاب وبلاء، ولكنه دهش؛ إذ رأى الجنود يقتربون إليه دون اكتراث بذلك الرجل البائس الذي تركوه بين حي وميت، واقتادوا الهلالي إلى السجن وتركوه فيه لا يعرف له ذنبا، ولا اهتم أحد أن يعرف من أمره إلا أنه خائن مفسد شرير.
مضى عليه ساعات وهو في سجنه لا يعلم لذلك سببا، وظن أن ذلك الجندي الجبان شكاه إلى الحكومة خوفا من أن يسبقه هو في الشكاية، فأخذ يزعق وينادي «العدل» «العدل يا ناس.» فكان يحمل كلامه على غير محمل، وكلما سمعه واحد ظن أنه ثائر أو أنه خائن يستحق أشد العقاب.
ودخل عليه السجان بعد برهة وبيده كرباج، فقال: ما لك يا شيخ السوء تزعق وتزعج الناس بهذا العواء؟ وهم بضربه، فقال: «صبرا» إما أن أكون أنا مجنونا أو جن الناس أجمعون.
قال: لا بل أنت المجنون؛ ولهذا ترانا مجانين. فقل لي ما أمرك؟ فأنا أراك ذاهلا لا تعلم ما أنت فيه، ولا تفهم سوء مغبة ما تقول.
قال: هل يلام في عرفكم من يحسن إلى الناس؟ قال: بل يكافأ على الإحسان بمثله. قال: وهل السجن جزاء الإحسان؟ قال: لا، بل هو عقاب المجرمين. قال: إذن لماذا أنا مسجون، فإني قدمت أسأل عن ابني وهو جندي من جنود الدولة الأمناء، فرأيت رجلا مسكينا سقط أمامي من الإعياء والجوع، فانحنيت لأرفعه عن الأرض وأساعده، وخيل إلي أن ابني قد يكون بحالة مثل حالته، فيجد من يعينه وينصره كما أعنت هذا البائس المسكين، وإذا أنا بجندي لطمني على خدي، ثم رفس الرجل رفسة مؤلمة، وتركني ذاهلا ألعن الساعة التي قست فيها القلوب وماتت فيها الضمائر، وإذا أنا بالجند يطوقني، وأقاد إلى السجن ذليلا مهانا، فهل أنا في يقظة أم في منام؟ فطالما جئت «للشام»، فلم أر مثلما رأيت، ولا عوملت كما عوملت هذه المرة، بل نحن نحب أهل دمشق الذين اشتهروا باللطف والدعة وحب الضيافة والعطف على الغريب، ولم أر في حياتي ولا سمعت أن أحدا عومل في دمشق كما عوملت.
فرجع السجان إلى الوراء مذعورا، وأحس أن هنالك غلطة ارتكبت، ولكنه لم يكن يملك أمرا بإطلاق سراح ذلك الشيخ البريء، الذي ظهر له أنه ضحية وشاية وسعاية، أو أن هنالك من يريد أن يوقع به الأذى، فكاد الدمع ينهمر من عيني السجان، وخرج دون أن يرى الهلالي ما به من تأثر، وسار إلى غرفته يفكر فيما آلت إليه الأحوال، وكيف يظلم الأبرياء، وليس في وسعه إلا أن يكون منفذا لأوامر رؤسائه، فود لو أن في استطاعته إطلاق سراح الشيخ، ولكنه خشي أن يكون في الأمر جريمة توقعه تحت طائلة العقاب، فانتظر ريثما يرده علم من المراجع العليا. وفي اليوم التالي دخل على الهلالي ضابط كبير، وقال: «من تكون؟» فقال: أنا يوسف الهلالي من قرية العمروسة، وقد جئت أستفهم عن ابني، وهو جندي من جنود مولانا أمير المؤمنين، فرأيت رجلا مسكينا واقعا في الطريق، فمددت إليه يد المساعدة، فقادني الجند إلى هذا المكان، وأنا لا أعلم لي ذنبا، قال: بل ذنبك عظيم، فأنت متهم بسب الدولة ورجالها والتفوه بألفاظ تعد جريمة عظيمة؛ لأنك تثير الكراهية في نفوس السامعين.
قال: يا مولاي صبرا، فما أنا إلا شيخ طاعن في السن لم أتدخل في السياسة في حياتي، ولولا وجود ابني في الجندية لما جئت إلى هذه المدينة زائرا، وهل يعاقب - يا مولاي - رجل أحسن إلى رجل بائس؟ قال: كلا! بل يكون مثل هذا رجلا كريما. فأشرق وجه يوسف الهلالي، وقال: «الحمد لله؛ فقد أرسلك الله إلي منقذا.» ثم قص عليه قصته كما هي من أولها إلى آخرها، فكاد الضابط يتميز من الغيظ، وقال: «لعن الله هؤلاء السفلة الخونة الأغرار، فهم علة العلل ومرض الدولة الذي لا يشفى، فسوف أنكل بهم تنكيلا.» وخرج وبعد قليل دخل السجان بأمر الإفراج عن يوسف الهلالي، فهنأه، وقال: «إياك أن تقيم في هذه البلدة يوما إلا إذا كنت بحاجة إلى أمر، وحاذر من كل إنسان، ومن كل كلمة تفوه بها، فللحيطان آذان وللصخور عيون.»
فتركه وعاد إلى البلدة، فقصد الخان الذي كانت فيه دابته، وجمع حوائجه وما اشتراه من الشام، ثم خرج لا يلوي على شيء عائدا إلى العمروسة، وفي صدره بركان من الغيظ يتأجج.
अज्ञात पृष्ठ