67

عندما عادت روز بذهنها إلى هذه اللحظة من حياتها وتحدثت عنها - إذ مرت بمرحلة يمر بها أغلب الناس في يومنا هذا، يفصحون فيها بحرية عن أكثر القرارات خصوصية في حياتهم لأصدقائهم أو أحبائهم أو لغرباء تعرفوا عليهم في حفلات وربما لن يروهم ثانية مطلقا، والذين يفعلون ذلك بدورهم أيضا - قالت إن عاطفة الصداقة تغلبت عليها، ولم تستطع مقاومة رؤيته جالسا أمامها بعنقه المكشوف المنحني. وأوضحت أكثر أنها الرغبة. قالت إنها ركضت نحوه، وتعلقت به، وقضت على شكوكه، وقبلته، وبكت، وعادت إليه لأنها لم تعلم كيف تعيش دون حبه ودون وعده لها برعايتها؛ لقد كانت خائفة من العالم ولم تستطع التفكير في أي خطة أخرى لحياتها. وعندما كانت تنظر للحياة من منظور اقتصادي، أو كانت مع أشخاص يفعلون ذلك، كانت تقول إن أبناء الطبقة الوسطى فقط هم من يملكون حرية الاختيار، وأنها لو كانت تملك ثمن تذكرة القطار إلى تورونتو، لكانت حياتها قد تغيرت.

لكنها كانت تقول أحيانا بعد ذلك إن كل ذلك ليس سوى هراء. ولم يكن إحياء باتريك وبث السعادة فيه من جديد سوى ادعاء وخيلاء. كانت تريد معرفة ما إذا كانت ستتمكن من ذلك أم لا. لم تستطع مقاومة هذا الاختبار لقوتها. وأوضحت فيما بعد أنها دفعت ثمن ذلك؛ فقالت إنها تزوجت من باتريك لعشرة أعوام، وطوال هذه المدة، ظلت مشاهد الانفصال الأول والمصالحة بينهما تتكرر على نحو دوري، وبدا أنها تعيد على مسامعه كل ما قالته في المرة الأولى، وكل ما امتنعت عن قوله وقتها، وغير ذلك الكثير مما خطر لها. تمنت لو أنها لم تخبر الناس (لكنها تظن أنها فعلت) بأنها اعتادت ضرب رأسها في عمود السرير، وألقت ذات مرة وعاء مرق اللحم من نافذة غرفة الطعام؛ وما كان منها إلا أن شعرت بالخوف والاشمئزاز الشديد مما فعلته واستلقت على السرير مرتعدة ترجو من باتريك أن يسامحها. وكان يفعل. كانت أحيانا تهاجمه، وفي أحيان أخرى كان يضربها. وفي الصباح التالي يستيقظان مبكرا ويعدان فطورا خاصا ويجلسان لتناول اللحم المقدد والبيض ويشربان القهوة المصفاة، منهكين ومتحيرين، ويتعامل كل منهما مع الآخر بلطف خجول.

سألها الآخرون: «ما السبب وراء ردود الأفعال هذه في نظرك؟» «هل تعتقدين أنه ينبغي أن يحصل الزوجان على إجازة؟ إجازة أحدهما من الآخر؟ إجازة يقضيانها وحدهما؟»

وكانت تجيبهم بأنها اكتشفت أن مثل هذه الجهود كانت زائفة ومضيعة للوقت، لكنها محاولات تنجح في وقتها فقط. وبعد أن يهدآ، كانا يقولان إن أغلب الناس يمرون على الأرجح بمثل هذه الأمور في زيجاتهم، وكانا يعرفان بالطبع أغلب من كانوا يمرون بذلك. ولم ينفصلا إلا بعد وقوع قدر كاف من الضرر، أو بالأحرى عند الوصول إلى ضرر كاد يكون قاتلا. وربما كان سبب عدم انفصالهما هو الانتظار حتى حصلت روز على وظيفة، وصارت تجني مالها الخاص، وهو ما يمكن اعتباره سببا طبيعيا في النهاية.

ما لم تفصح عنه لأحد قط وما لم تكشفه لأحد هو أنها فكرت أحيانا في أن سبب انفصالها عن باتريك لم يكن الشفقة أو الرغبة أو الجبن أو الادعاء، وإنما شيء مختلف تماما، كالرغبة في السعادة. لم تستطع الإفضاء بذلك، مقارنة بكل ما أفصحت عنه من أمور أخرى. بدا الأمر غريبا؛ ولم تستطع تبريره. لم تكن تعني أنهما تمتعا بأوقات طبيعية مثالية في زواجهما، استمتعا فيها معا بلصق ورق الحائط والإجازات والوجبات والتسوق والقلق عند مرض ابنتهما، وإنما ما عنته هو أنه في بعض الأحيان كانت تفاجئهما السعادة - أو بالأحرى احتمالية السعادة - دون سبب أو سابق إنذار، وكانا يختلفان كلية في تلك الأوقات، كما لو كان هناك روز وباتريك آخران يتسمان بالبراءة وطيبة القلب، يكادان يكونان غير مرئيين، مختبئين خلف شخصياتهما المعتادة. لعل ذلك كان باتريك الذي رأته في ركن القراءة بعد أن تحررت منه؛ تلك الشخصية التي لا يراها باتريك نفسه. كان عليها تركه هناك. •••

عرفت روز أن تلك كانت نظرتها له؛ وقد عرفتها لأن الموقف تكرر. كانت في مطار تورونتو في منتصف الليل. حدث ذلك بعد تسعة أعوام من طلاقها من باتريك. وقد أصبحت مشهورة آنذاك، وصار وجهها معروفا للعديد من الناس في هذا البلد. فكانت تقدم برنامجا تليفزيونيا استضافت فيه سياسيين وممثلين وكتاب وشخصيات مهمة والعديد من الأشخاص العاديين ممن كانت لهم مشكلات مع الحكومة أو الشرطة أو النقابة، وكانت تستضيف أيضا أشخاصا شاهدوا أشياء غريبة، مثل أطباق طائرة، أو وحوش بحرية، أو أشخاصا حققوا إنجازات متميزة، أو احتفظوا ببعض التقاليد العتيقة.

كانت وحدها في المطار، لم يكن هناك أحد بانتظارها. وقد وصلت لتوها على متن رحلة متأخرة من يلونايف. كانت مرهقة ومتسخة. رأت باتريك واقفا موليها ظهره عند المقهى. كان يرتدي معطفا واقيا من المطر، وبدا أثقل وزنا من المعتاد، لكنها تعرفت عليه في الحال، واعتراها نفس الشعور بارتباطها بذلك الشخص، وأنه بإمكانهما أن يعثر أحدهما على الآخر ويثق به، بحيلة معينة سحرية، لكنها ممكنة. ولتحقيق ذلك كله، كان عليها التوجه نحوه ولمس كتفه، ومباغتته بما يسعده.

لم تفعل ذلك بالطبع، لكنها توقفت. ظلت متسمرة في مكانها إلى أن استدار باتريك متوجها إلى إحدى الطاولات البلاستيكية الصغيرة والمقاعد المنحنية المجمعة أمام المقهى. اختفت منه ملامح النحول والمظهر الأكاديمي الرث والتسلط المفرط. فقد صقل مظهره، وامتلأ جسمه، ليصير رجلا أنيقا، ومقبولا، ومسئولا، وقانعا بعض الشيء. اختفت كذلك الوحمة التي كانت على وجهه. أخذت تفكر في مدى الإجهاد والحزن الذي بدا عليها بالتأكيد، وهي ترتدي معطفها المجعد الواقي من المطر، وشعرها الطويل الذي ظهرت به الخصل البيضاء وهو منسدل للأمام حول وجهها، وآثار المسكرة تلطخ أسفل عينيها.

رمقها باتريك بنظرة قطب فيها جبينه، نظرة تدل على كره حقيقي وتحذير شرس، نظرة طفولية ومتفاخرة، لكنها مدروسة في الوقت نفسه. كانت انفجارا موقوتا من الاشمئزاز والنفور. صعب عليها تصديق ذلك، لكنها رأت ذلك بعينها.

أحيانا، عندما كانت روز تتحدث مع شخص ما أمام كاميرات التليفزيون، كانت تشعر برغبة من أمامها في العبوس. راودها ذلك الشعور مع الناس بكافة صورهم، مع الساسة المهرة، والأساقفة الليبراليين، مع العاملين في المساعدات الإنسانية، ومع ربات البيوت اللاتي شهدن كوارث طبيعية، والعمال الذين أجروا عمليات إنقاذ بطولية أو حرموا ظلما من معاشات الإعاقة الخاصة بهم. كانوا يتوقون لتدمير أنفسهم، أو تقطيب جبينهم، أو التلفظ بكلمة بذيئة. أكان هذا الوجه هو ما أراد الجميع الإفصاح عنه؟ هل كان موجها لشخص ما، أو للجميع؟ لكنهم لن يفعلوا ذلك؛ لن تسنح لهم الفرصة. يتطلب الأمر ظروفا خاصة؛ مكانا غير عادي، في منتصف الليل، عناء مرتبكا مشوشا، وظهورا هذيانيا مفاجئا لعدوك الحقيقي.

अज्ञात पृष्ठ