भाषा और साहित्य में अध्ययन
مطالعات في اللغة والأدب
शैलियों
ثم قفى على ذلك صاحب المقالة بقوله: «تأمل، وسبب ذلك إما قلة البضاعة ونزارة المادة الفكرية (كذا ولعله سها عن وضع «إما» في الجملة الثانية سهوا؛ إذ «إما» هذه لا بد من تكرارها عند التخيير كما لا يخفى). وأصحاب هذا المذهب يحسبون أن اللغة هي كل شيء، فإذا حمل أحدهم على ظهر قلبه مقامات الحريري وديوان الحماسة والمعلقات والمفضليات فقد صار كاتبا نحريرا، أو يكون ذلك متابعة لما ورد في بعض أقوال العرب من التكرار لضرورة؛ كقول الشاعر: «فألفى قولها كذبا ومينا» أو تقليدا لأحمد فارس الشدياق في كتابه «الساق على الساق»، ولكن أحمد فارس لم يأت بالمترادفات لأنه يذهب إلى هذا النوع من الكتابة، وإنما أراد أن يضع كتابا في المترادفات ككتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني» إلى أن قال: «ومهما يكن السبب فإن هذا النوع من الكتابة غير طبيعي أو غير عربي (كذا) أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر» ثم قال: «وأنت إذا تفقدت كلام العرب في أشعارهم وأمثالهم وخطبهم ورسائلهم علمت أنهم يميلون إلى الإيجاز وأنهم يكرهون التطويل الممل»، ثم عاد فاستدرك بقوله: «إن للإطناب مواطن وشروطا نص عليها البيانيون وليس فيما نصوا عليه ما يجيز أن يكيل الكاتب المترادفات كيلا ... إلخ.»
فظاهر أن هذا الكاتب الأديب يقصدني في تعريضه، لاستشهاده ببعض جمل من نداء كان الوفد السوري وجهه إلى الأمة العربية قاصيها ودانيها وحاضرها وباديها وخاصيها وعاميها، مراعيا حالة من يخاطبهم وضرورة تمكين المعاني من نفوسهم وتحريك عواطف حميتهم مما هو في كل لغة وفي كل منطق وفي كل أدب موطن التكرار الأكبر ومحل التأكيد الألزم؛ إذ كانت المناشير العامة والرسائل الموجهة إلى الجماهير دائما على هذا النسق، ولم تكن قاعدة «خير الكلام ما قل ودل» موضوعة لمثلها، إلا إذا اختلت قاعدة أخرى هي أعم منها، وهي: «لكل مقام مقال»، والفصاحة هي المطابقة لمقتضى الحال.
وقد كنت فكرت في أن أترك هذا الكاتب وشأنه، وأن أعرض عنه وأتجاهل انتقاده تاركا اللغة العربية ونظمها ونثرها ومتونها وأصولها وأمثلتها ترد عليه وتقنعه بخطئه، لولا أنني رأيته - وأرجو منه أن لا يؤاخذني على هذا القول - واضعا نفسه موضع أستاذ اللغة، وشيخ الصناعة، والجهبذ الذي يقبل هذا ويزيف ذاك، والقاضي الفيصل الذي يحكم ولا معقب لحكمه، ماضيا في غلوائه مسرورا بآرائه راضيا عن أنحائه، فحرصت على أن لا يتمادى في وهمه، وأشفقت من أن يتصل وهمه إلى غيره، وعولت على أن أبين له مناهج اللغة في باب الإيجاز والمساواة والإطناب ومقام كل منها ليعلم أن مقام منشورنا المرسل إلى الأمة العربية جمعاء في آفاق الأرض ومناكبها ومشارق الشمس ومغاربها هو مقام إطناب، كما لا يخفى على كل من شدا شيئا من الأدب أو طالع شيئا من آثار هذه الأمة.
ولكنني قبل الشروع في موضوعي أحب أن أسأله عن قوله: «وأما الأساليب فهناك مذهبان؛ مذهب قديم ومذهب جديد»، فإنني لا أعلم مذاهب جديدة إلا في العلم والفن، وأما في الأدب واللغة فلا أعرف إلا مذهبا واحدا هو مذهب العرب، وهو الذي يريد أن يسميه بالمذهب القديم، وهو الذي يجتهد كل كاتب في العربية أن يحتذي مثاله ويقرب منه ما استطاع؛ لأنه هو المثل الأعلى والغاية القصوى، وإذا أراد الكاتب العصري أن يجول في المواضيع الحديثة والمعاني المستجدة، استنفد جميع منته في إلباس هذه المعاني الجديدة حلل الأساليب العربية القديمة التي هي أصل اللغة والطراز المنسوج على منواله. وقصارى الأديب العربي اليوم أن يتمكن من إفراغ الموضوع العصري في قالب عربي بحت لا يخرج باللغة عن أسلوبها ولا يهجن لهجتها ولا يجعلها لغة ثانية؛ إذ كان التباعد عن الفصاحة والحرمان من حظها هما على مقدار التجانف عن أسلوب العرب عندما كانوا عربا لم تخامر لغتهم العجمة ولم تفسد منهم السليقة. وإن القمة العليا من ذلك هي لغة الجاهلية وصدر الإسلام، ثم ما يليه نوعا عندما كانت العربية في عنجهيتها والفصاحة في إبان سورتها. فأما المذهب الجديد الذي أشار إليه في الأدب والإنشاء العربي فلا نعلمه في المذاهب ولا وصل إلينا خبره، فحبذا لو أتانا صاحبنا بتعريف المذهب الجديد هذا ودلنا على أمثلة منه وكتب مؤلفة فيه، وأخبرنا من هم أساطين هذا المذهب وحملة أعلامه، فإننا نقر بكوننا لا نعرف في العربي إلا مذهبا واحدا كلما قرب إلى نسق الأولين كان أقرب إلى الفصاحة. وأما في العلوم والفنون فذاك موضوع آخر كل يوم نحن منها في شيء جديد، فلا يجوز أن نخلط هذا بذاك.
إن اللغة الفرنساوية التي هي أفصح لغات أوروبا لها أسلوب خاص ونمط قائم بها قد رست عليه قواعدها منذ نحو ثلاث مائة سنة، وبلغ كماله في عصر لويس الرابع عشر الذي يماثل صدر الإسلام في العربية، فكل كاتب في اللغة الفرنسوية يخالف أسلوبها الذي اصطلح عليه أدباء الفرنسيس يقولون له: هذا ليس بفرنساوي، ولا ينفعه عند ذلك أن يقول لهم: هذا مذهب جديد في الكتابة، فإنهم يجاوبونه أن التجدد في الكتابة لا بد لأجل أن يكون مقبولا أن يتمشى على الأسلوب الفرنساوي المصطلح عليه.
إنني أريد أن أنزه حضرة الكاتب صاحب مقالة «التطور في اللغة» عن أن يكون مقصده الانتقاد لأجل الانتقاد، ولإثبات فضله وإظهار طوله على غيره. ولكنني من جهة أخرى أعجب من كون أديب بارع مثله متصد للفتيا في اللغة تصدي حضرته يذهب عنه ما يليق بكل أديب أن يطلع عليه.
قال في صبح الأعشى في باب الإطناب: وهو الإشباع في القول وترديد الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، وقد وقع منه الكثير في الكتاب العزيز، مثل قوله تعالى:
كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون ، وقوله عز وجل:
فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا
كرر اللفظ في الموضعين؛ تأكيدا للأمر وإعلاما أنه كذلك لا محالة (تأمل) إلى أن يقول: وقد وقع التكرار للتأكيد في كلام العرب كثيرا كما في قول الشاعر: «أتاك أتاك اللاحقون.»
अज्ञात पृष्ठ