زار أحد الفضلاء غنيا من أغنياء أمريكا، فرآه في قصر منيف قد أحاطت به حديقة غناء، فيها من الأزهار والثمار ما يأخذ بالأبصار، وعلى القصر من الأبهة والرواء ما يجعل الإنسان يظنه لأحد الملوك، فأخذ الزائر العجب من اتساع ثروة الرجل وكثرة خدمه وحشمه، وما في قصره من النفائس، وجعلا يتحدثان إلى أن انتهيا إلى وسط القصر، وإذا هما بكوخ صغير يظهر عليه الفقر وسوء الحال، فبهت الزائر عند رؤيته، وظهرت عليه علامات التعجب، فالتفت إليه رب المنزل مبتسما وقال له: لعلك قد راعتك رؤية مثل هذا الكوخ وسط قصري؟ قال: نعم، قد حيرني ذلك. قال: لا تعجب؛ فإن هذا الكوخ هو منبع هذه الثروة العظيمة التي أدهشتك، فهو المنزل الذي ولد فيه جدي، وهو مؤسس هذه الثروة، ورافع هذه الأسرة بعد الضعة، ولد في هذا الكوخ، وترعرع فيه، ولكنه جد وأعمل الفكرة، وساعده الحظ والاستقامة، فنال ما ترى، ولم يشأ أن ينسى منشأه، فبنى قصره حول هذا الكوخ، وجعل يزوره كلما استطاع ذلك حتى لا ينسى حالته القديمة، ولا يترك الاجتهاد والاستقامة اللذين كانا سببا في إصلاح حاله، فيحمد الله - سبحانه وتعالى - الذي هداه إلى سواء السبيل ، ويشكر له ذلك بطاعته لأوامره، وإني أحفظ هذا الكوخ أثرا حميدا لهذا المجتهد التقي، حتى لا أترك خطته، ولا أسلك غير سبيله، فإني أخشى أن مالا جمعه العلم والحزم يبدده الجهل والطيش. فعجب الزائر وتمثل بقول القائل:
العلم يرفع بيتا لا عماد له
والجهل يخفض بيت العز والشرف (8) وفاء امرأة بوعدها
لما تولى الخلافة المأمون بن هارون الرشيد خرج عليه عمه إبراهيم بن المهدي، فجهز المأمون جيشا قهر به إبراهيم، ففر مستخفيا، وجعل المأمون لمن دله عليه ألف دينار، فبينما إبراهيم سائر ذات يوم إذ بصر به جندي فعرفه، فنادى هذا والله طلبة أمير المؤمنين، وتعلق بأثوابه، فخاف إبراهيم على نفسه ودفع الجندي دفعة قوية ألقته عن ظهر جواده، فشج رأسه، وتركه ملقى على الأرض، وقد اهتم الناس بأمره، وأسرع في سيره حتى دخل زقاقا، فوجد في صدره دارا مفتوحة فدخلها مسرعا، وإذا هو بامرأة يلوح عليها الوقار والسكينة، فقالت: ما حاجتك؟ قال: إني امرؤ خائف على دمي، وقد لجأت إليكم واستجرت بكم. قالت: على الرحب والسعة، ادخل فأنت آمن، ثم أدخلته في مقصورة وأغلقت عليه الباب.
ولم يكد يهدأ روعه حتى سمع ضجة بالباب، فنظر فإذا الجندي قد دخل الدار ومعه جم غفير من الناس، وهو لا يقوى على المشي لشدة ما أصابه، وقد عصب رأسه بعصابة، فاستلقى على فراشه، وكان إبراهيم بحيث يراهم ولا يرونه، فأيقن بالهلاك، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لقد ساقني حتفي إلى هذه الدار، فلا مفر من أمر الله.
فلما خرج الناس إلى حال سبيلهم، جعل الجندي يتأوه، ويقول: لقد بصرت بالغنى ثم أفلت مني، فأخذت المرأة تلاطفه وتخفف مصابه حتى نام، ثم قامت إلى إبراهيم وقالت: أظنك صاحب القصة؟ قال: نعم، أنا هو. قالت: لا بأس عليك، فقد أجرتك ولا سبيل إلى نقض العهد، فانج الآن بنفسك. فخرج من عندها وهو يعجب من عقلها ووفائها وعدم طمعها في المال، مع ما علمت من وعد أمير المؤمنين.
فلما انكشف أمره للمأمون، وعفا عنه، قال له: أخبرني بما رأيت أيام استخفائك؟ فحدثه حديث المرأة، فأعجب المأمون وفاؤها، وأمر بإحضارها، وكافأها على إحسانها. (9) التربية المنزلية
إن الإنسان في سن طفولته كغصن كرم لين، يميل حيث وجهته، وتلتف فروعه على ما يجده هناك من الأشجار أو الأعمدة القريبة منه، ويصعب بعد ذلك تخليصه مما علق به، وربما تلف إن حاول صاحبه ذلك.
فإذا نشأ الإنسان في أسرة كريمة تعوده التحلي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، وتقوم بتربيته مربية فاضلة، تسلك به سبل السداد، وتجعل سيره على صراط الدين القويم، وتقوم ما اعوج من أخلاقه، وتصلح ما فسد من طباعه، شب وهو يرتاح للفضيلة، لما ألفه منها، وينفر عن الرذيلة لعدم تعوده إياها، وصادفت تلك التربية نفسا خالية، فثبتت فيها، وصحيفة بيضاء فارتسمت عليها، وتعذر بعد ذلك محوها، فهو ينشأ على ما تعوده صغيرا، وتصير الفضائل طبعا له، لا تكلف فيها حتى إذا ترعرع وذهب إلى المدرسة لم يكن للمعلمين هم إلا تعليمه، وكان طوع بنانهم فيما يرشدونه إليه من الخير، فلا يلبث أن يصير إنسانا كاملا ينفع نفسه وغيره، والفضل في ذلك للتربية المنزلية.
أما إذا نشأ في أسرة سيئة الأخلاق، فلا يلبث أن تسري في نفسه الخالية تلك الأخلاق فتتمكن منها، ويصعب عليه تركها، فيشق على المعلمين إرشاده إلى الخير أو تعليمه ما أرادوا، فيكبر على الجهل والشر، ويحرم نعيم الدنيا والآخرة.
अज्ञात पृष्ठ