فبكى الرجل العاصي وناول الرغيف لصاحبه وقال لنفسه:
أنا أحق أن أبيت طاويا لأنني عاص، وهذا مطيع، فنام واشتد به الجوع حتى أشرف على الهلاك. فأمر الله تعالى ملك الموت بقبض روحه فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: هذا رجل فر من ذنبه، وجاء طائعا. وقالت ملائكة العذاب: بل هو رجل عاص، فأوحى الله تعالى إليهم أن زنوا عبادة السبعين سنة بمعصية السبع ليال، فوزنوها فرجحت المعصية على عبادة السبعين سنة، فأوحى الله إليهم أن زنوا معصية السبع ليال بالرغيف الذي آثر به على نفسه. فوزنوا ذلك، فرجح الرغيف فتوفته ملائكة الرحمة، وقبل الله توبته.
وحكي أن رجلا جلس يوما يأكل هو وزوجته وبين أيديهما دجاجة مشوية، فوقف سائل ببابه، فخرج إليه وانتهره، فذهب، فاتفق بعد ذلك أن الرجل افتقر وزالت نعمته، وطلق زوجته، وتزوجت بعده برجل آخر، فجلس يأكل معها في بعض الأيام وبين أيديهما دجاجة مشوية، وإذا بسائل يطرق الباب، فقال الرجل لزوجته ادفعي إليه هذه الدجاجة، فخرجت بها إليه فإذا هو زوجها الأول، فدفعت إليه الدجاجة ورجعت وهي باكية، فسألها زوجها عن بكائها، فأخبرته أن السائل كان زوجها، وذكرت له قصتها مع ذلك السائل الذي انتهره زوجها الأول، فقال لها زوجها: أنا والله ذلك السائل.
وذكر عن مكحول أن رجلا أتى إلى أبي هريرة ﵁ فقال: ادع الله لا بني فقد وقع في نفسي الخوف من هلاكه. فقال له: ألا أدلك على ما هو أنفع من دعائي وأنجع وأسرع إجابة؟ قال: بلى. قال: تصدق عنه بصدقة تنوي بها نجاة ولدك وسلامة ما معه، فخرج الرجل من عنده، وتصدق على سائل بدرهم وقال: هذا خلاص ولدي وسلامته وما معه، فنادى في تلك الساعة مناد في البحر: ألا إن الفداء مقبول وزيد مغاث. فلما قدم سأله أبوه عن حاله فقال: يا أبت لقد رأيت في البحر عجبا يوم كذا وكذا في وقت كذا وكذا. وهو اليوم الذي تصدق فيه والده عنه بالدرهم، وذلك أنّا أشرفنا على الهلاك والتلف، فسمعنا صوتا من الهواء: ألا أن الفداء مقبول وزيد مغاث.
وجاءنا رجال عليهم ثياب بيض فقدموا السفينة إلى جزيرة كانت بالقرب منا وسلمنا وصرنا بخير أجمعين. والآثار والحكايات في ذلك كثيرة وفيما أشرت إليه كفاية لمن وعى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى والله أعلم.
الفصل الرابع في الصوم وفضله وما أعد الله للصائم من الأجر والثواب
قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٨٣
«١» . قيل: الصوم عموم وخصوص وخصوص الخصوص: فصوم العموم هو كف البطن والفرج وسائر الجوارح عن قصد الشهوة، وصوم الخصوص هو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وصوم خصوص الخصوص هو صوم القلب عن الهمم الدنية وكفه عما سوى الله بالكلية. قال رسول الله ﷺ: «زكاة الجسد الصيام» .
وعنه ﷺ أنه قال: «للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه»، وقال وكيع في قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ٢٤
«٢» . إنها أيام الصوم تركوا فيها الأكل والشرب.
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال:
«من أفطر يوما في رمضان من غير رخصة رخصها الله له، لم يقض عنه صيام الدهر» . وروي في صحيح النسائي عنه أيضا ﷺ أنه قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين» .
وروى الزهري أن تسبيحة واحدة في شهر رمضان أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
وروي عن قتادة أنه كان يقول: من لم يغفر له في شهر رمضان فلن يغفر له في غيره. وقال رسول الله ﷺ: «لو يعلم الناس ما في شهر رمضان من الخير لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها، ولو أذن الله للسموات والأرض أن تتكلما لشهدتا لمن صام رمضان بالجنة» . وقال ﷺ:
«ليس من عبد يصلي في ليلة من شهر رمضان إلا كتب الله له بكل ركعة ألفا وخمسمائة حسنة، وبنى له بيتا في الجنة من ياقوتة حمراء لها سبعون ألف باب، لكل باب منها مصراعان من ذهب، وله بكل سجدة يسجدها شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام» .
وقال ﷺ: «إن لكل صائم دعوة فإذا أراد أن تقبل، فليقل في كل ليلة عند فطره: يا واسع المغفرة اغفر لي» .
1 / 17