التعليل والإيضاح
وليس بإمكان المؤرخ أن يقف عند هذا الحد من البحث والتنقيب؛ إذ لا بد له من الإجابة عن سؤال هو من الأهمية بمكان. كأن يقال: لقد تثبت من الحقائق الماضية فأخبرتنا عما جرى ولكنك لم تقل كلمة حتى الآن في أسباب ما تروي لنا من حوادث الماضي. فإذا ما أجبت عن السؤال ماذا جرى، عليك أن تزيدنا فهما للماضي، فتجيب عن سؤال آخر، هو لماذا جرى ما جرى؟
وكثيرا ما يعتذر المؤرخ عن الإجابة فيقول: إن البحث في مثل هذا السؤال هو من واجب الفيلسوف لا المؤرخ.
ولكن القارئ أو السامع هو طلعة ملح يريد أن يعلم لماذا سقطت روما؟ ولماذا هجمت القبائل البربرية على أطرافها؟ ولماذا وقعت حروب الفتح الإسلامي؟ ولماذا قامت أوروبا بالحروب الصليبية؟ ولماذا نشأ الحكم الإقطاعي؟ ولماذا خرج لوثيروس عن طاعة الكنيسة؟ ولماذا اندلعت نيران الثورة الإفرنسية؟ ولماذا خسر نابليون موقعة وترلو؟ وما إلى ذلك من الأسئلة عن أسباب وقائع الماضي.
والواقع أنه ليس بإمكان المؤرخ أن يقنع زملاءه في مثل هذا الموضوع إلا بالفلسفة. فجوابه يتوقف على مذهبه الفلسفي؛ والبحث في هذا يكون بطبيعة الحال فلسفيا أيضا، وقد يصعب التفريق من هذه الناحية بين الفلسفة والتاريخ كما أبان ذلك الفيلسوف المؤرخ غروتشي الإيطالي وغيره.
على أن بإمكان المؤرخ أن يوضح الوقائع الماضية على طريقة علماء الطبيعة. فإنك لو طلبت إلى أحد هؤلاء أن يوضح أو يعلل لك ظاهرة من ظواهر هذه العلوم، لبدأ بوصفها ثم استطرد إلى ذكر خصائصها وعلاقاتها بمثل غيرها من الظواهر. غير أن هذه الأمور كلها لا تخرج عن أنها وجوه مختلفا لحقيقة واحدة، وليس علمنا بها إلا مجموعة لهذه الوجوه، فتعليل علماء الطبيعة لظواهر الطبيعة ليس إلا وصفا لخصائصها ومميزاتها، والآن إذا بدلنا الوصف بالقصة قلنا: إنه بإمكان المؤرخ أن يوضح الوقائع الماضية على طريقة علماء الطبيعة؛ فحيث تضطره الظروف لإيضاح بعض الحقائق يأتي بحقائق أخرى توضح ما سبق سرده من حوادث الماضي. فأما أن يزيدنا علما ببعض الحوادث التي سبقت وقوع ما يروي أو أن يذكر حوادث أخرى وقعت في الوقت نفسه، وأثرت فيما يروي. مما يسوقنا إلى القول بأن الفرق بين التاريخ وإيضاح التاريخ من هذه الناحية إنما هو فرق في الكم لا الكيف.
بيد أنه لا بد للمؤرخ المتعمق من التذرع بالفلسفة، إذا ما أراد أن يقف على أسرار الحياة البشرية في الماضي، وإن هو وقف عند هذا الحد من الإيضاح والتعليل يكون مثله مثل ولد تأخر عن الذهاب إلى المدرسة، فإذا سئل عن سبب التأخر أجاب لأني لم أجد كتبي، وإذا قيل له: لماذا؟ قال: لأني كنت في الجنينة وراء البيت، وهلم جرا، وقد يكون السبب الحقيقي أعمق من هذا وذاك؛ إذ لا بد من درس الولد درسا علميا فلسفيا عميقا قبل البت في سبب التأخر.
ولقد صدق ابن خلدون؛ حيث يقول: «أما بعد، فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال؛ إذ هو في ظاهره، لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيه الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصبها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع الدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال وفي باطنه نظر، وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها، دقيق وعلم بكيفيات الوقائع، وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق وأن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام، وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر، وأودعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل، وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها، ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم، واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال، ولم يراعوا، ولا رفضوا ترهات الأحاديث، ولا دفعوها؛ فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل، والتطفل على الفنون عريض طويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم، وبيل ، والحق لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل إنما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح، إذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل.
هذا، وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم، وسطروا، والذين ذهبوا بفضل الشهرة والإمامة المعتبرة واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة، هم قليلون، لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي، ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير، وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات، ومشهور بين الحفظة الثقات إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم واقتفاء سننهم في التصنيف، واتباع آثارهم، والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم، فيما ينقلون أو اعتبارهم فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الروايات والآثار، ثم إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج، والمسالك لعموم الدولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك، وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك، ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملة من الدول والأمم، والأمر العمم كالمسعودي ومن نحا منحاه وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التقييد، ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد، فقيد شوارد عصره، واستوعب أخبار أفقه وقطره، واقتصر على تاريخ دولته ومصره، كما فعل أبو حيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها، وابن الرفيق مؤرخ أفريقية والدولة التي كانت بالقيروان، ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل، أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، فيجلبون الأخبار عن الدول، وحكايات الوقائع في العصور الأولى، صورا قد تجردت عن موادها، وصفاحا انتضيت من إغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتالدها إنما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها، ولا تحققت فصولها يكررون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها اتباعا لمن عني من المتقدمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم صحفهم عن بيانها، ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقا محافظين على نقلها، وهما أو صدقا، لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها ولا علة الوقوف عند غايتها، فيبقى الناظر متطلعا بعد إلى افتقاد أحوال مبادئ الدول ومراتبها، مفتشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها، حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب، ثم جاء آخرون بإفراط الاختصار وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك، والاقتصار مقطوعة عن الأنساب والأخبار موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل وليس يعتبر لهؤلاء مقال، ولا يعد لهم ثبوت، ولا انتقال لما أذهبوا من الفوائد، وأخلوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين «والعوائد».
وهكذا فإنه يفترض في التعليل والتوضيح ما يأتي: (1)
अज्ञात पृष्ठ