الثالثة:
التعديل مقبول من غير ذكر سببه، على المذهب الصحيح المشهور؛ لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا فعل كذا وكذا، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه، وذلك شاق جدا، وأما الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسرا، مبين السبب؛ لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح. فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحا، وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه، لينظر فيما هو جرح أم لا، وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله، وذكر الخطيب الحافظ أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، مثل البخاري ومسلم وغيرهما؛ ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس - رضي الله عنهما - وكإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي وعمرو بن مرزوق وغيرهم، واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم، وهكذا فعل أبو داود السجستاني وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه، ومذاهب النقاد للرجال غامضة مختلفة، وعقد الخطيب بابا في بعض أخبار من استفسر في جرحه، فذكر ما لا يصح جارحا. منها عن شعبة أنه قيل له: لم تركت حديث فلان؟ فقال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه، ومنها عن مسلم بن إبراهيم أنه سئل عن حديث الصالح المري، فقال: ما يصنع بصالح! ذكروه يوما عند حماد بن سلمة فامتخط حماد، والله أعلم. قلت: ولقائل أن يقول: إنما يعتمد الناس في جرح الرواة، ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح، أو في الجرح والتعديل، وقل ما يتعرضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم: فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء، ونحو ذلك، أو هذا حديث ضعيف، وهذا حديث غير ثابت، ونحو ذلك. فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك، وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر، وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح، والحكم به قد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك، بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف. ثم من انزاحت عنه الريبة فلم يبحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته، قبلنا حديثه، ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم. فافهم ذلك فإنه مخلص حسن، والله أعلم.
الرابعة:
اختلفوا في أنه هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد أو لا بد من اثنين. فمنهم من قال: لا يثبت ذلك إلا باثنين كما في الجرح والتعديل في الشهادات، ومنهم من قال: وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره، أنه يثبت بواحد؛ لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح رواية وتعديله بخلاف الشهادات، والله أعلم.
الخامسة:
إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل؛ فالجرح مقدم؛ لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل؛ فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل: التعديل أولى، والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرناه، والله أعلم.
السادسة:
لا يجزئ التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل. فإذا قال: حدثني الثقة أو نحو ذلك مقتصرا عليه لم يكتف به فيما ذكره الخطيب الحافظ، والصيرفي الفقيه وغيرهما، خلافا لمن اكتفى بذلك؛ وذلك لأنه قد يكون ثقة عنده، وغيره قد اطلع على جرحه بما هو جارح عنده، أو بالإجماع. فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف.
السابعة:
إذا روى العدل عن رجل، وسماه لم يجعل روايته عنه، تعديلا منه له، عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم، وقال بعض أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي: يجعل ذلك تعديلا منه له؛ لأنه يتضمن التعديل، والصحيح هو الأول؛ لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل فلم يتضمن روايته عنه تعديله.
अज्ञात पृष्ठ