ويترتب على المؤرخ أن يبتعد كل البعد عن الدفاتر والأوراق المجلدة؛ لأنه إذا دون ما يستخلصه من الأصول في دفتر أو دفاتر معينة تقيد بترتيب خاص، قد تقضي الظروف بتغييره أو تعديله قبل الانتهاء من مهمة التأريخ، وقد يضطر المؤرخ، بعد الابتداء بالعمل، أن يفسح مجالا أوسع لموضوع ما، فلا يرى سبيلا لذلك إلا بعد العناء، وقد لا يرى. أما إذا ابتعد عن كل ما يمت إلى المجلدين بصلة، واتخذ للتدوين أوراقا منثورة، انطلقت يده في العمل، وأصبح حرا يزيد متى يشاء، ويقدم ويؤخر ما شاء.
وقد اختلف المؤرخون في كمية ما يدونون على أوراقهم المنثورة. فمنهم من قال بتدوين كل ما له علاقة بالموضوع. أي إذا عني مؤرخ ما بتاريخ حرب من الحروب، وأفرد لكل سبب من أسباب هذه الحرب ورقة أو ورقات، ولكل موقعة منها مثل ذلك، وهلم جرا، فعليه أن ينقل على أوراقه كل النص الذي يتعلق بمثل هذه المواضيع، وقال آخرون بوجوب الاكتفاء بخلاصة النص.
أما نحن، فقد وجدنا بالاختبار الشخصي، بعد أن بدأنا بتأريخ الحملة المصرية على الأقطار الشامية (1831-1841)، أن لا هذه الطريقة ولا تلك تفي بالمرام، وذلك لأسباب نعرضها حالا زيادة للإيضاح. أن الأصول لهذه الحقبة الوجيزة من تاريخ الأقطار الشامية تربو على الألف كتاب بين مقالة ورسالة ورحلة وتاريخ رسمي، وهنالك ما لا يقل عن الخمسين ألف وثيقة تتعلق بالموضوع نفسه. فلو عنيا بإدخال جميع هذه النصوص، على أوراق أو بطاقات منثورة، لاضطررنا أن نقضي حياتنا بالاستنساخ، وبعد أن عملنا بما ورد في أعلاه مدة من الزمن، وزاولنا استنساخ النصوص على البطاقات كما تقدم، اضطرتنا الظروف أن نكتب شيئا في بعض نقاط معينة. فوجدنا أنه لا بد لنا من مراجعة المؤلفات نفسها للتحقق، إما من صحة ما نقلنا، أو من علاقته بما قبله وما بعده. فلم نستفد من بطاقاتنا، والحالة هذه، سوى أنها أرشدتنا إلى النصوص في وقت قصير للغاية، وأنها مكنتنا من ترتيب هذه النصوص ترتيبا تاريخيا في وقت وجيز أيضا. فرأينا، بعد هذا الاختبار، أن نجعل من بطاقاتنا المنثورة فهرسا عاما لجميع مواضيع الأصول، وجميع أسماء الرجال والأمكنة فيها.
على أن جميع المؤرخين، اليوم، يصرون على وجوب الإشارة إلى زمن وقوع الحوادث المرورية، ويحتمون على المؤرخ المنقب وجوب الإشارة في كل ورقة من ورقاته المنثورة إلى المرجع الذي استخلص منه محتويات هذه الورقات، وذلك بذكر المؤلف والمؤلف والمجلد والصفحة.
وقد لا يختلف اثنان من علماء التاريخ في ترتيب الأوراق المنثورة. فحيث نجعل من هذه الأوراق فهرسا عاما للأصول نرتبها ترتيبا أبجديا، وإن آثارنا تدوين النصوص بكاملها عليها رتبناها إما بموجب تواريخها، أو بحسب الأمكنة التي وجدت فيها، أو على أساس مواضيعها، وليذكر المؤرخ المستجد أن ترتيب النصوص على أساس تواريخها ضروري في غالب الأحيان؛ وذلك لأنه يوضح له تسلسل الرواية والحوادث المروية، ولأنه يقيه شر تقديم المسببات على أسبابها، وحيث ترد بعض الأصول مجهولة التاريخ، عليه أن يسعى سعيا حثيثا لتأريخها، كي يتمكن من ترتيبها بموجب تواريخها.
ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أنه لا يجوز ترتيب النصوص على أساس الأمكنة التي وجدت فيها، أو المواضيع التي تحتوي عليها. بل بالعكس، فإنه من المستحسن أن يتفنن المؤرخ في الأسس التي يتخذها للتصنيف والتنسيق، سواء أكانت زمنية أم جغرافية أم غير ذلك. فإذا ما عالج المؤرخ درس موضوعه من مثل هذه النواحي المختلفة، برزت له الحقيقة التي يتوخاها بوضوح وجلاء، قد لا يصل إليهما، إذا اكتفى باتباع أساس واحد للتنسيق.
وقد يضطر المؤرخ أحيانا إلى إهمال التنسيق على أساس زمن النصوص لاستحالة معرفة تواريخها، فيكتفي، والحالة هذه، بما تبقى لديه من سائر الأسس، ولنا في اختبار علماء أوروبا، ولا سيما العلامة الكبير تيودور مومسن، في مجموعة النقوش اللاتينية
Corpus Inscriptionum Latinarum
مثال واضح يؤيد ما تقدم. فإن معظم هذه النقوش غير مؤرخ، وقد اختلف العلماء، عشرات من السنين، في أمر تنسيقها وترتيبها. فقال البعض بتصنيفها على أساس محتوياتها، وقسموها إلى نقوش دينية، ونقوش عسكرية، ونقوش أدبية شعرية، واعترض آخرون على هذا التنسيق، وقالوا باتخاذ المكان الذي وجدت فيه النقوش أساسا للترتيب؛ وذلك لأن تنسيقها على أساس محتوياتها قد يضطر المؤرخ إلى التكرار الممل. إذ إنه معقول جدا أن يحتوي نقش ما على شعر ودين وحرب في آن واحد، وبعد اختبار طويل دام قرنا كاملا، أو أكثر، أجمعت الآراء على أفضلية الترتيب الجغرافي، وبعد أن قال العلامة مومسن، مدة طويلة بالتنسيق على أساس المحتويات، عاد فأيد الأساس الجغرافي، وظهرت المجموعة كاملة على هذا الأساس .
الباب الخامس
अज्ञात पृष्ठ