وهناك أمر آخر، دفع الأستاذ جبور إلى الظن في أنه قد طرأ على العقد بعض التغيير أو التحريف أو الزيادة، هو أن ترتيب كتب العقد، في معجم الأدباء لياقوت، يختلف عما هو عليه في العقد نفسه وفي مقدمته. على المؤرخ إذا بعد جمع الأصول وبعد الانتهاء من درس العلوم الموصلة، أن يتأكد من أصالة الأصول، ويتثبت من خلوها من كل دس أو تزوير، ويتضح مما تقدم ذكره أعلاه أنه بإمكان المؤرخ أن يستعين بطائفتين من الأدلة. فهنالك أدلة باطنية، يتوصل إليها بعد درس نص الأصل نفسه، وأدلة ظاهرية، يقف عليها بعد درس الأصول الأخرى، أو بعد التمكن من بعض العلوم الموصلة. هذا ولا نرى بدا في هذا الصدد، من الإشارة إلى وجوب التريث، والترزن والتثبت. فلا فائدة ترجى من التهالك في الأمر والإسراع في العمل، ولا يخفى أن التثبت من صحة الأصول وأصالتها أمر صعب الممارسة، عزيز المنال.
وحذار حذار من الاستسلام إلى الأول بالثقة العمياء والاسترسال إليها؛ إذ لا يجوز للمؤرخ أن يكون قنوعا يثق بكل أحد أو يقنا يصدق كل ما يقرأ.
الفصل الثاني: التعرف إلى المؤرخ المجهول وتعيين الزمان والمكان
وهب أننا تثبتنا من صحة الأصل وخلوه من كل دس أو تزوير، فهل ننقاد إلى نصه وننزل على حكمه؟ أم نمتنع عن ذلك، ونعرض عن الطاعة، إلى أن نتثبت من هوية المؤرخ ونتعرف إلى شخصيته ونسبر غوره، وندرس المكان الذي عاش فيه، والزمان الذي دون فيه أخباره، أوليس من فرق، في قبول الشهادة وردها، بين رواية رئيس حكومة، عن أعماله في أثناء قيامه بأعباء الوظيفة، ورواية لحام عن الأعمال نفسها؟ أو بين رواية دونت في أثناء وقوع الحوادث المروية، وغيرها دونت بعد وقوع الحوادث بربع قرن من الزمن؟ بلى! فمن المحتم أن نتعرف إلى شخصية المؤلف، ونتثبت من أمياله ونزعاته ودرجة علمه وذكائه، واتصاله بالحوادث التي يروي أخبارها، ولا بد من الوقوف على الزمن الذي كتبت فيه هذه الأخبار، والمكان الذي سطرت فيه.
وإذا تأملنا هذا الأمير مليا نرى أن الأصول هي في غالب الأحيان صلتنا الوحيدة بحوادث الماضي، فإن أخبرتنا الخبر على حقه توصلنا إلى الحقيقة التي ننشدها، وإن أرجفت فخاضت في الأخبار المخطئة، أو الكاذبة أوقعتنا في مهاوي الضلال والتضليل؛ ولذا فإننا نرى لزاما في أعناقنا أن نتعرف إلى شخصية المؤرخين الذين نصوا هذه الأصول كي نمزق ظلمات الإشكال ونكشف معالم الهدى، ومهمتنا من هذا القبيل هي أصعب بدرجات من مهمة القضاة والمحامين، إذ إن هؤلاء يتحدثون إلى من ينقل الخبر إليهم ويمتحنونه بالاستنطاق، فهو مخبر حي ماثل أمامهم. أما مخبر المؤرخ فإنه ميت خلا مكانه وطويت صحيفته.
ومما يجدر ذكره من هذا القبيل، أنه في أواخر عام 1926 فاجأنا صديق لنا، بمخطوطة صغيرة، تحفظ أخبار الدولة المصرية العلوية في سورية، في زمن إبراهيم باشا، وبعد أن تصفحناها قليلا وجدنا أنها مغفلة، لا تحمل اسم مؤلفها، ولا تشير إلى الزمان الذي كتبت فيه، ولا إلى المكان الذي دونت فيه أخبارها، فدفعنا حب الاستطلاع إلى فحصها والتنقيب عن سرها للتعرف إلى مؤلفها، وتعيين محل إقامته، والزمان الذي دون فيه أخباره .
وبعد أن قلبنا الطرف فيها، ونظرنا في أعطافها ومطاويها، ألفيناها تضم بين دفتيها، لا أقل من ثلاثة مؤلفات مختلفة، تحتوي جميعها نتفا من أخبار إبراهيم باشا في الأقطار الشامية وبر الأناضول. فالصفحات الثلاث الأولى، تختلف عن الخمس التي تليها، والصفحات الخمس هذه تختلف بدورها عما قبلها وبعدها.
وتسهيلا للبحث، وإيراد بعض البراهين نسمي الصفحات الثلاث الأولى «ألفا»، والخمس التي تليها «باء» والباقي «جيما». فلو درسنا ما دون فيما سميناه «ألفا» وجدناه يبتدئ من حصار عكا سنة 1831 وينتهي بموقعة قونية، سنة 1832، ولو انتقلنا إلى «باء» وجدنا أن مؤلفها لا يبتدئ بذكر الحوادث التي وقعت بعد معركة قونية، وينتهي بآخر أخبار الدولة المصرية في سورية، كما هو منتظر منه فيما لو كان هو هو الذي كتب «ألفا» من قبل، بل نراه يكرر أخبار «ألف» ويقف عند ذكر فتح دمشق، وهكذا يفعل كاتب «جيم» فإنه يبتدئ من حصار عكا أيضا، ويكرر أخبار بعلبك والزراعة وزحلة ... إلخ، وينتقل بعد تكرار هذه إلى ذكر الحوادث التي لم تذكر في «ألف» و«باء» والتي حدثت بعد موقعة قونية، ولدى التدقيق في تواريخ الحوادث، وجدنا اختلافا بين روايات «ألف» و«باء» و«جيم». فإن واضع «ألف» لا يستعمل إلا التاريخ الهجري، وأما واضع باء فإنه يتشبث بالتاريخ المسيحي. ثم إن واضع «ألف» يؤرخ خبر توجه عبد الله باشا إلى مصر في 20 ذي الحجة سنة 1247، وأما «جيم» فإنه يؤرخ الخبر نفسه في 29 ذي الحجة من السنة نفسها، وبينما واضع «ألف» يؤرخ معركة حمص في 9 صفر سنة 1248، فإن واضع «جيم» يذكرها مع حوادث ربيع الأول من السنة نفسها، وفي الهامش، على خلاف عادته، يقول: إن إبراهيم باشا دخل حمص في 8 تموز نهار الأحد. كذلك نرى واضع «ألف» يقول: إن الأمراء الشهابيين ملحما وبشيرا وقاسما، توجهوا إلى إمارتهم، في 25 جمادى الأولى من سنة 1248، بين أن واضع «جيم» يجعلنا نظن أن توجههم هذا، كان بين الثاني والثامن من الشهر نفسه. أفلا يصح لنا بعد هذا الاختلاف، أن نقول إن مخطوطتنا، إنما هي مجموعة لتواريخ، لا تاريخ واحد؟
أما مؤلف القسم الأكبر من هذه المخطوطة، «جيم»، فإنه، مجهول عندنا، لا نعرف اسمه، ولا مهنته، ولا نعلم عنه شيئا، سوى ما يمكننا أن نتنسمه من أخباره في سياق كلامه عن حوادث هذه المخطوطة. فإننا لو أحصينا مثلا، جميع ما ذكره في «جيم» من الأخبار، وجدنا أن ثلثيه أو أكثر، عن لبنان والثلث الآخر عن باقي الأقطار الشامية وبر الأناضول، ولو أعدنا النظر فيما أثبته عن لبنان، وجدنا نحو ثلثيه عن دير القمر وبيت الدين، والثلث الآخر فقط عن سائر المقاطعات اللبنانية، ولو أنعمنا النظر في حوادث الدير وبيت الدين، لألفيناها أدق من غيرها وأكثر تعيينا وضبطا. نراه مثلا يؤرخ وفاة امرأة حنا الحصباني في دير القمر، وحضور المعلم بطرس كرامة من بيت الدين إلى بيته في الدير، وظهور الطاعون في البلدة نفسها، ويترك من أخباره سائر المقاطعات اللبنانية ما هو أهم منها بدرجات، ونراه يقول: «دخل إبراهيم باشا إلى بتدين في 29 أيلول بعد الظهر، حلت عساكره الظافرة في غربي سحرا الدير، عند البيادر، وأنه كان لديه خمس آليات ومدفعان وعشرون جمل جباخانه.» ويكتفي في كلامه عن بعض حوادث كسروان، بقوله: «شاع خبر» أنه صار حرب في كسروان بين عثمان باشا في عين الشقيق وأهل كسروان.
ثم نراه يشير إلى المعلم بطرس كرامة بقوله، حسب عادة أهل الدير، «المعلم»، وإلى رئيس كنيسة التلة في الدير بلفظة «الريس» فقط، ويذكر غيرهما، من أعيان سائر مقاطعات لبنان، بكامل أسمائهم. أفلا يصح لنا، بعد هذا كله، أن نقول إن المؤلف إن لم يكن لبنانيا ديرانيا، فقد كان من المقيمين في الدير أثناء وقوع الحوادث المروية في المخطوطة؟
अज्ञात पृष्ठ