وما مصطفى إلا منحة من الله لمصر، ومن يأت من عند الله للناس منحة، يأت صفيا من الشائبة، لا يجدي عليه ممنوح، ولا تمتد إليه كف بموهبة. ولقد قيل في إبان العهود الغابرة: لقد «ثبتت» بحكم القضاء نزاهته، وما درى الذين قالوا ذلك أن هذه النزاهة نزلت إلى الدنيا بحكم الله «ثابتة» ...
وأعجب ما في هذه الزعامة التي نحن بسبيل تقديرها أنها بناء شاهق من جلال الخلق، وأن قوة الخلق في جلالها وطبيعة خواصها كالحرارة والضياء والشمس والهواء، وعناصر الكون والقضاء، والسر في أنك تحس وجود أحد الناس، ولا تستشعر وجود سواه، كامن في سر الجاذبية، مبثوث في طبيعة المغناطيس، والحق هو قمة الحياة، وأسمى ذروة الوجود، والصدق في القول والإحسان في العمل هما التطبيق للحق، والمعراج إلى قمته، والإسراء إلى ذروته، وإن الطباع البشرية لتتفاوت في درجات هذين العنصرين ومبالغهما، فمن خلصت طبيعته وتطهرت فطرته، جرى من منابعه في أعلى جبال الحق، منصبا في طباع الناس وفطرهم انصباب الماء من الآنية العالية إلى الأوعية المنخفضة، ولن يستطيع في العالم شيء أن يقاوم هذه القوة المكينة في بناء الرجل العظيم؛ لأنه أبدا القوي الغالب، وأنت فقد تلقي بحجر في الفضاء فيرتفع لحظة في الطباق، ولكنه لا يلبث أن يرتد إلى الأرض لا محالة، وكذلك أنت العاجز حيال الشخصية القوية الغالبة، فمهما حاولت أن تحيلها عن طبعها وخيمها، أيأستك من محاولتك، وظلت على طبعها الذي فطرت عليه، بل إنها لتسري في كل من حولها، وتتغلغل خفية إلى أعماق أصحابها وأهلها، وترسل الحياة تدب في أفقها ووسطها، وتشع بنورها على محيطها، وتغمر الفضاء الرحيب بإحساسها، وتتخذ الوادي كله مجالا لروعتها، ومظهرا لآيتها وعظمتها. وإن النفس القوية النقية من أدران الحياة لتتحد مع الحق وتمتزج بالعدل اتحاد المغناطيس مع القطب، وتروح إزاء الذين يبصرونها أشبه شيء بجسم شفاف، صقيل الأديم، رائق الزجاجة، قائم بينهم وبين الشمس؛ فمن أراد منهم إلى الشمس سفرا، اتخذ ذلك الأديم الشفاف إليها مجازا ومعبرا.
وكذلك كان مصطفى النحاس الواسطة بيننا وبين أشرف الغايات، وكان الضمير الحي الذي به نشعر، والوجدان العام الذي به نرتبط.
وأحسب الميزان الصادق لقياس الرجل العظيم على حقيقته، وقوة شخصيته، وخطر رسالته في هذا العالم ومهمته، هو مبلغ مناوأته للحوادث، ومحاربته للزمان، واستقباله للخطوب، واضطلاعه بالنوب والمحن والشدائد، ففي ذلك جميعا يرتفع الرجل العظيم عن مستوى عامة الناس وأمثالهم؛ لأن أخوف ما يخافونه هو الزمن، وأعدى أعدائهم الدهر، وأكبر دعائهم لله النجاة من المحن، والخلاص من الأحداث الشداد، وأما العظيم فذلكم هو الذي يتخذ ظروف الزمان حاشية له تمشي في ركابه، ويرغم الأحداث على أن تظهر للناس ما بطن من خلقه وسر نفسه ولبه ومبلغ سخريته من المشاق والصعاب والعقبات.
ولقد عرفنا مصطفى النحاس يمتحن بالمحنة وهو الصابر، ويرمى بالخطب المفاجئ، وتحيط به الأزمة المباغتة؛ فلا يني يخرج منا جميعا بفوز، ولا يزال يجالدها حتى يعود من المجالدة بانتصار.
ونحن جميعا في مصر المؤمنون بحقنا، ولكن مصطفى النحاس ظل على الخطوب المترادفة أشدنا به إيمانا، حتى لقد جعل حقوق بلاده في الحرية والاستقلال فكرته التي يقضي عليها نهاره، ويسهد لها زلفا من ليله، وينام بها لمشاهدة أحلامه ومعارض رؤياه، بل لقد ظلت عنده اللغة التي يعطيها أكثر كلامه، والموضوع الذي يحشد له أكبر اعتزامه، بل لقد عاش هذه السنين كلها من أجلها ولها بكليته، ونحن قد عشنا لها بكل جزئياتنا؛ وكانت لها نفسه جميعا، ولنا بجانبها آمال نفوسنا، ومشاغل عيشنا، وهماهم حياتنا وأطماعنا.
وكذلك أعطى الزعامة مواهبها، وأدى لها واجبها، وحشد لها مطالبها، ورفرفت من فوقه روح سعد الذي اصطفاه، يطالعنا منها ومنه بقوتين: قوة الذكرى، وقوة الإيمان ... حتى أدى رسالته، وبلغ طلبته، وحقق لبلاده ما كانت تصبو إليه.
ولا يزال أمامه عمل عظيم، ومهمة خطيرة، وشأن جليل، هو استثمار ما استعاد لوطنه، وحسن القيام على ما استرد لقومه، وإنفاذ وجوه الإصلاح الذي يحتاج إليه العصر، وتوفير مقتضيات الحياة للجيل الحاضر، والبناء للأجيال القادمة، وترك أغنى التراث للمستقبل والذراري المنحدرة في مواكب الزمن وقافلة الأبد ومسيرة الحياة.
وقد يحسن أن نقدم لهذا الكتاب بفصول في تعريف الزعامة وكشف أسرار الشخصية القائدة، وتعيين مطالب العظمة وقيادة الأمم والجماهير؛ لنسير على ضياء هذه المعاني في فهم هذه الشخصية العظيمة التي يحيط بها تاريخ مصر الحديث في مرحلة الجهاد لحريتها المقدسة.
سر الزعامة
अज्ञात पृष्ठ