ولكن مصر في داخليتها عقب النصف الأول من القرن الماضي راحت تضعف، وأحوالها مضت ترتبك، وماليتها جعلت تزداد سوءا على توالي الأعوام، إذ حملت على مجاراة أوروبا واحتذاء حضارتها في نزوة من نزوات الفتون بزخارفها وزينتها؛ حتى لقد اشترت المدنية الأوروبية بالدين، وجلبت مظاهرها نسيئة، وطفرت في ذلك كله طفرة خطرة، وتناهى بها الإسراف في الزينة والتطرية حتى غرقت في الديون إلى قمتها بسرف مترفيها، واستهدفت لغائلة الاستعمار الذي كان بالمرصاد لها، يترقب الظروف المواتية لينقض عليها انقضاضا.
وكان في أوروبا دولتان تتنافسان في الاستعمار وتتزاحمان، وكلتا الدولتين تود لو تصيب مصر في حوزتها، ولكن إحداهما في محاولة سابقة قبل سنة 1807 استطاعت أن تسحق أساطيل الأخرى في مياهنا، وتضطر جيوشها التي احتلت أرضنا إلى المآب في خيبة اليائسين، وظنت المنتصرة على عدوتها أنها قد أمست قادرة على غزونا، فأرسلت إلينا حملة بحرية لاحتلال بلادنا، ولكن جيوش محمد علي الكبير هزمتها وردتها عن الإسكندرية ورشيد خائبة فاشلة.
هاتان الدولتان هما فرنسا وإنجلترا، اللتان حاولتا في بداية القرن التاسع عشر امتلاك مصر وسيادتها، فانقلبتا خاسرتين في زحمتهما وغيرتهما، ولكن بقيت كل منهما تنظر إلى مصر طمعا وأملا.
وحين جلب إسماعيل على البلاد أفانين الحضارة بركوب الدين وضخم القروض، تحفزت المتنافستان فرنسا وإنجلترا، وهما دائنتان ملحتان في طلب السداد إلى التدخل والرقابة على المالية المصرية، فكان تدخلا ثنائيا، ولم يلبث أن طغى نفوذ المراقبين الفرنسي والإنكليزي، فراحا يصرفان الأمور جميعا، ويشتركان في الوزارات، ويقيمان سلطانهما في كل ناحية.
وكانت حالة مصر في نهاية حكم إسماعيل قد بلغت أشد السوء وتناهت إلى أعظم البلاء، فكان الفلاحون - كما وصف ويلفرد بلنت حالهم قبل سنة 1882 - في أشد الضنك يومئذ وأقسى الفاقة والهون، وكان المفتش إسماعيل صديق المشهور لا يزال في أوج عزه وذروة سلطانه، وحملة القراطيس الأجانب يجأرون مطالبين بدفع الأقساط، والمجاعة على الأبواب.
وكان من الأمور النادرة يومئذ أن يرى الإنسان شخصا في الحقول معتما أو على جسده أكثر من القميص، وقد غصت الأسواق في الريف بالنساء توافين من القرى لبيع ثيابهن وحليهن الفضية للمرابين «الأروام»، إذ كان جامعو الضرائب في القرى يسيطون الناس، ويعملون في ظهورهم «الكرباج» لانتزاع الضرائب، والأيدي منها صفر خالية.
كذلك كانت الحال في نهاية حكم إسماعيل، فلما خلع وتولى الأمر توفيق وكان حاكما ضعيفا خائر العزيمة؛ تفاقم الخطب، واشتدت الضوائق، وتغلغلت الرقابة الأجنبية في التدخل وإقامة السلطان على البلاد.
وكان المصريون مرهقين يتألمون ولكن في صمت، ويعانون البلاء ولا يرفعون الصوت، ولكن الأقدار بعثت إليهم بمن يبث فيهم أول أحاسيس الثورة، ويوحي إليهم أن البلاد ليست ملكا خاصا لحاكمها، ولا هي بضيعة لواليها، ولا هم بعبدان له ولا رقيق.
كان ذلك المعلم الأول هو السيد جمال الدين الأفغاني، فقد راح ذلك الفيلسوف الحكيم الأبي يبذر بذور النهضة الفكرية في البلاد، ويتحدث إليها عن الحكم النيابي ومزاياه، ويجمع إليه التلامذة والمريدين، ويوحي إلى توفيق بالرأي الصالح والنصيحة المسددة، ولكن القنصل البريطاني المتحكم يومئذ في إرادة الوالي الجديد ما لبث أن دس على ذلك المعلم الأول، وتلميذه الكبير الشيخ محمد عبده؛ فنفى المعلم من مصر جملة، وأبعد الأستاذ الإمام - أو تلميذه المصري - إلى بلده في البحيرة وهي محلة نصر، وكان ذلك أول عقاب للكشافين الأولين الذين أقامتهم الأقدار طلائع في الثورة المصرية للحرية والاستقلال.
وفي ناحية أخرى من الحياة ظهر رجل آخر يلائمها، وقائد كبير يناسبها، ظهر أحمد عرابي في الناحية العسكرية جنديا شهما ينكر الظلم، وينفر من الجور، ويغار على قومه، ويتوجع لما أصاب بلاده من العسف والإرهاق والطغيان.
अज्ञात पृष्ठ