ولا ينقص من شأن الزعيم وقدره أن يحيط قضيته التي يجاهد لها ببعض الضوضاء والحركة والفتون؛ لكي تبدو ساحرة لافتة الأنظار مثيرة النشاط والحمية والوقدة في نفوس المقودين؛ لأن الناس إنما يرجون ذلك منه ويتوقعونه ويتلقونه بفرح وانبعاث معه وقبول.
وليس معنى هذا بلا شك أن يستخدم صفاته الشخصية ومواهبه المغناطيسية الجذابة لخدمة نفسه، واكتساب الإعجاب بشخصه، وإنما معناه أن يجعل نفسه رمزا لمثله الأعلى وقضيته.
ولا خفاء في أن الجماهير تحب أن تقاد، وأن قيادة الزعيم لهم لتبعث في أعماقهم إحساسا ما كان لينبعث وحده، لولا هذا العامل الخارجي الكبير السلطان، وإنهم ليجدون في متابعة زعامتهم التعبير المقنع الكافي لما كان يعمل في نفوسهم، ولا يجد أداة لذلك التعبير، فلا يلبثون أن يصبحوا قوة محسة خارج أنفسهم فيشعروا بأنهم وحدة حسية انسجمت واتحدت مع قوة أكبر منهم، ومن ثم تبرز وحدة المجموع كتلة متراصة يشد بعضها بعضا كالبنيان المكين.
ولا يكفي أن تحب الجماهير أن تقاد، بل تجب قيادتها وجوبا؛ فإن أكبر الخطر على بعض الزعماء أن رسالتهم تظل ذهنية فحسب، وتبقى حججا تعرض، وآراء تبسط، ونظريات تشرح، أي تعيش في أفق الفكر دون سواه؛ إذ المشاهد أن أمثال هذه الرسالات تخمد وشيكا، وتبرد ويعاجلها الفناء؛ لأن الناس إنما يتحركون بتحرك مشاعرهم، وتجيش حماستهم بمس النواحي العاطفية العميقة الأغوار في طباعهم، وإن للقوة والنشاط لسريانا من الزعيم إلى نفوس الناس وقلوبهم، وسلطانا عظيما على الأرواح، فإذا ما استطاع فرد أن يستخدم هذه القوى في إكساب قضيته هذه الفتنة العاطفية، واجتذاب الجماهير إليها بهذا التأثير؛ فهو الزعيم الحكيم الذي يعرف فن القيادة والسلطان.
وليس العمل وحده يكفي بالنسبة للزعامة، ولكن ينبغي إبرازه في مظهر السمو والتمام والإجادة والإتقان، فقد أثر عن العالم لويس باستور أنه في شبابه كان في إمكانه أن يدخل الامتحان، إذ كان الرابع عشر في الترتيب خلال السنة الدراسية، ولكنه لم يشأ أن يدخل الامتحان قائلا إن عمله لم يكن من الإحسان والإجادة بدرجة كافية، فأرجأ ذلك إلى العام التالي، وقد وصل ترتيبه في التقدم إلى الرابع بعد الرابع عشر؛ وذلك لأنه لم يشأ أن يقنع بمجرد المرور في الامتحان.
إن قولنا نحن «هذا يكفي» رضوانا منا بتأدية عمل ما، لا يصلح شعارا للزعماء؛ إذ يجب أن يكون مبدأهم مواصلة العمل والانكماش فيه، حتى يبلغوا به درجة الكمال ومرتبة التمام.
وهذا يستتبع وجوب العناية والتدقيق، وهما من خواص الزعامة والذين يتطلعون إلى قمتها العالية، كما أن النشاط قد يظهر في المداومة والانتظام؛ فقد لبث الفيلسوف هربرت اسبنسر عدة سنين لا يستطيع بسبب صحته أن يشتغل أكثر من ساعة واحدة في اليوم، ولكنه مع ذلك تمكن من إخراج مقدار عجيب مدهش من المؤلفات في تلك الفترة من السنين.
والجلد على العمل وقوة احتمال الدأب والكد من صفات الزعامة وخواص الزعماء، وهي خلة تابعة لقوة النشاط والحيوية الزاخرة فيهم، والبنية القوية المكينة لديهم، وقد قيل عن نابليون إنه إنما نجح في حروبه وفاز في معاركه بفضل شبابه وصحته، ووفرة حيويته، ومقدرته على احتمال المجهود البدني احتمالا يجاوز كل الحدود، حتى لقد كان يركب جواده فيظل فوق صهوته يوما كاملا، وينام عندما يريد النوم في غير غلبة للنعاس عليه، وقد أوتي معدة تأكل أي شيء وتهضم أي طعام.
ويروى عن مصطفى كمال - أتاتورك - أنه ظل يشتغل ثماني وأربعين ساعة بلا انقطاع في وضع ملخص لمشروع نهضة تركيا الحديثة، حتى لقد جعل يستبدل سكرتيرا بآخر كلما أعياه الجهد وأضناه الاستمرار، بينما ظل هو بنشاطه العجيب الذي بدأ العمل به، بل بتلك القوة الزاخرة الماثلة الحاضرة التي تجلى بها في معركة سقارية المشهورة الخالدة في التاريخ.
مصطفى كمال - زعيم تركيا الحديثة.
अज्ञात पृष्ठ