وهل للاجتماع من انتظام لولا تنوع الطبقات وتنوع الكفاءات؟ وهل تبدو طلائع المدنية بلا تقسيم العمل طبقا لقابلية أفراد وجماعات ينجحون في فن ويرسبون في فن آخر؟ وأنى لنا العلماء والفلاسفة والفنانون والأبطال والاختصاصيون في كل صنعة لولا التميز والاختلاف؟ فلو أبدنا التنوع في أصوات الخليقة بحذف درجات السلم الموسيقي السبع أبدنا فن الموسيقى بحذافيره، وما بقي لحاسة سمعنا سوى نغمة تطرد الاستمرار على وتيرة فردة. ولو لاشينا الألوان السبعة من التحليل الطيفي فقد الشعاع خواصه وانتهت بنا واحدية اللون إلى الظلام. ولكن في الظلام نفسه درجات لأنه محبوك الطرفين بالشروق والغروب. أليس أن الشفق غير الغلس، وأن هذا وذاك غير انتصاف الليل الأدهم؟
ليس أمامنا سوى الكثرة والتعدد عندما نفتح أنظارنا على الكون فنرى الكواكب متألقة في فضاء يحتويها، ونرى الماء واليابسة، والجبال والوهاد، والأشجار والصخور، والمروج المخصبات والصحاري القاحلات، فضلا عن صنوف الحيوان، ثم لا نلبث أن نرد جميع هذه المظاهر إلى أصول أو أنواع كبرى ثلاثة، هي: النوع الجمادي، والنوع النباتي، والنوع الحيواني الذي يتناهى ارتقاء ودقة في الإنسان المدرك المرغم على تمثيل دوره في مأساة الوجود؛ لأنه جزء من هذا الوجود، وتسري عليه جميع نواميسه إن راضيا وإن كارها.
وكما أن الحياة الجمادية في دورها الهيولي كتلة عظمى لم ينمقها التكييف صورا وأشكالا، كذلك البشر في همجيتهم كل متماثل لا تنظمهم المراتب ولا كبير منهم ولا صغير؛ وهذا شأن بعض القبائل المتوحشة في أفريقيا وبين هنود أمريكا إلى أيامنا؛ هم يعيشون جماعات صغيرة ولا شاغل لهم غير ما يشغل الحيوان الأعجم. إلا أن لكثير من فصائل الحيوان فروقا اجتماعية؛ فعندها الملكية المطلقة، والأرستقراطية، وثوروية تتطلع إلى الهدم، وغيرها يطلب المساواة، وبالجملة فإن قضيتها الاجتماعية تكاد تشبه مثيلتها عند النوع البشري. وقد تسهل مراقبة هذه الفروق بين حيوان المنازل، كالنمل - مثلا - الذي يظهر عنده تقسيم العمل ظهورا تاما؛ فمن أعضائه العامل المنتج، ومنها المحارب المدافع، ومنها العبد الرقيق، وبعض العشائر تغزو بعضها فتقهرها وتستعبدها، إنما تعاملها برفق ولين. •••
ابتدأ دور تكوين الشعوب بانتشارها قبائل يتقارب منها الجوار بتقارب الأصل، ولكل قبيلة وسائلها الحيوية في موارد موطنها الطبيعية، التي هي بدورها ربت في أعضاء القبيلة ذكاء ومهارة موافقين لاستخدامها؛ فاصطنعوا لأنفسهم تلك الأدوات الحجرية والفخارية، واخترعوا القوس والنشاب، وآلات حرث الأرض وطريقة فلاحتها، واكتشفوا النار ووسيلة إضرامها، وكانوا يشتركون في استعمال هذه الأدوات والآلات عند الحاجة لأنها ملك الجميع الذي كان يعمل له كل فرد تحت مراقبة زعماء أكفاء، ويضمن له مقابل تعبه السكن والقوت والكساء في حالتها الأولى؛ فينجلي من هذا أن الاشتراكية سبقت كل نظام آخر في حياة البشر. ومع أن هذه الاشتراكية مشوبة بخلل كثير إلا أنها حسنة بالنظر إلى زمنها، ولأنها أول خطوة في عالم النظام والتدريب. وقد لاحت فيها أول بارقة من بوارق النبوغ الذي سيكشف أسرار الطبيعة ويتغلب على عناصرها في العصور التاليات.
تطورت حياة القبائل قليلا ونمت مدارك الأفراد فيها؛ فاتجهت تدريجيا نحو غاية واحدة وهم لا يعلمون. فتلك التي قطنت المروج اقتنت الغنم والخيل بعد تأنيسها، ونظمت القطعان للانتفاع بخيراتها من حليب وما يتأتى منه في حياتها، ومن جلد وصوف بعد أن تنفق، فتوفر لديها من ذلك ثروة طائلة. فطمعت في توسيع فلاحتها طلبا لثروة أعظم، وكان ذلك سببا لاختلاف القبائل فيما بينها على مسألة الحدود؛ فقامت المناوشات والمعارك، وانتصر هذا واندحر ذاك، فشعر الغالب لأول مرة بنشوة «السيادة»، ونهبت القبيلة المغلوبة وضم أعضاؤها إلى القبيلة الغالبة. إلا أنهم كانوا يحسون بفرق بين الجماعتين، وبكآبة مقابلة لنشوة «السائد»، ولم تكن تلك سوى كآبة «المسود»؛ وهذا منشأ الأوتوقراطية والرق.
وجرى مثل ذلك تقريبا في الأودية المخصبة؛ حيث عنيت القبائل بزراعة صنوف النبات والأشجار. والخوف من غارات القبائل المجاورة دفعهم إلى انتخاب زعماء حربيين يهيئون خطوط الدفاع إزاء هجمات العدو، فارتفع هؤلاء الزعماء - مع الوقت - إلى درجة سادة يسيرون الفلاحين ويتقاضونهم بدل الأرض التي يستغلونها، ويفرضون عليهم الضرائب، إلى أن أنشئوا الرق في أملاكهم من سلائب العدو وغنائم الحروب.
كذلك عند مصب الأنهار؛ فإن القرصان استوطنوا الشواطئ ليسهلوا العلاقات بين الفلاحين وقبائل الجبال، ولما تبينوا رعب الفلاحين ورغبتهم في صد الغارات عن حياتهم الهادئة نظموا قوة حربية، وانقضوا كالصاعقة على الضعفاء فسادوهم، وانقلب الأحرار عبيدا.
تم ما يشبه هذا بين القبائل القديمة يقودها جماعات وأفرادا ذلك الشعور العريق في قلب الإنسان، وهو الطمع في السيادة والسعي إلى التفوق. وسرعان ما عثروا على عماد السيادة وهو الملك، أو رأس المال كما يسمونه بلغة هذا العصر. وهذا الملك لم يكن ليتأتى إلا من الذكاء والمهارة، أو الامتياز بصفة أو كفاءة خاصة؛ فأخذوا يمتلكون الأراضي ويحشدون الثروة من المواد المنظور إليها كثروة في ذلك الحين. وكان ذلك الفصل الأول من تاريخ الاقتصاد البشري الدائر كله حول ذلك المحور الرهيب الذي يدعى الملك. فالحصول على الملك والاحتفاظ به من جهة، والرغبة في نزعه من جهة أخرى سببت هذا العراك المالي والاجتماعي الذي لا ينتهي؛ فكون الأرستقراطية والعبودية، وسبب المجازر والفظائع، ولأجله شبت الحروب، ونشبت الثورات، ودكت الحصون ودمرت أجمل آثار العمران، وتشكلت الأحزاب العديدة؛ فهذه ديمقراطية، وهذه جمهورية، وتلك اشتراكية ، وغيرها فوضوية. ومنها القائل بتمتع الفرد بأملاكه، ومنها المرتئي جعل الملك مشاعا للجميع، ومنها الضاحك من كل حزب بتفجر القنابل وهدم الصروح وإزهاق الأرواح. وقد أدى التزاحم والتقاتل إلى انتشار الأقوام، فسعوا في الأرض يروجون تجارتهم ويكثرون أرباحهم ليحفظوا لهم المكانة والوجاهة في جماعتهم. وتوطد نظام الوراثة لأن السيد العظيم كان يشرك أولاده في إدارة الأملاك؛ فيتمرن عادة الولد البكر على فن الإدارة والحكم، وينتهي إليه حق الإرث الأكبر. •••
وبدهي أن الأب كان يعامل أفراد عيلته كمعاملة زعيمه له، فإن ظلمه ظلمهم، وإن أنصفه كان لهم منصفا. وكذا تكونت الأرستقراطية في داخل الأسرة في حين كانت تتكون في الجماعة أو في الدولة؛ فكانت الأرستقراطية أو الأشراف يشمل عميد الأسرة ووالديه، ويليهم أعضاء الأسرة الآخرون، وتلي هذه درجة الخدم أحرارا وعبيدا. فهاك بلاد اليونان مثلا في زمنها الأقدم، أي العهد الملكي المطلق؛ حيث تجد طبقة مؤلفة من جميع رؤساء الأسر، وهم في الغالب نبلاء كالملك نفسه، وينتسبون للآلهة مثله، ويحملون لقب «ملك»؛ لذلك يذكر هوميرس ملوكا كثيرين في مدينة واحدة، يجتمعون لدى الملك ليسدوا إليه النصح في شئون الدولة أو ليسنوا له إرادتهم. وكانت الطبقة الثانية من ذوي القربى لأولئك الزعماء، وهم أرستقراطيون ولادة وحقوقا، يملكون الأراضي أحرارا أو يتمتعون بنتاج أراضي الأسرة المشتركة. وإن لم يكونوا يحضرون اجتماع الملوك فإنهم كانوا أعضاء جمعية أبناء الوطن العمومية. وخضوعهم الوحيد في امتثالهم لكبير الأسرة بينا هذا لم يكن ليمتثل لغير الملك. وتؤلف الطبقة الثالثة من خدم البيت المنقسمين إلى عبيد وإلى معتوقين، وعدد هذه الطبقة قليل لأن العمل اليدوي لم يكن محتقرا، ولم يكن أبناء «الملوك» ليترفعوا عن فلاحة الأرض ورعي المواشي. وكان هناك طبقة أخرى تحوي من لم يكن يخص أسرة كبرى من أهل الصنائع الدنيا والعمال والشحاذين وقطاع الطرق وأمثالهم.
وتعينت مع الزمن الفروق الاجتماعية واكتسبت كل من الطبقات صفات تنسب إليها وعيوبا خاصة بها. وتجبرت الطبقات العليا في سماواتها الوهمية وحسبت نفسها من طينة مختلفة عن طينة الآخرين، لها من ألقابها وثروتها وامتيازاتها ما يفتح لها أبواب الألوهية على مصراعيها. ونما الإدراك ونور الشخصية في الطبقات الأخرى شيئا فشيئا حتى وصلنا إلى حيث نحن اليوم؛ إذ لا بد بين البشر من تبادل المنفعة والتضحية، فإذا انتفع قوم دون أن يضحوا شيئا كانوا مغتصبين ظالمين، وإذا كانوا كثيري التفادي قليلي الانتفاع كانوا مظلومين مهضومي الحقوق. ولئن كمنت المصلحة الذاتية وراء جميع الأعمال فهذه المصلحة - أو الأنانية - موجودة في جميع أجزاء الكون كأنها عنصر جوهري لحفظ الوجود.
अज्ञात पृष्ठ