ولكن أيعني الاختفاء الفناء؟ ترى ألم يبقوا عاملين سرا في الروسيا وفي مختلف البلدان بعد انسحابهم من ميدان الإرهاب العلني؟ ألم يكن لهم ولو يد خفية تجهيزية في الانقلاب الأعظم الذي لم تستجل منه بعد العوامل الكثيرة المشتبكة؟
منذ نصف قرن تقريبا كتب محرض كبير من محرضي الروس - وأعني به هرزن الذي توفي في باريس - كتب يقول ما معناه: «إن مطلب الروسيا هو مطلب أوروبا بأسرها؛ الثورة الاجتماعية. غير أن أوروبا التي نفدت حيويتها في نهضتين عززت بهما تاريخها لا تعيش الآن إلا بعلاقتها بالماضي الذي تتعثر فيه أنى توجهت؛ فلن تصطلح حتى يصلحها أحد بلدين؛ فإما ولايات أمريكا المتحدة، وإما الروسيا التي دخلت حديثا في ميدان التاريخ، والمستقبل لهذه حتما لأنها طليقة من التقاليد ولم تنم بعد النمو الموافق لطبيعتها، ولسوف تغتنم الفرص لإظهار ما عندها من القوى الفتية والمقدرة المدهشة فيبتدئ فيها الإصلاح والتعديل.»
من ذا يعرف لهرزن هذا الرأي ولا يحسبه نبوءة بعد الانقلاب البلشفيكي؟ لست لأزعم أن البلشفية أصلحت العالم، ولكنها من الحول والتهديد بحيث قبلت أن تفاوضنا وتتعاهد معها الحكومات الأخرى ومنها الملكية المحافظة. وكيف لا يجيء بمثل هذه النبوءة من وقف على طبيعة الشعب الروسي وممكناته المتنوعة المكنونة؟ أذكر أني حضرت خلال الصيف المنصرم في كازينو سان استفانو حفلة خيرية لمساعدة المهاجرين الروس، وقد تشكل جوق رجال منهم لينشدوا بلغتهم بعض الأناشيد القومية. من ذا يستطيع التعبير عما تلازب في ذلك الإنشاد من جموح وشكيمة، وفاعلية وانفعال، وغم وذل ونصر باهر؟ من ذا يستطيع وصف تلك الوجوه يبدو فيها تارة الخشوع والتوسل، وطورا العتو والوعيد؟ تهب من أصواتها الأعاصير وتنفجر الصيحات، فيتزلزل المكان وتكاد تخر الجدران، فيدربها ترنيم هادئ على وتيرة واحدة كله حزن وتجلد وخضوع . ولا تلبث الريح الزعزعان أن تعود إلى الصعق والعصف الشديد ممثلة هدير البحار، وولولة العناصر، ووعورة المنحدرات، ورعب الآفاق الجوفاء. ولعلي أدركت في تلك الساعة - بل في لحظة من تلك الساعة - قوة النفس السلافية المصطخبة الصاخة، ولعلي فهمت في تلك اللحظة من الاضطرابات الثوروية والحدة البلشفية والأهوال النهلستية ما لا تشرحه المجلدات. وقد يكون أننا في تلك اللمحات السريعة نسبر من غور النفس ما لا نصل إليه عن طريق الاستقراء والتدليل. •••
كلا، ليس المتفائلون بالمغبونين ولا المتشائمون بالمتعسفين؛ فإن كل جماعة عكفت على جانب من الفطرة البشرية الكثيرة التناقض والتنوع. ألا ترى أن ذاك القائد الذي لا يأبه لمشهد الأشلاء يغمى عليه إذا شم رائحة الجبن، وذاك المحارب الذي اعتاد النوم على الصخور والحصى يأرق إذا تاهت وريقة ورد على أنسجة فراشه الوثير، وذلك المحرض الذي لا يرتوي إلا بدم الأبرياء يقضي ضحية امرأة لعوب مثل غامبتا ولاسال وغيرهما. ومن لا يذكر وقفة إمبراطور ألمانيا على مرتفع ينظر إلى ساحة القتال في غد معركة كبيرة، وما وقعت عيناه على الخراب والقتلى حتى هطلت دموعه قائلا: «لم أرد هذا!» فدعت صحف الحلفاء تلك الدموع ب «دموع التمساح». ولكنها ربما كانت دموعا صادقة كما صدقت بعدها حملات الألمان على أراضي بلجيكا وفرنسا؛ لأن التناقض في الطبيعة ولأن الحرب هي الحرب. هي صورة الحياة في أشد الهيجان والحدة فالصراع صارم لجوج. وإن أنت تمهلت رحمة بعدوك سبقك هو إلى الفتك بك دون رحمة ولا تمهل!
اجتمعت بعد الصلح بكاهن توفر فيه الصلاح والذكاء والعلم، كان حارب على خط النار ونال الميداليات والأوسمة. وإذ قلت له إنما كنت أتأثر له بنوع خاص بين أخبار الحرب هو خبر التطاعن بالسلاح الأبيض؛ ابتسم وأخذ يصف لي لذة الطعن والتجريح عندما تخترق الحربة جسم العدو، وأن من ذاق هذه اللذة مرة أو مرتين لا يستطيع الإمساك عن البحث عنها بهوس في المعارك غير مبال بالخطر. وزاد بما يؤيد الرأي القديم، وهو أن الإنسان إن لم يكن له من الدين أو من الأخلاق الفردية أو من القانون وازع وتمكن من أخيه، فالضواري دونه فظاعة وحيلة في ابتداع أساليب التعذيب، ليس للدفاع عن نفسه أو للانتقام والتشفي فحسب، بل أحيانا للذة القسوة والإيلام، أو لمجرد اللهو وقتل الوقت. وإن أكبر آفات الحرب المشروعة في نظره هي إطلاق تلك الغريزة الوحشية في الإنسان، وتشجيعه على إرضائها وتشديدها بمختلف صنوف التشجيع.
إن أهل المذاهب التدميرية يريدون للجميع ما حرم على الأكثرين؛ فهم ككل اختصاصي لا يرون من الأشياء سوى نقطة واحدة يحسبون بها الخلاص وبدونها الهلاك، والغاية عندهم تبرر الواسطة، وقد يوجد بينهم الثوروي الفاضل المدفوع بعاطفة حب الإنسانية؛ فتكون الأحوال وحدها مسئولة عن حدته، وعما يأتيه أو يشير بإتيانه من الجرائم؛ لأن من الناس الصلاح لا خوفا ولا طمعا بل بنزوعهم الفطري إلى الصلاح نزوع الموسيقي إلى الموسيقى والشاعر إلى الشعر، والرياضي إلى الرياضيات. ولكن أولئك أقلية صغيرة هي خميرة الدهور، والأكثرية الساحقة تحتاج إلى قانون يلجمها ويهذبها. إن الأنانية مصدر كل عمل، ولا يعقل أن ينفع المرء ويجاهد لمصلحة الآخرين دون أن يفكر في مصلحته الشخصية. وعندما يهتدي إلى ذلك الموضع الحساس من حياته فكثيرا ما يجاهد لنفسه باسم الجمهور؛ ذلك لأن الحسد يجاور الحاجة في الإنسان، وكما أن في قلبه جوعا إلى التودد والإعزاز وتوقا إلى أن يكون محبا محبوبا، ففيه كذلك قوة كبيرة للكره والتنافس؛ فقد يتمرد ويشكو ويثور لأنه مظلوم يطلب حقه، وقد يفعل أيضا لأنه خامل تلهبه الغيرة ولا يستطيع الوصول إلى مرتبة من هو فوقه، فيجرب المشاغبة والنقض والحرق والتشنيع، فإن نال بغيته فذاك، وإلا فقد حرم غريمه من النعمة؛ وذاك في النفس المنتقمة سرور كبير. وحتى بين المتآمرين على الهدم ترى كلا يشد الحبل إلى جهته.
حسن أن نعطف على التعساء وأن نتوجع للفواجع التي تمرر حياة الآخرين وحياتنا أيضا. حسن وواجب أن نسعى كل في بابه لإسعاد إخواننا وتحرير أنفسنا، على شريطة أن نعرف الطبيعة البشرية ونلم بكيفية معالجتها؛ إذ لا منفعة بحسن النية إذا هي قرنت بالجهل؛ فمرض الولد وسوء أخلاقه كثيرا ما ينتج عن حب الوالدة الجاهلة، وحب الدين مع التعصب أشعل المحرقات وأجرى الدماء، وحب الوطنية والإنسانية عند روبسبير وسواه جز أعناق النساء والأطفال والشبان والشيوخ. فهل جنت الإنسانية والوطنية والعقائد من وراء ذلك رقيا خصوصا؟
ذلك هو الإنسان. وتعاليم الأديان الكبرى السبعة لم تصقل منه بعد عشرات الدهور غير القشرة الخارجية. ونظرة إلى أحوال العالم ترينا كبائر الطمع والحسد والنهب والتضليل حبا بالأذى وطلبا للسيادة سواء بين الأفراد والأفراد، والجماعات والشعوب، والأحزاب والدول. وإن كان هناك من يحب الانزواء والمسالمة بفطرته فمن ذا يكفي الناس شر الناس؟ من ذا يكفي العقلاء شر المتطاولين إن لم يكن النظام وممثلوه؟ أي نظام؟ النظام الاجتماعي المقارب لنظام الطبيعة! فإن عنصر الحياة نفسه تدفق وانتظام معا، وإذا تعذر تعريف نوع النظام فهذا لا ينفي أن استبداد الفرد الواحد يؤثر على استبداد الجميع بالجميع. •••
أعترف بضعف هذا المنطق ووهن هذه الحجة إزاء إغارات الساخطين، وأعترف بضرورة الثورات أحيانا؛ ففي السلم لا تجرؤ الأفراد على العمل مهما رثت الأنظمة وبليت، وبعض المشاكل الاجتماعية لا يحل بغير هجمات الكواسر، كما أن بعض الأمراض المزمنة لا يشفى بغير العمليات الجراحية؛ فعند وضع دعائم المستقبل على أنقاض الماضي لا بد من قوة أولئك العتاة ووحشيتهم التي لا تتأثر لدموع النساء، ولا تخجل بضرب الفئوس.
تأتي الأزمات فترى الأمة نفسها عند هوة فاغرة؛ فينصح الحكماء والعقلاء بالرجوع إلى الوراء والسير بتبصر حول حرف اللجة، ولكن المجموع يتدافع هدادا كالبحر فيقتحم الحواجز والسدود، وتقع منه الصفوف الأولى فتملأ الهاوية ويسير الباقون فوق الجثث. والإنسانية غير ضنينة بأبنائها لأن قواها غير متناهية.
अज्ञात पृष्ठ