मुरुर फी अर्द हना
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
शैलियों
فبكى الراهب المسكين وقال: كل ما قلته حق أيها المأمور، «خطيتي عظيمة»، ولكن مسألة «التلصص» من خلف السياج أنت غلطان فيها، فاعف عني وارحمني.
فقال المأمور: لا رحمة الآن، انزلوا عليه أيها الجنود. فنزلوا عليه بالقضبان المحمية خمس جلدات، حتى فقد رشده وحملوه إلى الداخل بحالة تعيسة، فليعتبر الرهبان من هذا القصاص، وليعلموا أنهم وجدوا لحمل أثقال البشر، لا لتكثير الصلاة وترديدها كالببغاء، بدون أن يعلموا مضامينها ومقاصدها السامية، كنت أود ألا أرى هذا القصاص الذي وقع على راهب من أولاد وطني، الذين أحبهم وأعتبر دعوتهم الشريفة، ولكن ما العمل وقد قدر لي أن أبقى مكسور الخاطر في تلك الدنيا وفي هذه. •••
وساد السكوت برهة من الزمن، ثم خرق هذا السكوت صوت المأمور بقوله: أحضروا المجرم إلى هنا. فحالا أحضر شخص تلوح على محياه علائم الرزانة والهدوء، وأول ما وقع نظري عليه عرفته، وقلت لحنوش: أليس هذا الرجل أحد متصرفي جبل لبنان؟ قال: نعم، ومن أين لك معرفته؟ قلت: أعرفه عندما كنت في العالم الأول. ثم أشار علي بالسكوت فسكت.
ولما وقف المتصرف بين يدي المأمور فاتحه بقوله: إن ما استوجب قصاصك الآن هو خيانتك لوظيفتك، وعدم قيامك بالواجب نحو ذلك الجبل المقدس، فقد أفسدت فيه، وارتشيت، واستبددت، وعسفت، وكنت تجعل الحق باطلا والباطل حقا، كنت كأحد جواسيس الأستانة تشي بمن تريد أن تلحق به ضررا من سكان لبنان، وكنت تنم برؤسائه أنهم يتظاهرون بالميل إلى الدولة تظاهرا ويميلون في الباطن إلى دول أوروبا، كنت تفعل كل هذا غير خائف من توبيخ الضمير ولا من غضب الله.
ثم أمر الجنود بأن يجلدوه 70 جلدة بقضبان الانتقام، فصرخ المتصرف قائلا: تصبر أيها المأمور ولا تعجل علي بهذا الحكم القاسي، أمهلني لأدافع عن نفسي، فإني أعلم أنني بريء مما اتهمتني به، وسينظر سيدي ذلك متى سمح لي بالكلام.
فلما رأى المأمور تواضع الرجل وخضوعه، سمح له بالدفاع عن نفسه.
فقال المتصرف: أمرت أيها المأمور الجليل بمجازاتي ومقاصتي بناء على ما تراءى لك من أنني المسبب تأخر لبنان، وأنني وحدي المرتشي الخائن وظيفتي وذمتي، وأن كل ما حصل في لبنان في أيامي من الفوضى في الأحكام، وما أنتجته هذه الفوضى من تزعزع أركان العدالة فيه أنا المسئول عنه، مع أن الواقع بخلاف ذلك. إن خوفي من هذا القصاص المخيف المرعب الذي أمرت به يجعلني أن أبوح بكل شيء؛ لأبرئ نفسي وأرفع عن عاتقي تلك الأوزار والذنوب التي رميتني بها.
أنت تعلم يا حضرة المأمور العادل أن الوظائف في حكومتنا لا تنال بالأهلية والاستحقاق، بل بالمحسوبية والتوصيات والرشوة، ولما انتهت مدة سلفي المتصرف «فلان»، سعيت بوسائط عديدة منها محلل ومنها محرم، وأهمها وعودي للبعض بالمال الكثير بعد نوال الوظيفة على سبيل الرشوة وإن تكن دينا، وغير ذلك مما لا لزوم لذكره الآن، حتى حصلت على هذه الوظيفة، التي كنت أسمع أن الذي ينالها يسعد إلى آخر يوم من حياته؛ لأن المتصرف في ذلك الجبل الجميل كالسلطان في الأستانة، مطلق التصرف، يفعل ما يشاء، ومن جملة الوسائط التي استعملتها والتي أعترف بها أمامك أني جعلت نفسي لاتينيا، مع أنني كنت غير لاتيني، أو بالحري كنت على لا شيء؛ لأنه من الواجب - كما لا يخفى - أن يكون متصرف لبنان لاتينيا، ولو اقتضى الأمر أن يكون المتصرف يهوديا لما كنت تأخرت عن أن أجعل نفسي كذلك لكي أنال الوظيفة.
ولما كان تعيين المتصرف الذي يقدمه الباب العالي أولا لسفراء دول الغرب كفرنسا وإنكلترا وروسيا وإيطاليا، موقوفا على قبول هؤلاء ورضاهم، جعلت همي بعد ترشيحي لهذه الوظيفة إرضاء هؤلاء السفراء، واستعملت ما استطعته من السياسة والدهاء، ولما كنت أزور سفير روسيا كنت أعده بأنني سأسير في ذلك الجبل على ما يوافق نفوذ روسيا ومصلحتها؛ لأن روسيا هي صديقة دولتنا الأبدية القرار، فيصدق السفير كلامي ويمد إلي يد المساعدة لتعييني، ومثل ذلك كنت أفعل مع باقي السفراء، حتى أحوز على رضاء الجميع، وأتخلص من المعارضة؛ لأنه كثيرا ما كان يحصل في مثل هذا الوقت اختلاف ما بين السفراء على تعيين المتصرف؛ لأن كلا منهم يسعى ليجعل المتصرف منفذا لمصالح دولته، غير مهتم لصالح ذلك الجبل الذي تعهدت الدول بحمايته وحفظ استقلاله.
وفي اليوم الذي تم فيه تعييني متصرفا على لبنان باتفاق السفراء مع الباب العالي، أنعمت الحضرة السلطانية على عبدها المطيع ...
अज्ञात पृष्ठ