وفي كتاب وصايا الملوك قال لهم في وصيته لما حضروا: قد أسمعكم الداعي، ولزمتكم الحجة، وأنهى فيكم الأمر جده الرجي فليس أحد أعظم رزية، ولا في أمره بلية ممن ضيع اليقين، وغره الأمل، وإنما البقاء بعد الفناء، وقد ورثنا من كان قبلنا، وسيرثنا من كان بعدنا، وقد حان الرحيل من محل زائل، وظل مائل، وقد أظلنا زمن فاحش، وخطب جليل، فأصلحوا ما تقدمون عليه، وارضوا بالباقي خلفا عن الفاني، وأجملوا في طلب الرزق، واحتملوا المصائب فبالاحتساب تستجلبوا النعماء، واستديموا الكرامة بالشكر، قبل النقلة وانتقال النعم، والأيام دول، وإنما أنتم فيها نهب للمصائب، والمعاطب. فانتهوا ودعوا عنكم المذاهب في هذه الدنيا الغرورة المنقطعة عن أهلها. ففي كل جرعاء شرف، ومع كل كلمة غصص، ولا تنالوا نعمة إلا بفراق أخرى. فأنتم الخلف بعد السلف، تفنيكم الدهور والأيام، وأنتم الحتوف على أنفسكم. في معايشكم أسباب مناياكم.لا يمنعكم شيء منها، ولا يغنيكم شيء فيها، في كل سبب منكم صريع.
وهذان الليل والنهار لا يرفعان شيئا إلا وضعاه، وهما بتفريق ما جمعتم جديران.
أيها الناس: اطلبوا الخير ووليه، واحذروا الشر ووليه، واعلموا أن خيرا من الخير فاعله، وأن شرا من الشر فاعله. فلما مات عمرو بن عامر لم تزل العرب تحفظ وصيته الذي أوصى بها في قصيدة شعر لم نذكرها وتعمل بها وتجري أمورها عليها، وتوصي بها في الجاهلية والإسلام، ولها في ذلك أشعار تتناشدها العرب في مجالسها ومحافلها، وفي ملاقاة الأعداء وإكرام الضيف، وحياطة المستجير، ودفع المعتدي.
وذكر في وصايا الملوك أن قصي بن عامر وهو أبو خزاعة وصى بنيه فقال لهم: يا بني: إن الرائد لا يكذب أهله، والعالم لا يستحسن جعله، يا بني إن الحكم زرع في القلوب، ومثلها كمثل الحب في الأرض مهما زرعت في أرض كريمة نما نباتها، وزكا حصادها، ومهما زرعت في الأرض الكذابة السبخة خبث نباتها، ولم يزك حصادها. هذا لتعلموا أن الطيب لا يقبل إلا طيبا، ولا ينمو الطيب إلا عند مثله.
يا بني: اجهدوا في خمسة أشياء بها تعزوا وتستقروا: اجتهدوا في إماطة العدو ونصرة الصديق، وإكرام الضيف، واصطناع العشيرة، وحماية المستجير، وبلوغ ما أمل. فبذلك آمركم، وعما يخالفه أنهاكم، وذكروا أن خبر إخراج خزاعة جرها من مكة حرسها الله تعالى حفظا لوصية أبيهم قصي، عملوا بها حتى استولوا على البيت دون جرهم، ونفوا جرهما عن مكة إلى الأصدار، ويقال إن بقايا جرهم إلى اليوم. وذكروا إن عمرو بن عامر الخزاعي وصى بنيه: كعبا وعديا ومسعدا فقال شعرا. وذكروا أن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن عامر وهو أبو الأوس والخزرج أقبل على بنيه وهو يقول شعرا. وذكر في وصايا الملوك أن الأوس والخزرج خفضا جميع ما أوصاهما به أبوهما ثعلبة، وثبتا عليه، وكذلك أولادهما من بعدهما، ولم يزل طلبهم العز والأمر الذي يسودون به غيرهم من العرب إلى ظهور النبي محمد ﷺ فكان منهم ما كان من النصرة والجهاد دونه، والوقوف في وجه كافة العرب.
ثم ذكر أن جفنة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أقبل على بنيه فقال لهم: يا بني تنافسوا في المكارم، وتجنبوا ما يعدو بكم عنها، فإني أخالكم دون الناس ملوكا، ولا يكون الملك ملكا حتى يكون منصفا عادلا، وللأموال باذلا، ويكون شجاعا حكيما، عالما لبيبا، حليما غشوما ولا ظلوما، ولقد رأيتكم يا بني وفيكم هذه الخصال التي عددتها لكم، ثم وأيم الله أعرفكم بها دون الناس، ولقد بشرت بملككم قبل أن تولدوا، فياليت من شهدني من أعمامي يومئذ وأخوالي كائنا إلى يومي هذا.
وجفنة أول من ملك الشام من غسان وإليه تنسب ملوك بني غسان الذين ذكرهم حسان بن ثابت بقوله:
لله عصبة نادمتهم ... يوما بجّلق في الزمان الأول
1 / 27