मुन्किद
المنقذ: قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
शैलियों
جذبتني الرسالة السابعة - وهي سيرة حياة أفلاطون في أواخر العقد السابع من عمره - في تلك الأيام التي كنت فيها مشغولا بالتغيير الجذري والحرية والعدالة، وبالتفكير في كتابة سيرة حياتي التي لم تكتب حتى الآن ... وترجمت الرسالة إلى العربية عن الطبعتين الألمانية والإنجليزية؛ إذ لم يساعدني الحظ على التوصل للأصل اليوناني أثناء وجودي وعملي في اليمن. وقد تصور بعض الأصدقاء أن هذا الكتاب مجرد هامش أو حاشية على الرسالة السابعة التي انطلقت منها، لكن الواقع أنهما شيئان منفصلان ومستقلان كل منهما بنفسه.
1
وبالرغم من أن الكتاب يعتمد على الرسالة السابعة، فإنه - كذلك - محاولة لعرض شاعري موجز لفلسفة أفلاطون السياسية بوجه خاص.
أما الدافع المحرك والقلب النابض لهذا العرض فهو حلم أفلاطون بالتغيير الثوري، ومشروعه المفصل عن دولته المثالية (كما صوره في الجمهورية، ثم عدل هذه الصورة في آخر محاوراته وهي القوانين).
وكان من الطبيعي أن تكون سيرة حياته المختصرة التي كتبها بعد زيارتيه الأخيرتين والفاشلتين لجزيرة صقلية؛ كان من الطبيعي أن تكون هي الأساس الذي بنيت عليه للتعبير عن حلم التغيير وعن الفلسفة المرتبطة به ارتباط الجسد بالرأس المفكر، والشرايين بالقلب الذي يدفق فيها نبض الدماء ...
كانت الرسالة السابعة التي يصف فيها أفلاطون جزءا من طريقه إلى الفلسفة، وزهده في المشاركة في السياسة العملية في عصره، ومغامراته الجسور والفاشلة لتحقيق حلمه في الواقع الحي في صقلية - كانت، كما سبق القول، هي نقطة الانطلاق. ولقد بدا الطريق واضحا لعينيه منذ بداية حياته؛ إذ ولد لأسرة أثينية عريقة، وكان الاشتغال بالحياة السياسية في انتظاره. غير أن الأزمة الطاحنة التي مرت بها أثينا في شبابه الباكر، مع لقائه بسقراط وملازمته له، قد تكفلا بتغيير جميع خططه، فأحرق - فيما يحكى - كل مخطوطات تراجيدياته ونذر نفسه للفلسفة. وحكم أثينا، التي خرجت مهزومة ومخذولة من الحرب البيلوبينيزية (431-404ق.م) نظام أقامته إسبرطة من ثلاثين طاغية. وكان من هؤلاء الطغاة - بجانب كرتياس وخارميدس المتحدثين الرئيسيين في المحاورة المعروفة بالاسم الأخير عن التبصر أو التدبر - اثنان من أقرب أقارب أفلاطون، حاولا عبثا مع زملائهم أن يجذبوا كلا من أفلاطون وسقراط لمشاركتهم في الحكم، لكن الحكم كان فظيعا مرعبا، وبدت كل الدساتير الفاسدة التي سبقته في أثينا أو في مدن اليونان أشبه بالماضي الذهبي أو الفردوس الضائع ... ثم رجع الديمقراطيون إلى الحكم، لكن حظهم من الديمقراطية اقتصر على الاسم. فقد أدانوا معلمه وصديقه وأعدل الناس وأعزهم عنده بتهم ملفقة وخسيسة، ثم قدموه للمحاكمة الشهيرة وقضوا عليه بالإعدام ونفذوه بالفعل، ولا بد أن شخصية سقراط - الذي لازمه أفلاطون على مدى ثمانية أعوام قبل الحكم عليه بشرب السم - قد جعلت فيلسوفنا الشاب ينفض يديه من كل الدساتير البائسة التي عاصرها في صباه وشبابه، ويقتنع من صميم كيانه بأن إنقاذ المدينة (البوليس) لن يتحقق إلا عن طريق الفلسفة التي سترسم خطة المدينة المثالية التي تسودها العدالة والسعادة ويحكمها القانون الذي يكفل الحقوق المتساوية للجميع. صحيح أنه تخلى عن كل رغبة في الحكم، لكنه لم يتخل أبدا عن توجهه السياسي والعلمي لإنقاذ المدينة، وهو التوجه الذي ملأ عليه حياته وتعليماته، وأشعل لهيب الحماس في فكره وفعله وبصيرته حتى نهاية حياته (حوالي سنة 347ق.م).
وقصة محاولاته لتحقيق حلمه «اليوتوبي » في سيراقوزة - عاصمة جزيرة صقلية - قصة معروفة؛ فقد دفعه الغضب والاشمئزاز مما جرى لأستاذه إلى السفر لزيارة أصدقائه الفيثاغوريين في جنوب إيطاليا وإلى مصر. وفي حوالي الأربعين من عمره (387ق.م) قام برحلته الأولى إلى سيراقوزة والتقى بطاغيتها ديونيزيوس الأول. عجز أفلاطون عن التأثير على هذا الملك - الذي لقنه الكراهية الأبدية لكل طاغية وكل طغيان! - ولكنه نجح في كسب صداقة ديون - شقيق إحدى زوجات الطاغية ومستشاره - الذي توهج حماسا للفلسفة، وأخذ يترقب الفرصة المناسبة لتحقيق حلم أفلاطون على أرض الجزيرة التي لم تهدأ فيها الاضطرابات والصراعات بين الإغريق والقرطاجيين. ولا بد أن طاغية سيراقوزة قد نظر نظرة الشك والتوجس لما سمعه من أفلاطون أو سمعه عنه من ضرورة حكم الفلاسفة؛ لذلك استشعر خطر الفيلسوف وصمم على إبعاده عن المدينة، ولا ندري مدى صدق القصة التي يرويها ديوجينيس اللائرسي - مؤرخ الفلسفة من القرن الثالث الميلادي في كتابه الرائع عن حياة وآراء مشاهير الفلاسفة - عن أن ملك الجزيرة التعسة قد بلغ به السخط على الفيلسوف إلى حد الأمر ببيعه في سوق الرقيق في «إيجينا» القريبة من أثينا، ولولا تدخل الصدقة الحسنة وافتداء أحد أصدقائه له لبيع الفيلسوف كالعبيد ...
لم تثنه التجربة القاسية عن قصده، ولم يكف عن الاقتناع بوحدة النظر والعمل، والفكر والممارسة، ولم يتردد عن المغامرة من جديد في سبيل الحلم ...
كان قد رجع إلى وطنه وأسس الأكاديمية في سنة 387ق.م بالقرب من أثينا، وأخذ يلم شتات أفكاره وتجاربه وتأملاته عن السياسة العملية التي تهتدي بالعقل، وعن نظام التربية الذي سيكون النخبة الحاكمة والحكيمة، وعن التساؤل عن مفهوم العدالة والدولة العادلة والحاكم الحكيم أو الملك الفيلسوف، وذلك على النحو الذي فصله في محاورته الكبرى «البوليتايا» أو الجمهورية.
ولم تستطع الصدمة التي تلقاها من طاغية سيراقوزة أن تصرفه عن الهدف العملي من فلسفته، الذي يستحق التضحية حتى بالحياة؛ لكيلا يقال عنه - في يوم من الأيام - إنه كان رجل أحلام وكلام ونظريات ... لذلك لم يتردد طويلا عن القيام برحلتيه التاليتين في عامي 367 و361ق.م على الترتيب، ولم يثنه فشلهما الذريع - إلى حد تهديده بالاغتيال لولا تدخل أصدقائه الفيثاغوريين في الوقت المناسب! - عن مواصلة التفكير والكتابة عن دولته المثالية، كما نرى في آخر محاوراته وهي القوانين (لا سيما في الكتاب العاشر الذي يلخص اتجاهه السياسي والطبيعي أو الكوني كله) التي حاول فيها أن يكون أكثر واقعية وقربا من الطبيعة البشرية، وإن لم ينجح في أن يكون أقل تسلطية وشمولية، أو أقل تجاهلا للحرية الفردية والديمقراطية ... ولست في حاجة لرواية قصة هاتين الرحلتين الفاشلتين اللتين أقنعتاه بالعكوف على نشاطه التعليمي في الأكاديمية؛ فالرسالة السابعة تروي قصتهما بالتفصيل، كما أن نشاطه في الأكاديمية يؤكد - بما فيه الكفاية - إصراره على أن فلسفته وتلاميذه لا يحملان مسئولية ذلك الفشل، وإنما الواقع العملي والسياسي - في بلده أثينا وخارجها - هو الذي حال دون تحقيق حلم الإنقاذ العسير - وإن آمن على الدوام بأنه غير مستحيل! - ترى هل عوضه قليلا عن فشله أن يشجع تلاميذه على البحث المستمر (كما نرى في تشجيعه للرياضي النابغة ثيآيتيتوس الذي أطلق اسمه على واحدة من أهم محاوراته، ولتلميذه أويديموس الكنيدي في بحوثه عن المسارات المتجانسة للكواكب، ثم لأنبغ «أبناء رأسه» وهو أرسطو الذي انضم للأكاديمية سنة 367ق.م ونمى البحث المنطقي والبحث العلمي والتجريبي فيها)؟!
अज्ञात पृष्ठ