मुन्किद
المنقذ: قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
शैलियों
ويعود للحديث عن ديون. عن الآمال التي عقدها على ديونيزيوس الذي تولى الحكم بعد موت أبيه، ودعوته لأفلاطون الذي استجاب لندائه حبا له وأملا في تحقيق أفكاره النظرية في الواقع. وتتم الزيارة الثانية، وتتتابع الأحداث المفاجئة فينفى ديون، ويكتشف استعداده (أي ديونيزيوس) للسير على درب الفلسفة. ولا يوضح أفلاطون طبيعة هذه التجربة، بل يكتفي بالإشارة إلى مشقة الطريق، وحاجة الممتحن إلى تغيير حياته من أساسها ليصبح أهلا للتفلسف. وقد أخفق ديونيزيوس في هذا الامتحان، وظهر عجزه الواضح من الحوار الوحيد الذي أجراه معه. ويتطرق الحديث إلى الكتاب الذي سمع بأن ديونيزيوس وضعه عن مذهبه. وعبثا يحاول أفلاطون الاستخفاف بهذه المسألة. فنغمة السخط والاحتقار تتردد في كل كلمة يقولها عنها: «وبعد ذلك بلغني أنه كتب رسالة من تأليفه وتعبر عن مذهبه لا عما سمعه. ولكنني لا أعرف شيئا مؤكدا في هذا الشأن». هل أراد هذا المؤلف الصغير أن يستغل ما شاع بين اليونانيين عن المودة التي بينهما لكي يشوه صورته لديهم ويثير سخريتهم على مذهبه؟ أليس غدرا لا نظير له من تلميذ دعي لم يستمع إلى المعلم إلا مرة واحدة، ومع ذلك واتته الجرأة على تقديم آرائه للناس في ثوب بال مسكين؟ وترتفع أمواج الغضب في قلب الفيلسوف المهان فيصرخ باعترافات جديدة من فوق مركبه المحطم. لم تكن هذه هي أول مرة تصيبه فيها مثل هذه المصيبة. ولكن الكتب التي نشرها هؤلاء المؤلفون المزعومون تشهد بأنهم لا يفهمون من الفلسفة شيئا. والدليل على ذلك - وهو دليل يفاجئ به القارئ - أنه لم ينشر طوال حياته شيئا عنها.
صحيح أنه لا ينكر محاوراته، ولكن هذه المحاورات لا تتناول شيئا عنها. وهو - للأسف - لا يوضح لنا ما يقصده بذلك. فهل نزه «المشكلات الأولى والأخيرة» عن لعنة الكتابة؟ هل أراد أن يحميها من الالتفاف في أكفان الكلمات الجامدة وتوابيت الحروف الباردة؟ أكان كل ما دونه من محاورات مجرد لعب وتسلية؟ حقا، ذلك كان مراده. فالفلسفة تتأبى على الكلمة المدونة التي تتسع لغيرها من العلوم؛ لأن حقيقتها «تنبثق في النفس فجأة بعد مشاركة طويلة وتعاون مستمر في العكوف عليها كما ينبثق نور يقدحه نبض شرارة، وهنالك ينمو في أعماق النفس ويحيا ...» ولو تصور أن نشر مؤلفاته يمكن أن ينفع الناس، فهل كان يتردد عن تقديم مذهب ينقذهم من تعاستهم ويبين لهم حقائق الأشياء؟ هل كان يمكن أن يقوم في حياته بعمل أجمل من هذا العمل؟ ولكنه مقتنع بأن هذا لن يجديهم شيئا، بل ربما جر عليهم الأذى والاضطراب؛ لأن القلة القليلة منهم هي التي ستفهمه على الوجه الصحيح.
ولعل أفلاطون لم يتصور أن الناس ستقتنع بهذه الحجة، أو لعله هو نفسه لم يقتنع بها! فهو يقدم الآن «حجة لا يمكن دحضها»، وهي حجة تستغرق الفصل العسير المشهور عن نظريته في المعرفة. ويبدو هذا الفصل غريبا في رسالة موجهة إلى أناس يطلبون منه الرأي والمشورة في موقفهم العسكري الحرج. كما يبدو غريبا لانقطاع السياق والتحول إلى مسألة فلسفية لا مكان لها فيه. وقد ذهب إلى هذا الرأي معظم المتشككين في أصالة الرسالة، ولم يتردد بعض المؤيدين لصحتها من نسبة هذا الجزء إلى كاتب متأخر أراد أن يثبت اطلاعه على نظرية المثل
4 ... ولكن الذي يعرف هدف أفلاطون الحقيقي من كتابة الرسالة.
وهو - كما قلت - تبرير زيارته لصقلية والدفاع عن فلسفته - لن يستبعد عليه أن يتطرق إلى نظرية المثل التي ظلت شغله الشاغل في أواخر حياته، ولم يتوقف عن شرحها وإثباتها والدفاع عنها في محاوراته المتأخرة. لقد كانت أساس فلسفته وقمتها العالية في وقت واحد. ولهذا ليس غريبا أن تحتوي على جانب «مقدس» يحميه من تطفل الكثرة الجاهلة. وليس غريبا أن يشهد أنبغ تلاميذه «أرسطو» بأنها كانت تزداد غموضا على غموض، وتلتف في دروسه الشفهية الأخيرة في ثوب رياضي عسير.
يؤكد أفلاطون أنه أعلن من قبل عن هذا «اللوجوس الحق». ولا بد أنه يقصد بذلك محاضراته الشفهية؛ لأن كل تفاصيل هذا الجزء المتعلق بنظرية المعرفة مثبتة في محاوراته المكتوبة، ومع ذلك فإن هذه التفاصيل لا تغني عنه؛ لأنه - في مجموعه - شيء نادر وفريد، ولا بد أن أفلاطون وجد مشقة في تدوينه؛ إذ يصفه في النهاية بأنه «أسطورة» «وتحسس للطريق» وكأنه لحن وقعه العازف الماهر فجأة وخرج به عن مجرى النهر المتدفق بالألحان.
تحيرنا العبارات الأولى من هذا الفصل؛ فهي تضع أدوات المعرفة أو سبلها المختلفة في صف واحد مع موضوع المعرفة نفسه. إنه سلم من الكيفيات المتفاوتة الدرجة. فأدناها وأقلها قيمة هو الاسم، يتلوه التعريف وبعدهما تأتي النسخة «التمثل أو النموذج» ثم المعرفة وفي نهاية السلم يشمخ المثال الذي تتطلع إلى معرفته. وإذا كان التعريف في محاورات أفلاطون المبكرة هو الذي يفتح لنا طريق المعرفة، فإن وضعه له هنا تحت النسخة أو التمثل لا يعني أنه يحط من شأنه.
وينتقل أفلاطون إلى مثال يبين ما يقصده بالأدوات الثلاث الأولى للمعرفة. أما الأداة الرابعة فيقول إنها تتعلق بهذه الأمور، أي بالدرجات الدنيا التي يوضحها المثل المضروب. ونحس في هذا الموضوع أن تجربة المعلم تفرض نفسها عليه، وكأنه يتحدث عن خبرته مع تلاميذه في الأكاديمية ومدى استيعابهم لأدوات المعرفة الثلاث. وينقسم المستوى الرابع إلى مستويات أخرى تندرج تحته، وهي بدورها مستويات متفاوتة، ولكنها جميعا تدور داخل النفس. ويقدم لنا مثلا جديدا يعلق عليه بقوله: «وإذا لم يتيسر لهم الأمور الأربعة الأولى مجتمعة، فلن يتمكن الإنسان أبدا من معرفة الخامس معرفة تامة. ومعنى هذا، بعبارة أخرى، أن المعرفة - بجانب الأدوات الثلاث الأخرى - هي التي تتيح معرفة الموضوع الخامس، إن صح أن المثال موضوع، أو أن طريقة معرفتنا له يمكن أن تسمى معرفة؛ «فهي لعمري شيء غير محدد، لا يمكن أن تنقله الكلمة أو تصفه، شيء أقرب للنظر أو الرؤية»، لا بل إن من شأنه أنه لا يكاد يرى (الجمهورية 517ب، 7). والحق أن أفلاطون لا يقدم لنا معنى محددا لمفهومه عن المعرفة؛ فهناك المعرفة التي تدل على تمثل النفس لأدوات المعرفة الثلاث، وإن تكن في نفس الوقت مجرد إعداد لمعرفة الخامسة، أي إن فعل المعرفة ينقسم في واقع الأمر إلى فعلين: أحدهما تمهيدي والآخر نهائي. والأهم من هذا كله أن أدوات المعرفة الأربع تعاني من ضعف مشترك. وهذا يذكرنا بمحاورات الشباب التي يعتب فيها سقراط على محدثيه؛ لأنهم يبحثون دائما عن الكيفية «الخير». ويخرج أفلاطون عن دور الناقد للمعرفة ليتحدث عن الكتاب المزعوم الذي أفضى به إلى الاستطراد في كلامه عن المعرفة، فيؤكد ما سبق أن قرره من سوء الظن بالكلمة والحرف المكتوب، وإيمانه بأن «المشكلات الأخيرة» تستعصي على التعبير والتدوين، وكل ما يكتبه الكاتب عنها لا يعدو أن يكون ظلا باهتا للتجربة الحية الكامنة في أجمل مكان من أعماقه:
ولهذا فلن يخاطر عاقل بوضع أفكاره في ثوب هذه اللغة الضعيفة، والأولى من ذلك ألا يخاطر بوضعها في ذلك الشكل الجامد الذي يميز كل ما يكتب بالحروف.
ويوضح أفلاطون قوله بمثال الدائرة. فكل الدوائر المحسوسة ظلال ونسخ باهتة من الدائرة في ذاتها. وكل أدوات المعرفة بما فيها المعرفة نفسها - لا تقدم للنفس المتطلعة للحقيقة إلا الصفات والكيفيات، سواء في صورة كلمات - بالاسم والتعريف - أو في صورة مادية محسوسة - بالتمثل أو النسخة - ومعنى هذا أنها لا تقدم للنفس إلا ما لا تريده! ومن السهل إثبات الخداع والضلال في مثل هذه المعرفة. وليس هذا بالأمر الخطير حين نكون بصدد موضوعات عادية لا نلتمس فيها الحقيقة المطلقة: «عندئذ لا نضع أنفسنا موضع سخرية السائلين، حتى ولو كانت لدى هؤلاء القدرة على نقد أدوات المعرفة الأربع وإثبات خطئها»، أما إذا أصر السائل على الحصول على جواب شاف عن «الخامس» - أي عن المثال لا عن الصفة والكيفية - فسوف يخرج من الحلبة منتصرا بعد أن يكتشف عجزنا عن تقديم مثل هذا الجواب. فليس الطريق إلى المثال سهلا ولا معبدا، ولا التفلسف - وهو الطريق الصاعد إليه - ميسورا لكل إنسان. لا بد إذا من محاولة الأدوات الأربع ومعاودة المحاولة - عندئذ يمكنها أن تهيئ للخير ولمعرفة الخير»، ولن يتيسر هذا أيضا بغير الجهد والصبر والعناء! لأن النفس الإلهية هي وحدها التي يمكن أن تقترب من المثال الإلهي. والشرط الأكبر هو هذا الخير. فإذا غاب عن إنسان - كما هو حال الكثرة من الناس - فلن يقدر «لينكويس» نفسه أن يعلمه الرؤية (ولينكويس هو زرقاء اليمامة في أساطير الإغريق!)، هذه «الخيرية» تقوم على الطبع الخير والموهبة. فإذا توفرتا لإنسان أمكنه أن يتفلسف. ولا شك أن هذا الإنسان نادر الوجود؛ فمعظم الناس قد تلفت نفوسهم، وامتلأت باللوم والغدر والحسد والغباء. قد يتعلم هؤلاء شيئا عن أدوات المعرفة الأربع، وقد يقرءون عنها أو يكتبون فيها آلاف الصفحات. ولكن هذا لن يغير من الحقيقة شيئا، والحقيقة أنهم أبعد الناس عن روح الفلسفة؛ لأنها لا تمد جذورها في طباع غريبة عنها، كما أن النفس التي تخلو من الخير والجمال لن تشعر بصلة القرابة بمثال الخير والجمال. ولن يزيد الذكاء وقوة الذاكرة أصحاب النفوس المطبوعة على الشر إلا قدرة على الشر. ولهذا كان أحد تعريفات الفلسفة عند أفلاطون هو هذا التعريف المشهور، التشبه بالله بقدر الطاقة، وهل يسعى إلى التشبيه إلا الشبيه؟ هل يحس صلة القرابة بالخير إلا خير؟ يكفي أن تتلفت حولك لتتأكد من صدق أفلاطون، فكم من مشتغل بالفلسفة أو العلم لم يزده ذلك إلا قدرة على الشر والغدر والتطاول والإيذاء!
अज्ञात पृष्ठ