मुन्किद
المنقذ: قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
शैलियों
واستجاب المعلم للدعوة، انتصرت إرادة الحلم على مخاوف التردد: «فقد كنت الآن بحاجة إلى إقناع إنسان واحد بآرائي لكي أحقق كل الخير الذي قصدت إليه.» وما قيمة آرائه عن القانون والحكم إن لم توضع موضع التنفيذ في الواقع الملموس؟ فليقدم إذا على المخاطرة «حتى لا أخجل من نفسي، أو أبدو في عيني مجرد رجل نظري لا يحسن إلا الكلمة.» حتى لا يتهم بنسيان الواجب أو خذلان الحق، سيكون عليه أن يتخلى عن عمله، يهجر أخلص أبنائه، ليعيش ببلد يتحكم فيه الطغيان، أبغض شيء عنده، لكن هذا أهون من أن يوصم يوما بالجبن وإيثار الراحة ...
ويقدم على المخاطرة. ويفاجأ ببلاط يموج بالدسائس والمؤامرات على ديون. ثم يفاجأ بعد وصوله بقليل بنفي صديقه وتلميذه من صقلية. وتسري الشائعات بأنه تآمر معه على خلع الملك الشاب عن العرش، وأنهما أرادا أن يوقعاه في سحر الفلسفة لينشغل عن مهام الحكم. هل يمكن أن يبقى في هذا الجو الخانق؟ هل يملك شيئا بعد رحيل صديقه؟ أيجرب أن يهدي الملك الأخرق لطريق الحكمة؟ لكن الشر استشرى فيه وفي حاشيته. وسهام الحكمة تتكسر فوق صخور الغلظة، بل إن الهمس يردد أن ديونيزيوس قتله، أو أمر بقتله، فليطلب إذنا بالعودة. ويتردد الملك؛ فسمعته مرهونة ببقاء الفيلسوف ببلاطه. وتوسل إليه أن يبقى، وتوسلات الطغاة تهديد ووعيد. ووافق الفيلسوف على أمل أن تخالجه الرغبة في الحياة الفلسفية. بكنه ظل يقاوم إلى النهاية، بل أمر بأن يحبس الفيلسوف في برج لا يخرج منه إلا بإذنه. وأخيرا وافق أن يرحل على وعد بأن يرجع عندما يستقر السلام في الجزيرة ويعود ديون من المنفي.
وتمر ستة أعوام، ويعود أفلاطون إلى صقلية سنة 361ق.م. فقد ألح عليه ديونيزيوس أن يقبل دعوته، ووعد بأن ينفذ العهد الذي قطعه على نفسه بتسوية شئون ديون. كيف استجاب الفيلسوف على الرغم من سوء ظنه بالطاغية؟ ألم تكفه مرارة التجربة السابقة؟ يبدو أنه لم يشأ أن يضيع الفرصة الأخيرة لهداية ديونيزيوس إلى الطريق، ولم يفقد الأمل في مساعدة ديون، ولم يقطع كل رجاء في «إنقاذ» سكان الجزيرة والعمل على سيادة القانون وإقامة نظام عادل يحل محل الحكم المستبد. ارتفع شعاع الأمل الأخير فوق ظلمات الشك والريبة، لكن ماذا يجد أمامه؟
تتحول الزيارة إلى كارثة؛ فلم يف ديونيزيوس بوعوده، ولا استدعى ديون من منفاه، لم يدخل في حوار مع الفيلسوف إلا مرة واحدة، ومع ذلك فسوف يدعي الإحاطة بمذهبه. وتثور ثورة المرتزقة طالبين رفع أجورهم. ويتهم الفيلسوف بمساندة المتمردين. ويجد نفسه سجينا في حديقة القصر كالطائر الحبيس في قفصه، ويحاصره التهديد بالقتل من كل ناحية. ولولا شفاعة صديقه النبيل أرخيتاس لما قدرت له النجاة.
فشلت المغامرة الثالثة وخاب الأمل. تحطم الحلم على صخور الغدر والحسد واللؤم، وتهاوى في أوحال الواقع برج الفكر. ماذا يفعل؟ ها هو يرجع، ماذا في جعبته إلا المر؟ فليلزم دارا لا يدخلها الشر. وليعط صغار الطير حصاد العمر. وليزرع في الأفئدة بذور الخير، فلعل النبتة تنمو في بستان الوعي وتثمر، والقوة تسقى من ماء العلم فتزهر، في فردوس العدل، الحلم الأكبر، يتولاه راع يحكم ... ويفكر ...
مسئولية من؟ ومن الجاني ومن المجني عليه؟ أهو ديون أم ديونيزيوس ؟ أم قدر خاف بين حنايا العصر؟
إن كلامه عن ديون يفيض بالعرفان والحنان «لا تخفى منه نغمة إحساس بالذنب!» لقد استمع إليه ديون وفهم عنه، شرب من نبعه وتطهر بمائه. ربما تحمس أكثر مما ينبغي، والحماس المشبوب وراء كل علم أو إبداع أو إصلاح. لكن التطرف فيه فاسد؛ لأنه بداية طريق لا منهج سير، كما أن الانفعال شيء غريب على عالم العقل والنظام والتدبير ...
كان ديون طيب القلب، تسقط كلمات الفلسفة في بحيرة وجدانه فتثور وتمور، لكن قلما تلمس الموجة قمة جبل العقل. وهو يذكرنا بشخصية شاب آخر يتحمس للفلسفة كالمجنون وينفعل بها إلى حد البكاء والهياج. إنه «أبوللودور» الذي نراه في اللحظات الأخيرة من محاورة فايدون (59) ومن حياة سقراط يشهد مع أصحابه أخر فصل في حياة المعلم الكبير. فلا يكاد سقراط يضع كأس السم على فمه حتى ينفجر وحده من بين الحاضرين بالبكاء والنشيج. ويلتفت سقراط - الذي احتفظ بسخريته الحنون إلى آخر لحظة - لأحد تلاميذه ويقول عنه: «إنك تعرف هذا الشاب وتعلم طبعه!» وهو نفس أبوللودور «المجنون» الذي نراه في محاورة المأدبة (172 وما بعدها) يروي ما جرى من حديث الحب في بيت الشاعر «أجاثون». إن لقاءه بسقراط قد بدله وحوله: «كنت قبل لقائي به أهيم هنا وهناك كيفما اتفق، وكنت أتوهم أنني أصنع شيئا، بينما كنت في الحقيقة وحيدا منسيا، أتعس من أي إنسان آخر.» الناس تدعوه أبوللودور المجنون. وهو في كل مكان يحكي - في طيبة قلب - عن شعوره بالفرح والسرور كلما أمكنه أن يتكلم عن الفلسفة أو يستمع لمن يتكلم عنها. ثم لا يلبث أن يرتد إلى الحزن واليأس كلما وجد أنه لم يتوصل بعد إلى التشبه بسقراط ...
هنا وهناك تحول التلميذ وتبدل. لكنه لم يكن التحول الذي يقصده المعلم والمربي من تحويل النفس بكليتها نحو الحكمة، كلاهما طيب القلب، حسن النية، مندفع في حماسه إلى حد السذاجة والطيش، والنيات الحسنة أقصر الطرق إلى الجحيم. يصدق هذا في الأدب وفي الفلسفة، فما بالك بالواقع؟
بذل ديون كل ما في وسعه للتأثير على الأب والابن الطاغيين، أحسن الظن في الحالين فلم يتعلم مما لقي من الصدمات. ولم يقف طموح آماله عند «إنقاذ» سيراقوزة لينعم أهلها بسعادة تجل عن الوصف وتستحق أن تشرف اسمه، بل أراد أن ينقذ البشرية كلها بمجرد أن ينجح في تحقيق مثال الحاكم الحكيم والملك الفيلسوف في شخصية الطاغية. واسترسل مع الأحلام وأخذ يلح على المعلم لاغتنام الفرصة النادرة. واندفع المعلم أيضا مع حماسه حتى أفاق على الصدمة تلو الصدمة، نفي التلميذ وأبعد عن بلده، نهبت ثروته، بيعت فجأة. بعد سنين ثار لنفسه ومعلمه واغتصب الحكم، لكن أصبح طاغية أقسى من كل طغاة صقلية، وأخفق في تطبيق الحكم العادل أو إصلاح الدستور، وأخيرا ثار عليه الشعب، حتى انغرز الخنجر - بيد صديق - في أعماق القلب ...
अज्ञात पृष्ठ