(5) سورة : آل عمران آية رقم : 113 17 - حدثنا يحيى بن يحيى ، وإسحاق بن إبراهيم ، قالا : أخبرنا سفيان ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، أن النبي A قال : « لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء (1) الليل وآناء (2) النهار ، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار » وفي الباب عن أبي هريرة ، ويزيد بن الأخنس ، ولفظه : « لا تنافس بينكم إلا في اثنتين » ، فذكر مثل معناه ، وفيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قوله : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما (3) قال الحسن : الذين يمشون على الأرض هونا (4) . قال : بالوقار والسكينة : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما يقول : حلماء لا يجهلون وإن جهل عليهم حلموا ، ذلت والله الأبدان والأبصار حتى حسبهم الجاهل مرضى ، والله ما بالقوم مرض ، وأنهم لأصحاء القلوب ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ، ومنع منهم الدنيا علمهم بالآخرة . هذه أخلاقهم التي انتشروا بها في الناس وهم الذين يبتون لربهم سجدا وقياما . أسهروا والله الأعين وهضموا في الآخرة كل شيء ، والله ما تعاظم في أنفسهم شيء طلبوا به الجنة ، وقالوا حين دخلوا الجنة : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (5) ، ثم يقول : والله لقد كابدوا في الدنيا أحزانا شديدة وخوفا شديدا ، والله ما أحزنهم من أحزان الناس شيء ، أبكاهم الخوف من النار ، وأن الله لن يجمع على المؤمن خوف الدنيا وخوف الآخرة ، فعجلوا الخوف حتى تلقوا ربكم . وكان يقول : يا ابن آدم عف عن محارم الله تكن عابدا ، وارض بما قسم الله لك تكن غنيا ، وأحسن جوار من جاورك من الناس تكن مسلما ، وصاحب الناس بالذي تحب أن يصاحبوك به تكن عدلا . وإياك والضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب . إنه قد كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيرا ويبنون شديدا ويأملون بعيدا ، فأين هم ؟ أصبح جمعهم بورا ، وأصبح أملهم غرورا ، وأصبحت مساكنهم قبورا . يا ابن آدم ، إنك مرتهن بعلمك وآت على أجلك ومعروض على ربك ، فخذ مما في يديك لما بين يديك عند الموت يأتيك الخير . يا ابن آدم ، طإ الأرض بقدميك فإنها عن قليل قبرك . يا ابن آدم ، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك . يا ابن آدم ، خالط الناس وزائلهم خالطهم ببدنك وزائلهم بقلبك وعلمك . يا ابن آدم ، تحب أن تذكر بحسناتك وتكره أن تذكر بسيئاتك وتبغض على الظن وتغتم على اليقين . وكان يقول : إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها وأفضى يقينها إلى قلوبهم خشعت لله قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم ، كنت والله إذا رأيتهم رأيت قوما كأنهم رأي عين . والله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل ولكنهم جاءهم أمر عن الله فصدقوا به فنعتهم الله في القرآن أحسن نعت قال : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا . قال الحسن : والهون في كلام العرب اللين والسكينة والوقار وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال : حلماء لا يجهلون وإن جهل عليهم حلموا يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون . قال : ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ينتصبون لله على أقدامهم ويفترشون وجوههم سجدا لربهم تجري دموعهم على خدودهم فرقا من ربهم . قال الحسن لأمر ما سهروا ليلهم ولأمر ما خشعوا نهارهم . قال : الذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما قال : وكل شيء يصيب ابن آدم ثم يزول عنه فليس بغرام إنما الغرام اللازم ما دامت السموات والأرض . قال : صدق القوم والله الذي لا إله إلا هو فعملوا وأنتم تتمنون فإياكم وهذه الأماني رحمكم الله ، فإن الله لم يعط عبدا بأمنيته خيرا في دنيا ولا آخرة . وكان يقول : يا لها من موعظة لو وافقت من القلوب حياة . قال : لقد صحبت أقواما يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجدا وقياما يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم ، فمرة ركعا ومرة سجدا يناجون ربهم في فكاك رقابهم ، لم يملوا طول السهر لما خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع ، فأصبح القوم بما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين ، وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين ، فرحم الله امرأ نافسهم في مثل هذه الأعمال ولم يرض لنفسه من نفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله فإن الدنيا عن أهلها منقطعة والأعمال على أهلها مردودة . ثم يبكي حتى تبتل لحيته بالدموع وعن الأحنف بن قيس أنه كان جالسا يوما فعرضت له هذه الآية : لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون (6) . فانتبه فقال : علي بالمصحف ، لألتمس ذكري اليوم حتى أعلم مع من أنا ومن أشبه ، فنشر المصحف فمر بقوم كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون ، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (7) ، ومر بقوم : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (8) . ومر بقوم : يبيتون لربهم سجدا وقياما . ومر بقوم : ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (9) . ومر بقوم : يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . ومر بقوم : يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (10) ، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (11) . قال : فوقف ثم قال : اللهم لست أعرف نفسي ههنا ثم أخذ في السبيل الآخر . فمر بقوم : إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون . ومر بقوم : إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ومر بقوم يقال لهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين (12) . قال فوقف ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء . قال : فما زال يقلب الورق ويلتمس حتى وقع على هذه الآية : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم (13) فقال : اللهم هؤلاء وقال عمر بن ذر : لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من النوم ، قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عادة السهر وطول التهجد ، فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا الأرض بصفاح وجوههم فانتقى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة ولا ملت أبدانهم من طول العبادة ، فأصبح الفريقان ولى عنهم الليل بربح وغبن ، أصبح هؤلاء قد ملوا النوم والراحة وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعادة ، شتان ما بين الفريقين . فاعملوا أنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده فإن المغبون من غبن خير النهار والليل ، والمحروم من حرم خيرهما ، إنما جعلا سبيلا للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالا على الآخرين للغفلة عن أنفسهم ، فأحيوا أنفسكم بذكر الله . فإنما تحيى القلوب بذكر الله . كم من قائم لله في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حفرته . وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله للعابدين غدا فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله
__________
(1) آناء : أوقات وساعات
(2) الآناء : جمع إنا وأنا وإني وإنو ، وهي الساعات والأوقات
(3) سورة : الفرقان آية رقم : 64
(4) سورة : الفرقان آية رقم : 63
(5) سورة : فاطر آية رقم : 34
(6) سورة : الأنبياء آية رقم : 10
(7) سورة : الذاريات آية رقم : 17
(8) سورة : السجدة آية رقم : 16
(9) سورة : آل عمران آية رقم : 134
(10) سورة : الشورى آية رقم : 37
(11) سورة : الشورى آية رقم : 38
(12) سورة : المدثر آية رقم : 42
पृष्ठ 23