مقدمة
بقلم بروكس أتكنسن
كان رالف والدو أمرسن أول فيلسوف أمريكي الروح؛ فمع أن أمريكا قد نالت استقلالها السياسي قبل مولده باثنين وعشرين عاما، إلا أنها كانت لا تزال تستمد ثقافتها من الخارج؛ فكان كوبر يكتب طبقا لتقاليد سكوت، وواشنطن إيرفنج يكتب بأسلوب أديسون. وقد عاش أمرسن سني حداثته في عصر من عصور التوسع حينما كان الأمريكان يتقدمون غربا بأعداد وافرة لم يسبق لها مثيل، ويطبقون مبدأ الديمقراطية في عزة وحماسة. وساد الجو في كل مكان استقلال تام في الروح وفي الواقع. وأعلن الرئيس منرو هذا الاستقلال للجمهور في مبادئه عام 1823م، كما صرح كلاي بشجاعة: «إننا (أي الأمريكان) نتطلع إلى الخارج أكثر مما ينبغي ... ولنكن أمريكيين حقيقيين صادقين.»
وما حققه رجال الدولة في ميدان السياسة طبقه أمرسن في مجال الثقافة، لا بطريق العمل، ولكن بالإرشاد والتوجيه. وقد ذكر في مقدمة كتابه الأول في عام 1836م: «إن عصرنا رجعي، يعيش على الماضي، فلماذا لا تكون لنا علاقة أصيلة بالعالم؟ لماذا لا يكون لنا شعر وفلسفة يتميزان بنفاذ البصيرة لا بالتقاليد، ودين من وحي أنفسنا؟ ... دعنا نطالب بأن تكون لنا أعمال خاصة وقوانين وعبادة خاصة.» وفي خطاب جريء له في العام التالي عن «العالم الأمريكي» يقول: «لقد أطلنا الاستماع إلى آلهة الفنون الأوروبية الظريفة.» ثم نصح أمرسن العلماء المجتمعين في كمبردج أن يعيشوا ويفكروا كما يعيش ويفكر أحرار الرجال. وفي العام التالي هاجم في أحاديثه الشعائر والتقاليد الدينية. وما ذكره في هذه الأحاديث كان منفرا لكثير من الناس في بوسطن وكمبردج، حتى لقد انقضى زهاء الثلاثين عاما قبل أن تشعر جامعة هارفارد أنه رجل ليس من ورائه خطر فترده إليها.
ولم يكن ذلك راجعا إلى أن له برنامجا أو أسلوبا خاصا في التفكير ، وإنما كان أمرسن فيلسوفا شاعرا يركن إلى الإلهام أكثر مما يركن إلى العقل، وكان يدرك دائما أن محاضراته ومقالاته ينقصها الاتصال، فيتألم من أجل ذلك. وكان يعجز عن الجدل، ويتحاشى - ما استطاع ذلك - الكلام في الموضوعات ذات الأهمية الشائعة؛ لأنه كان يعتقد أن مواهبه يجب أن تتجه نحو تنوير العقل عامة؛ فقد كان رجلا حرا في روحه وعقله، وكان من الناحية الشخصية رجلا ذا صفات ممتازة، تأثيره عظيم بالغ، فأشعل عقول الرجال والنساء في العالم أجمع. كان رجلا جازما في حزم. وما دام موضوعه الأساسي هو قدرة الفرد التي لا حد لها على الإسهام في كل ما يمتد إليه الكون، فإن كتاباته ما فتئت جديدة كما كانت حينما جمعها في مشقة من الآراء الشتيتة، ومن لمحات البصيرة الزائلة. •••
ولا مراء في أنه كان رجلا ثائرا، وإن شق علينا أن ننعته بهذا الوصف؛ لأنه كان لينا ضعيفا ودودا دمث الأخلاق. وقد عاش عيشة هادئة في كنكورد بمساشوستس كأكثر المواطنين وقارا. وهو ينحدر من سلالة عريقة من رجال الدين في «نيو إنجلند». وكان أحد أفراد أسرة تميل بطبعها إلى الكهنوت؛ فقد ولد في بوسطن في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو من عام 1803، وهو ابن راعي الكنيسة الثانية وواحد من أخوة خمسة، ثم مات أبوه بعد ثماني سنوات. ومع أن أمه قد أصبحت تعول أسرة في سبيل النمو وفي ظروف مالية يائسة، إلا أنها كانت سيدة ذات إرادة قوية جدا، فصممت على تربية أبنائها، وقد أفلحت؛ فأتم أربعة منهم تعليمهم الجامعي، وكان كل واحد منهم يعاون من يتلوه وهو على أهبة الدراسة. وكانت حياة شاقة عسيرة، تركت من غير شك أثرها في صحة الأطفال؛ فمات منهم اثنان وهما لا يزالان في سن الشباب. ولم تكن صحة رالف قوية في يوم من الأيام؛ فقد ساءت إلى حد الخطر مرتين، ولم يخل أخوه الأكبر البتة من الألم والاضطراب الجثماني، ويبدو أن سلالة أسرة أمرسن لم تكن قوية البنية في عهد رالف؛ فقد مات له أخ وأخت في سن الطفولة، وأخ آخر لم ينضج عقله قط. وكان للفاقة التي منيت بها أسرة أمرسن بعد وفاة الوالد أثر سيئ بنوع خاص على أجسام عليلة.
التحق أمرسن بكلية «هارفارد» في عام 1817م وهو في الرابعة عشرة من عمره. ومع أنه كان في النصف الأعلى من فصله، إلا أنه لم يظهر امتيازا، وتخرج في عام 1821م، وظل أربع سنوات يعاون أخاه باشتغاله بالتعليم في مدرسة تكميلية للبنات في بوسطن. وبعد التعليم في المدارس في مناطق أخرى التحق بمدرسة هارفارد الدينية، غير أن ضعف رئتيه وبصره وما أصابه من روماتزم كاد يحول دون تعليمه الديني من أول الأمر، واضطر إلى قضاء شتاء بأكمله للاستشفاء في الجنوب. وبعدما أتم تعليمه في عام 1829م عين راعيا مساعدا للكنيسة الثانية حيث كان أبوه يقوم بالوعظ، وسرعان ما خلف الراعي، وبات يحمل تبعة الدائرة الدينية بأكلها. وعندئذ تزوج من «إلن تكر الكنكوردية» من نيو هامبشير، ولكنها عاشت بعد الزواج عاما ونصف العام فقط.
ولما خاب أمله في حياته المهنية، وأزعجه موت زوجته وأحد إخوته، وكان هو نفسه معتل الصحة، فقد أقلع إلى إيطاليا في الشتاء. واسترد صحته في هذه الرحلة، التي كانت حافزا لعقله؛ فقد استمتع بكنوز الفن العظمى في إيطاليا. وزار لاندر الذي أعجب بكتابته. وفي إنجلترا التقى بكولردج ووردزورث وكارليل الذين كان يهتم بمؤلفاتهم بنوع خاص. وكانت زيارته لكارليل حدثا له أهميته في حياته؛ فقد ألفاه حافزا على التفكير خفيف الظل في شخصه كما هو في مؤلفاته. وعاد إلى أمريكا معافى بعد عام، واستقر به المقام نهائيا في كنكورد حيث كان والد زوج أمه الدكتور أزرا ربلي يعيش في مانس القديمة. وسارع أمرسن إلى شراء بيت وقطعة من الأرض عن طريق بوسطن بوست، وتزوج من لديان جاكسن من أهالي بليموث، واستقر في حياة سعيدة تطورت به إلى مستقبل عظيم. وكان وقتئذ في الثانية والثلاثين من عمره. وانتهى كل ما أصابه من حرمان في طفولته وما لاقى من صراع روحي في حياته المهنية. ولبث سبعة وأربعين عاما بعد ذلك يزداد عظمة وحكمة ويضفي على العالم من فضله.
كانت كنكورد خير البلدان لأمرسن؛ لأنها كانت مدينة جميلة، يغرم أهلها بحب الطبيعة، هذا الحب الذي يكمن وراء فلسفته. وكانت لها مكانة عالية في قصة قتال أمريكا في سبيل الاستقلال؛ فقد حدثت موقعة كنكورد قريبا من مانس القديمة، وأثلج هذا التاريخ المشرق للمدينة صدر أمرسن. وكانت الحياة الاجتماعية في كنكورد كذلك فاتنة؛ فقد ضمت في حياته برنسن إلكت المدرس الملهم، وناثانيل هورثون الروائي الخجول المعتزل، وهنري ثورو فارس الطبيعة، ووليم ألري تشاننج الشاعر المحدث، ورجالا أفاضل من أمثال صمويل هور والقاضي أ. ر. هور وأدمند هوزمر المزارع صاحب العقل الراجح، وصاحب القداسة أزرا ربلي، الراعي المسيحي القوي صاحب الضمير الحي.
ولعب أمرسن دورا فعالا في حياة المدينة؛ فقد انتخب في إحدى الوظائف العامة عند أول إقامته في كنكورد، وكان عضوا في جمعية إطفاء الحريق، وكانت الدلاء الجلدية والكيس الصوفي دائما مدلاة من السلم عند المدخل الجانبي، وبالاشتراك مع جيرانه كان يكافح حرائق الغابات بأغصان الصنوبر. وفي أول عهده بالمدينة ألقى خطبة من أكثر الخطب التاريخية أهمية في عيد انقضاء مائتي عام على استعمار كنكورد. وكان بين الحين والحين يعتلي منبر الخطابة في المدينة. كما كانت معلمات مدارس الأحد يلتقين بمسز أمرسن في البهو الأمامي. وباعتباره مديرا لنادي كنكورد الأدبي عاون على إيجاد غرفة عامة للمطالعة حيث كانت الصحف والمجلات تحفظ في أكداس مرتبة. وبالمحافظة على نشاط النادي الأدبي عمل هو وثورو على تنبيه الحياة العقلية في كنكورد.
अज्ञात पृष्ठ