وفي رواية هذه الحكاية الخرافية شيء من القداسة؛ فقد نبتت من تفكير فوق إرادة الكاتب. وذلك أحسن ما عند أي كاتب؛ إذ ليس فيه شيء خاص، إنما هو شيء لا يعرفه يصدر عن كيانه، ولا يصدر عن فرط خياله. إنها صفة لا تستطيع أن تلمسها بسهولة عندما تدرس فنانا بمفرده، ولكنك تلمسها حين تدرس الكثيرين فتستخلصها وتدرك أنها روحهم أجمعين. إنني لا أريد أن أعرف «فدياس»، ولكني أريد أن أعرف عمل الإنسان في ذلك العالم الهليني القديم، فإن اسم «فدياس» وظروفه، مهما كانت ملائمة للتاريخ، تحيرنا عندما نتعرض للنقد الدقيق. علينا أن نرى ذلك الذي كان يميل الإنسان إلى فعله في فترة معينة، ولكن تدخل إرادات «فدياس» و«دانتي» و«شكسبير» - أي ذلك العضو الذي استخدمه الإنسان في تلك اللحظة - قد حال دون أدائه، أو إن شئت فقل قد وجهه وجهة أخرى.
ويسترعي أنظارنا أكثر من ذلك التعبير عن هذه الحقيقة في أمثال جميع الأمم، وهي دائما أدب العقل، أو صوت الحق المطلق دون تعديل. الأمثال - كالكتب المقدسة في كل أمة - هي محراب البديهيات؛ فإن ذلك الذي لا يسمح العالم المتراخي، المقيد بالمظاهر، للرجل الواقعي أن يقوله في كلمات من عنده، يسمح له بقوله في أمثال من غير تناقض. وقانون القوانين هذا الذي تنكره المنابر ومجالس الشيوخ والكليات تبشر به في كل ساعة وفي كل سوق وكل مصنع أسراب من الأمثال معناها صادق وموجود في كل مكان كأنها الطيور أو الذباب.
كل شيء مزدوج، هذا يقابل ذاك، دقة بدقة، والعين بالعين، والسن بالسن، والدماء بالدماء، وخطوة بخطوة، وحب بحب - أعط تعط، من يرو يرتو - يقول الإله: ادفع ثمن ما تريد يكن لك. إذا لم تغامر لا تظفر بشيء. ولسوف تؤجر تماما بقدر ما عملت، لا أكثر ولا أقل. من لا يعمل لا يأكل. من يرقب الأذى يصب به، واللعنة تنصب دائما على رأس من يستنزلها. إذا طوقت جيد عبد بسلسلة، فإن الطرف الآخر يطوق جيدك. والنصيحة السيئة تزعج الناصح بها، إنما الشيطان حمار.
هكذا كتب علينا؛ لأن الحياة كذلك، فإن قانون الطبيعة يسيطر على أعمالنا ويدفعها فوق إرادتنا . إننا نرمي إلى غاية تافهة أبعد كل البعد عن الصالح العام، ولكن أعمالنا تنخرط بجاذبية لا تقاوم في سلك واحد مع قطبي الدنيا.
إن الإنسان قد لا يتكلم ولكنه يحكم على نفسه. وبإرادته أو رغما عن إرادته، يرسم صورته لأعين رفاقه في كل كلمة. كل رأي يرتد على من ينطق به؛ فهو كالكرة ترتبط بخيط ويلقى بها إلى هدف، ولكن الطرف الآخر يبقى في جعبة الرامي. أو قل إن الرأي كصنارة الصيد يقذف بها الحوت، تحل وهي طائرة في الهواء لفافة حبال في قارب الصيد. وإذا لم تكن الصنارة صالحة، أو إذا لم تسدد رمايتها، أوشكت أن تشق ربان السفينة نصفين، أو أن تغرق القارب.
إنك لا تستطيع أن تفعل الخطأ دون أن تتحمل وزره. يقول برك: «لا يمكن أن تكون للإنسان نقطة افتخار لا يصيبه منها أذى.» إن من يتنحى عن الحياة المألوفة لا يدرك أنه يتنحى عن المتعة لكي يظفر بها. ومن يعتزل في الدين لا يدرك أنه يغلق أبواب السماء على نفسه محاولا أن يغلق الباب في وجه الآخرين. إذا عاملت الناس كبيادق الشطرنج أو دبابيس اللعب كابدت ما يكابدون. وإذا أهملت قلوبهم فقدت قلبك. إن الحواس تجعل من الناس أشياء، من النساء ومن الأطفال والفقراء. والمثل الشعبي القائل: «سوف أحصل على ما أريد من كيس نقوده أو من جلده» فلسفة صحيحة.
كل نقص في الحب والإنصاف في علاقاتنا الاجتماعية يلقى جزاءه فورا. يلقى الجزاء في الخوف. إذا وقفت من زميلي في علاقتي به موقفا بسيطا، فإني لا أجد غضاضة عندما ألقاه. إننا نلتقي كما يلتقي الماء بالماء، أو كما يختلط تياران من الهواء، في امتزاج كامل وتداخل في الطبائع. غير أننا لو انحرفنا عن البساطة، وحاولنا المناصفة، أو كان هناك خير لي ليس فيه خير لجاري، فإنه يشعر بالإساءة، ويبتعد عني بمقدار ما ابتعدت عنه. لا تبحث عيناه عن عيني بعد ذلك، وينشب بيننا الخصام وتقوم في نفسه الكراهية وفي نفسي الخوف.
كل مساوئ المجتمع القديمة ، العامة والخاصة، وكل ملك أو نفوذ جاء ظلما إنما يلقى الانتقام على صورة واحدة. الخوف يعلمنا الحكمة الكبرى، وهو رائد كل انقلاب . وهو يعلمنا شيئا واحدا، وذلك أن هناك فسادا حيثما ظهر. إنه أشبه بالحدأة أو الغراب، قد لا ترى جيدا ما يحومان حوله، إلا أنك تثق من وجود الموت والجيف الممزقة في مكان ما. إن أملاكنا هيابة، وقوانيننا هيابة، وطبقاتنا المثقفة هيابة. وقد أنذر طائر الخوف بالشر منذ آماد طويلة وقطب جبينه وتذمر من الحكومة ومن الملك، ولم يوجد ذلك الطائر الدنس هناك من غير داع. وإنما كان يشير إلى أخطاء كبرى لا بد أن يعاد فيها النظر.
ومن هذا القبيل ما نتوقعه من التغير الذي يعقب مباشرة توقف حركتنا الإرادية. كما أن الفزع من الظهيرة الخالية من السحب، وزمردة «بوليكراتس»، والرهبة التي نحسها إزاء كل فلاح، والغريزة التي تقود كل روح كريمة إلى أن تفرض على نفسها واجبات من الزهد النبيل والفضيلة التي نؤديها لغيرها، ذلك كله ذبذبة ميزان العدالة في قلب الإنسان وعقله.
يعلم المجربون من الرجال في هذه الدنيا جيدا أنه من الخير لهم أن يجزلوا العطاء أنى ساروا، وأن الإنسان كثيرا ما يدفع الثمن غاليا نظير اقتصاد ضئيل. والمدين يعاني من دينه. هل يكسب شيئا ذلك الإنسان الذي يتلقى مائة معروف ولا يصنع واحدا. وهل يكسب إن هو استعار - لتراخيه أو لمكره - أدوات جاره أو خيله أو ماله؟ في هذه الفعلة ينشأ الاعتراف المباشر بالمنفعة من ناحية، والدين من ناحية أخرى، أي ينشأ السمو والنقص في آن. وتبقى العملية في ذاكرته وذاكرة جاره. وكل عملية جديدة تغير - وفقا لطبيعتها - علاقة أحدهما بالآخر، وربما يدرك حالا أنه كان خيرا له أن يحطم عظامه من أن يركب عربة جاره، وأن «أعلى ثمن يمكن أن يدفعه للشيء هو طلبه إياه».
अज्ञात पृष्ठ