في إحدى جمحاته؟ فتراه طوال يومه مكبا على كرسوع يسراه ببنان يمناه، و«ساعته» في حجره ليعد ما تدور عليه كل «دقيقة» من ضربات قلبه: لقد استوت سبعين فالحمد لله! لقد ازدادت إلى تسعين فوا حر قلباه! لقد تدلت إلى ستين، وذلك فتور وانخذال، لقد هبطت إلى سبع وخمسين، وذلك من نذر التلاشي والانحلال! الأطباء! الأطباء! علي «بكنصلتو» ينتظم فلانا وفلانا وفلانا من كبار الأطباء! ...
ويدور البحث والفحص والتقليب، والتسمع والجس والتحليل، فيخرج من هذا كله أن الأمر لا يعدو فتورا في أعضاء الجسم يذهب بفنجان قهوة أو بجرعة شاي!
وسرعان ما ينبعث في صاحبي نشاطه، وتعود إليه نضارته وفتاء قوته، وقد يستقبل حديث المرض هنيهة فيأخذ في حديث الناس، ويتبسط إلى الصحاب بالنادرة اللطيفة، ويحاضرهم بالملحة الطريفة، وما يزال هذا شأنه حتى يرميه بابه بزائر، فإذا سقط لسانه بأن فلانا قد مات، تربد وجهه، وتتعتع لسانه، وتزايل هيكله في مجلسه، وتاهت حدقتاه في محاجرهما، وشد نفسه شدا ثم تهافت بها على الزائر يسأله: وهل مرض فلان هذا وهل شكا؟ وماذا كانت علته؟ ومتى ابتدأت شكاته؟ وما الذي كان يظهر عليه من أعراض الداء؟ وهل كان يحس وجعا؟ وفي أي موضع كان يستشعر الألم؟ وما صفة الدواء الذي كان يتناوله؟ ومن الطبيب الذي كان يعالجه؟ وهل فحص عن قلبه؟ وهل كان يعد ضرباته؟ إلخ! ...
ثم إنك لتشعر أن قد نشبت في نفس المسكين معركة هائلة بين الرجاء في الحياة وتوقع الموت كما مات فلان هذا فيكون الفوز في صدر هذه المعركة للأول، إذ تراه قد شد متنه، وأقبل يحدثك في قوة وحماسة عن صحة قلبه وسلامة سائر جوارحه، وأن جمهرة الأطباء قد أكدوا له ذلك وأقاموا عليه أبلغ البراهين وأدمغ الحجج؛ حتى لقد صح لهم أن قلبه من السلامة بحيث لا يقع مثله إلا في كل ثلاثة آلاف قلب لا يسلم واحد على علة.
ثم تكون له فترة يقبل فيها على جس نبضه، ثم تراه قد دخل في الغشية ولحقه الذهول، فزاغت عيناه، وتقلصت شفتاه، وأرعشت يداه، وجعل يطفو ويرسب في كرسيه؛ وأومأ فتطاير الخدم يطلبون الأطباء من كل مكان!
وكذلك قضى العمر إلى غايته مشغولا عن متع الحياة ومطالب الحياة بشدة الحرص على الحياة!
وقد مرض حقا وألحت عليه العلة وأيس منه أساته، وجاءني أنه لا يعد يومين، فأسرعت إلى عيادته وأنا أرجو ألا يكون قد اطلع على حقيقة علته، فيموت قبل أن يموت!
وجلست إليه فإذا هو يفطن إلى خطبه، وهو يشعر بأنه لن يطوي على ظهر الأرض يوما حتى يطويه بطنها طيا، أفرأيته من الموت كان مذعورا منخلع القلب مستطار اللب؟
كلا والله! فإني لقد رأيته وهو يستقبل الموت هادئ السعي، وادع النفس، يتجمع ليتحدث في هذه الأسباب الدائرة بين الناس، حتى يخذله لسانه، وتتخلف عنه قواه، فيرخي جفنيه ويدخل في مثل السنة؛ ثم ينتبه وعلى شفته ابتسامة عذبة أعرفها له وهو في صدر الشباب، وقد يحاول أن يدور بلسانه في ملحة أو نادرة مستطرفة فيعيى عليه الكلام، فيحاول أن يتعلق إلى شأنه بشيء بين الضحك والابتسام، ثم يعود إلى إغفاءته في غبطة ودعة وارتياح.
وظل هذا شأنه حتى دخل في الحشرجة، وفارق هذه الدنيا ورحمه الله!
अज्ञात पृष्ठ