ولقد عرض ذكر الذوق في بعض هذا الحديث، وللذوق محله غير المنكور في الشعر وفي غير الشعر، ولقد كان ينبغي أن نفصل القول فيه بعض التفصيل لولا أن طال بنا الكلام، فلنرجئ هذا إلى مقال آخر.
شوقي ...!1
بمناسبة ذكراه الثانية
لقد خرج في هذه الدنيا شعراء ما أحسب أحدا منهم كان يستطيع ألا يكون شاعرا، لقد تتصل الشاعرية بالطبع والجبلة، وليس بملك المرء أن يخرج عن جبلته وطبعه، ولست أجد مثلا أضربه لهذا الطراز من الشعراء أبلغ من أبي نواس في الغابرين، وأحمد شوقي في المحدثين، وأغلب اعتقادي أن الشاعر من هؤلاء حين ينزل عليه الشعر لا يقدر على صرفه عنه، أو حبس لسانه أو قلمه عن الجريان به، إلا برياضة ومطاولة وجهد.
هؤلاء يطلبهم الشعر أكثر مما يطلبونه، ويتغشاهم البيان أكثر مما يرتصدون له ويتجردون في إصابته.
وبحسبك أن تطالع دواوين شوقي - والحديث فيه اليوم - لتعلم أنه لو كان رزق أعظم حظ من العزم والقوة والجبروت، ما كان ليقوى على كتم شاعريته الفائضة الجياشة، وهيهات للسد بالغا ما بلغ من المتانة والمناعة أن يكف النيل عن جريانه، وأن يكبح إذا طغى من طغيانه!
تقرأ شعر شوقي، فتتعاظمك هذه الكثرة الكثيرة من فاخر الشعر وبارع الصنعة ورائع البيان، ويذهب العجب بك كل مذهب، وتروح تتساءل: أية قوة بدنية هذه التي احتملت كل هذا المجهود الفكري؟ وكيف تهيأ لهذا الرجل أن يعيش ما عاش؟!
والواقع الذي لا يتداخله الشك أن شوقي لم يكن على حظ كبير من صحة البدن، بل لقد تستطيع أن تقول إنه كان رجلا مضعوفا مختل الأعصاب من أول نشأته، فإذا طلبت السر في شأنه، فالسر كله في أنه لم يكن يجهد في قرض الشعر؛ لأنه لا يكلفه
2
ولا يتعمل كما قلت لك في طلبه، ولا يرهف في ذاك حسا ولا يحد عصبا، إنما هو الينبوع ينبثق فيجري الماء دفقا ما يحتاج إلى متح ماتح.
अज्ञात पृष्ठ