وإن أنس لا أنس أنني وصديقا لي، دخلنا «كازينو» الشاطبي أصيل يوم من أيام الصيف، فإذا الناس فيه متشرفون على الشاطئ يستقبلون الهواء، ويمتعون الأنظار بجمال البحر هناك، وإذا «فلان» جالس وحده وقد ولى البحر ظهره، فمال علي صاحبي (وهو من القضاة أيضا)، وقال لي: أتعرف لماذا يجلس «فلان» هكذا؟ قلت لا! قال: إنه يرتصد لأي قاض ليتكلم معه في «الحركة» المقبلة! فاعدل بنا عن طريقه، لا أمتعه الله بهذا الكلام!
والعجب العاجب أنك قد تسأل جمعهم عمن يرقب نصيبه منهم في تلك «الحركة»، فيجيبونك كلهم «لسه ما جاش علينا الدور»! ولقد سألت واحدا من هذا الضرب مرة: متى ترقى يا فلان؟ فدس يده في جيبه واستخرج كشفا طويلا فنظر فيه وقال: «فاضل قدامي 73 واحدا»!
وإنك لتصيب هذا الضرب من الموظفين في كل وزارة، وفي كل مصلحة تقريبا، وبحسبك أن تطوف بالأماكن العامة وقت الغروب لترى للمتحدثين في «الحركة» من موظفي كل منها مجلسا معقودا.
ولعل لإخواننا هؤلاء بعض العذر أو كله، فإنهم إنما يتقرون مستقبلهم، ويتعجلون الأيام لينتهوا منها إلى عليا المناصب، ولكن ما عذر هؤلاء الذين أفضي إليك بحديثهم؟
من جيراننا كان المرحوم أحمد ثابت بك، (والد صديقنا الأستاذ الدكتور محجوب ثابت)، وكان أوجه من في تلك الرقعة من رجال الإدارة المحالين إلى المعاش، فكانت داره مثابة إخوانه المحالين على المعاش، تنتظمهم «المنظرة» في الشتاء، وتنعقد حلقتهم على باب الدار في الصيف، وفيهم من قوست السنون ظهره، وفيهم من كف بصره، وفيهم من أبطل الفالج نصفه، وإنهم ليعقدون مجلسهم من الساعة التاسعة صباحا حتى يقوموا لغدائهم، ثم يستأنفوا شأنه إذا جاء العصر، فلا يبرحون إلا إذا تنصف الليل، وعلى صاحب الدار الإكرام لهم بالقهوة «السادة»! والقهوة «بسكر شوية»، أو السوبياء والليموناده في الصيف، أو القرفة أو الخلنجان إذا كان الشتاء، أما حديثهم كله في مصبحهم وممساهم، وفي غدوهم وآصالهم، فمن لون واحد، هو الكلام في الحركة الإدارية، ودار ثابت بك على مذهبي في غدوي ورواحي، وما جزت بهم مرة من يوم نشأت إلا سمعت قائلهم: وعبد الغني شاكر؟ فيبادره آخر: في ميت غمر، وخليل نايل في قنا، وحدايه؟ في طنطا، وقطري؟ في أسيوط، وعبد العزيز يحيى؟ في بلبيس، وإبراهيم نبيه؟ إلخ، إلخ لقد حفظت، في صدر سني، وعلى الرغم مني، أسماء جميع المديرين، ووكلاء المديريات، والمحافظين، والحكمدارين ومأموري المراكز، ومواضعهم وما كان وما يكون من تردد كل منهم بين مختلف المناصب في مختلف المواطن!
ولولا أن ألوى الردى بالمرحوم ثابت بك لكان الهتاف الآن بأسماء صادق يونس، وعبد السلام الشاذلي، وأحمد فهمي حسين، وأحمد زكي مصطفى إلخ ... وسبحان من أودع كل قلب ما شغله!
فن الوظيفة؟
تدور في هذه الأيام كلمة «الفن»، تنفض نفضا على كل من له عرق في تصوير أو نحت أو غناء أو تمثيل، إذ هناك «فن» أدق وأبرع، وأجدى على «الفنان» وأنفع، ومع هذا لم يعرض له النقدة، ولا هتفوا به في مقالاتهم، وإن شئت أن تعرفه، فهو «فن الوظيفة».
و«فن الوظيفة»هذا - شرح الله صدرك، وأطال عمرك ، ورفع في المناصب قدرك - فن واسع الأطراف، رحب الأكناف، مؤصل الأصول، مفصل الفصول، مقعد القواعد، مبسط الأمثلة والشواهد، لا يحذقه الفتى إلا بعد الجهد وشدة المطاولة، وسهر الليالي في التفكير والتدبير، وتمرين الأعضاء في كيفية القعود والقيام، والسكوت والكلام، والدخول والخروج، والهبوط والعروج، والتشييع والاستقبال، والخنوع والاستبسال، والانقباض والتبسيط، والرضا والتسخط، وإرهاف الأنف حتى يشم الريح على أميال، ويدرك مدى تحول الجو من حال إلى حال.
وهذا «الفن» الجليل لا يكفي في تحصيله والتبريز فيه كل هذا؛ بل لا بد من التهيؤ والاستعداد، وأن يكون للمرء طبيعة وموهبة، شأن سائر الفنون الجميلة!
अज्ञात पृष्ठ